Ana içeriğe atla

  
 
Print Friendly and PDF

شرح عقيدة أبي إسحاق

  

                         بسم الله الرحمن الرحيم      

            وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه.

 

                                           [مقدمة]

[1ظ]  الحمد لله المتعالي عن الشريك والنظير, المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يختلج به ضمير, مكون العالم من غير شيء بلا معين ولا ظهير, ومصرفهم على ما أراد وعلم من غير ترديد ولا تفكير, ومبتعث الرسل إليهم من غير حاجة دعته ولا فكر نكير. وصلى الله على محمد البشير النذير وعلى آله أهل الفضل والتطهير.

أما بعد؛ فقد سألني أخ في الله تعالى تتعين في الدين إجابته شرح عقيدة الإمام أبي إسحاق الإسفرايني رضي الله عنه فأجبته إلى ذلك, وإن كنت لا أرى نفسي لذلك أهلا لما رجوت لي وله من الثواب الجزيل, إذ أصح القصد إلى الله الجليل. فأقول: وبالله أستعين فإنه خير معين.

                                [فصل في معنى أهل الحق]

قال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله في ابتداء عقيدته :[ولما وقع الخلاف بين أهل الحق في صفة المؤمن] الكلام هاهنا يقع في ثلاثة أمور: أحدها في أهل الحق وصفتهم وبماذا يعلم أنهم أهل الحق. والثاني في الخلاف وكيف يتصور وقوعه بين أهل الحق, والحق لا يكون في النقيضين معاً. والثالث في صفة المؤمن. أما الأول, فاعلم أن أهل الحق عند الأستاذ من التجأ إليه في الطلب وهم العلماء المجتهدون من الأشعرية رحمهم الله وكل من كان من المجتهدين فاعتقد اعتقادهم.

وأنا أقول: لا يفهم الإنسان أهل الحق ما لم يفهم الحق الذي أضيف إليه "أهل". فالحق في اللغة كل أمر لا يمكن رده ولا يصح دفعه ويقع في الإثبات والنفي وفي الأقوال والأفعال إلا أن الشرع قد تحكم ببطلان شيء وبرده وإن كان هو في نفسه حقاً من حيث أنه غير مقبول عند الله لا من حيث أنه ثابت لا يمكن رده في المعلوم ولا دفعه. فقد صار الحق بعرف الشرع مخصوصاً بكل أمر حكم الشرع بأنه حق على معنى أنه مقبول عند الله, والباطل كلما حكم الشرع بأنه باطل وإن كان في نفسه من حيث العلم به حق على معنى أنه غير مقبول عند الله.

فأهل الحق على هذا من اتبع كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة وما عرف بدليل العقل الذي لا يتصور الخطأ فيه, إذ الشرع لا يرد بما تقطع العقول باستحالته أو ما شهد له واحد من هذه الأربعة, ولا يمكن رد واحد من هذه الأربعة لقيام الدليل على صحتها. فقد عاد الأمر من وجه إلى الأمر اللغوي, وكل طائفة تدعي أنها من أهل الحق. والذي به يعرف أهل الحق من غيرهم شيئان: أحدهما شهادة الرسول الذي ثبت صدقه بالمعجزة وشهادة واحد من الأربعة المذكورة. وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأقرهم على ما كانوا عليه ولو كان ضلالا لما أقرهم عليه وشهد لهم القرآن فقال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم [2و] نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"[1] فنتخذ الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الذي هم عليه حق ميزانا لكل من ادعى أنه من أهل الحق, فإن الموافق للحق حق والموفق للباطل باطل. ثم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بذلك, حتى بين لهم الخلاف الواقع في أمته ومواقعه, فقال:" ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة الناجية منها واحدة"[2]. وقال:"القدرية مجوس هذه الأمة"[3]. وقال:"ما أشركت أمة إلا كان أول شركه التكذيب بالقدر"[4]. فجعل أول الشرك التكذيب بخلق الأعمال. وقال:" الروافض يهود هذه الأمة"[5] وعلامتهم أنهم يسبون أبا بكر وعمر. وقال:"صنفان من أمتي لا نصيب لهم في شفاعتي القدرية والمرجئة فقيل: يا رسول الله قد علمنا القدرية, فمن المرجئة فقال: هم الذين يقولون أن الإيمان قول بلا عمل"[6]. وقال:"الخوارج كلاب أهل النار"[7], وهم الذين بايعوا الإمام علياً رضي الله عنه, ثم نكثوا عليه. وأما المشبهة فهم لاحقون بهذه الطوائف لتكذيبهم القرآن وهو قوله تعالى:" ليس كمثله شيء"[8]. بل لا فرق بين عبدة الأصنام وبينهم من حيث أن الجائز كالواقع.

                               [فصل في اختلاف أهل الحق]

وأما الكلام في الأمر الثاني, وهو الخلاف وكيف يتصور وقوعه من أهل الحق. فاعلم أن الخلاف يكون في موضعين: في أصول العقائد وفي فروعها. فأما الخلاف الواقع في أصول العقائد فلم يقع بين أهل الحق فإن العقليات لا يكون الحق فيها إلا واحداً, فالخلاف فيها لا يتصور بين أهل الحق ويتصور بينهم وبين غيرهم. وإنما كان كذلك من حيث أنه لا يتصور أن يعتقد الإنسان في الباري أنه موجود ويعتقد آخر أنه معدوم ويكونان جميعاً على الحق إذ لا يتصور أن يكون الشيء موجوداً معدوماً في حالة واحدة. وكذلك جميع الصفات الواجبة والجائزة والمستحيلة في حق كل موجود لا في حق القديم ولا في حق المحدث, فلو اعتقد معتقد أن العلم قديم واعتقد آخر أنه محدث أو اعتقد أن الله جسم واعتقد آخر أن الله تعالى ليس بجسم لم يتصور أن يكونان جميعاً على الحق لاستحالة أن يأمر الله تعالى بالكفر, لأنه جمع بين نقيضين, فإن معناه اعرفني ثم اكفر بي. ولم يقع بين أهل الحق خلاف في إثبات وصف الله تعالى أو نفيه عنه, وكذلك رسله سواء كان الوصف نفسياً أو معنوياً أو فعلياً فما قال أحد من أهل الحق أن الباري موجود وقال آخر منهم أنه معدوم ولا أنه باق وقال الآخر أنه غير باق ولا قديم وقال الآخر أنه غير قديم. وكذلك سائر صفات الله تعالى وصفات رسله عليهم السلام.

فإن قيل: كيف تدّعون رفع الخلاف بين أهل الحق على دعمكم في أصول العقائد وعبد الله بن سعيد ابن كلاب[9]  أثبت القدم معنى ونفاه القاضي[10] والأستاذ[11] وأبو الحسن[12], والقاضي نفى البقاء وأثبته [2ظ] أبو الحسن والأستاذ وسائر المشايخ وأي خلاف أعظم من هذا فمن منهم على الحق من نفى أو من أثبت.

والجواب: أن هذا الخلاف ليس واقعاً في المعنى, لأنهم قد اتفقوا على أن الباري لا أول له وهذا حقيقة القديم وأنه لا آخر له وهذا حقيقة الباقي. وإنما هو واقع في القدم والبقاء هل هما من صفات النفس أو من صفات المعنى. وسبب هذا الاختلاف أن لفظة القديم ولفظة الباقي تطلق للوجود وتطلق للاختصاص. فمن ظهر عنده أنها موضوعة للوجود قال أنه قديم لنفسه وباق لنفسه, ومن ظهر عنده أنها للاختصاص قال أنه قديم بقدم وباق ببقاء ولا يبعد الخلاف في مثل هذا بعد الاتفاق على المعنى. ثم تتبين حقيقة الأمرين بالبرهان وبرهان العقل دل على استحالة كون القدم والبقاء معنى, فإنه يلزم منه قدم القدم وقدم قدمه إلى غير نهاية وهو محال, وبقاء البقاء إلى غير غاية, وإن وقف عند غاية وقيل أنه قديم لنفسه وباق لنفسه لزم ذلك في كل ما شاركه ويلزم منه محال آخر وهو كون الصفة توجب الحكم لمن لم يقم به كما سنذكره إن شاء الله في موضعه.

فإن قيل: فهلا قلتم هكذا في العلم والقدرة والحياة وسائر الصفات المعنوية فيرتفع الخلاف بينكم وبين المعتزلة فلم أخرجتموهم من أهل الحق وهم مقرون بسائر أحكام الصفات ويدعون ردها إلى النفس.

والجواب: أن من نفى العلم فقد نفى كون العالم عالماً من حيث أن نفيه يدل على نفي الدلالة على كونه عالماً, فإن الدليل على ثبوت العالمية أحكام الفعل أو وجود القصد في الفعل وهو التخصيص وهو في الدلالة على العالم كهو في الدلالة على العلم فبقي العلم أو القدرة أو الإرادة تنفي كون العالم عالماً مريداً, ونفي القدم أو البقاء معنى لا يدل على نفي الأزلية فإن من علم حدث العالم ثم علم أن له محدثاً, ثم علم استحالة التسلسل على محدثه علم أنه قديم. ومن علم نفي العدم واستحالته على القديم علم أنه باق. وليس تحت قولنا قديم وباق معنى سوى استمرار الوجود إلى غير غاية في الماضي والمستقبل وتحت قولنا عالم وقادر معنى يخالف استمرار الوجود ولو رد ذلك إلى النفس لما عقل له معنى في النفس كما عقل ذلك في القدم والبقاء.

وأما الخلاف الواقع في فروعها فهو على ضربين: ضرب يتعلق بأصول الشريعة, وضرب يتعلق بفروعها. فأما الضرب المتعلق بأصول الشريعة فلم يقع بينهم فيه خلاف وذلك كمخالفة النصوص التي لا تحمل التأويل من الكتاب السنة المتواترة والإجماع وإنكار القياس. وأما الضرب المتعلق بفروع الشريعة فقد وقع, وذلك لاختلاف [3و] الظنون واختلاف موجبها. وهذا الاختلاف لا بد منه في الشريعة, إذ النصوص الواردة في الكتاب والسنة متناهية, والوقائع غير متناهية, فلا بد من القياس وقد قال عليه السلام:" الاختلاف في أمتي رحمة"[13]. وأراد به في المسائل التي لا نص فيها وقال عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران"[14]. وأراد في المسائل التي لا نصوص فيها ولا إجماع. ومن هذا القبيل اختلافهم في صفة المؤمن, فإنه حكم شرعي له وعليه بالمناكحة والخلود والموارثة والدفن, وهو كالحكم بالطلاق والنكاح. وصورة الخلاف الواقع بينهم في صفة المؤمن بعد الاتفاق المعتقد وعلى الاعتقاد ومطابقته المعتقدان منهم من قال يجزي الاعتقاد ولا يحتاج إلى دليل ومن عرف الله بالدليل كان أفضل ممن عرفه بالتقليد, ومنهم من قال لا بد من الدليل ولا يجزي الاعتقاد دون المعرفة ولا تصح المعرفة المطلوبة الكسبية إلا بدليل, ومنهم من قال إن طرت عليه شبهة وجب عليه إزالتها بالدليل وإن لم تطر لم يجب عليه دليل ولا يجب عليه طلب الدليل إلا في موضع الشبهة خاصة, لكن الأفضل له المعرفة إذ المقلد لا يكاد يتخلص له اعتقاد عن شبهة فلا يجد ما يدفعها به عن نفسه, وسبب اختلافهم تعارض الأدلة والغرض المطلوب هل هو الاعتقاد أو العلم.

                                  [فصل في صفة المؤمن]

وأما الكلام في الأمر الثالث وهو صفة المؤمن فما أراد رحمه الله صفاته النفسية ولا المعنوية وإنما أراد صفاته الفعلية التي إذا فعلها يكون بها مؤمناً وهذا مما وقع الخلاف فيه بين أهل الحق, تارة من حيث اللفظ لا من حيث المعنى, وتارة من حيث المعنى. وسبب اختلافهم في صفة المؤمن اختلافهم في الإيمان, فقال أهل الظاهر من أهل الحق: الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان. ثم منهم من قال يجزي في الاعتقاد ما انطوت عليه معاني الشهادة على الجملة وفي النطق باللسان الشهادة. ومنهم من قال: لا بد من التفصيل وقال من حقق الإيمان هو التصديق بما انطوت عليه هذه العقيدة ولكن لا يصح له هذا الوصف إلا بالمعرفة والإقرار عند الدعاء إليه والتمكن منه. ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال: يجب الاعتقاد مع المعرفة على الجملة من غير تفصيل, ومنهم من قال: لا بد من التفصيل لكثرة المذاهب والشبه واختلاطها بالمذهب الحق. ثم اتفقوا على أن المعاصي كلها, سوى الكفر والشرك, لا يجب بها الخلود في النار, وإن لم يتب منها فنظر الأولون إلى كمال الإيمان, وإن كان الاعتقاد هو الأصل, ونظر الآخرون إلى الأصل, وهو الاعتقاد, وجعلوا ما سواه لا حكم له في استحقاق اسم المؤمن وإن كان الكل يطلق عليه اسم الإيمان, لكنه على جهة الكمال, لا على جهة الاستحقاق [3ظ] للخلود في الجنة. فإنه لو كان كذلك لكان من ترك طاعة واحدة استحق الخلود في النار. ووافقهم الأولون وهم أصحاب الظاهر على ذلك. واحتج أصحاب الظاهر على إطلاق اسم الإيمان على ما ذكروه بخبر رووه عنه عليه السلام أنه قال: "الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح"[15]. واحتج الآخرون بقوله تعالى: "وما أنت بمؤمن لنا وكنا صادقين"[16] أي بمصدق فالمؤمن إذاً من انطوى عقده على تصديق الله ورسله. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات"[17] فجعل العمل بعد التصديق ولم يجعله نفس التصديق.

 وكان خلافهم في إطلاق اللفظ, لا في المعنى, لأنهم قد اتفقوا على أن من مات, وهو معتقد مصدق بما قد وقع الاتفاق عليه من صفات الله تعالى وصفات رسله الواجبة والجائزة والمستحيلة, كما ذكر في هذه العقيدة, ولم يعمل قط عملا بجوارحه مع الإقرار بأنه عاص أنه مات مؤمناً, ولا يخلد في النار إن دخلها, وأنه يرث ويورث ينكح وينكح ويدفن في مقابر المسلمين ويصلى عليه. ومن أوجب المعرفة صار خلافه مع من أوجب الاعتقاد, دون دليل, خلافاً في المعنى, لأن هذا يقول: المعتقد مؤمن والآخر يقول المعتقد غير مؤمن. وكذلك خلاف من جعل النطق شرطاً في صحة الإيمان, مع من يقول أنه ليس بشرط في صحة الإيمان, وإنما هو شرط في صحة المعاملة خلاف في المعنى. وكذلك خلاف من خالف في الاعتقاد على الجملة من غير تفصيل, مع من يقول لا بد من التفصيل خلاف في المعنى من حيث أن العلم بالجملة يناقض العلم بالتفصيل وكذلك الاعتقاد فهذا هو الخلاف الواقع بين أهل الحق في صفة المؤمن.

وأما الخلاف الواقع بينهم وبين غيرهم ممن ليس من أهل الحق فهو في موضعين: أحدهما في نفس المعتقد فإن المعتزلي لا يقول: إن من أثبت الصفات المعنوية لله على الذات مؤمن. والحشوي لا يقول: إن من نفى أن يكون كلام الله حروفاً وأصواتاً مؤمن. والمشبه لا يقول: إن من نفى الجهة والجسمية عن الله مؤمن. والثاني في العمل والقول والاعتقاد هل كل والحد منها شرط في صحة الإيمان, ولا يصح الإيمان إلا بمجموعها, ويجزي البعض منها عن البعض.

فأما الخلاف الأول فسيأتي في شرح الاعتقادات إذ كل اعتقاد من هذه العقيدة التي قصدنا شرحها بازائه من يخالف فيه. وأما الخلاف الثاني فهو مع أربع طوائف؛ الخوارج والمعتزلة والمرجئة وغلاة الروافض. فأما الخوارج فزعموا أن الإيمان جميع الطاعات وأن المعاصي كلها تنافي الإيمان صغيرها وكبيرها فمن عصى الله فقد خرج عن الإيمان وكان حكمه حكم المرتد خالداً مخلداً في النار أبداً إن لم يتب ومات مصراً [4و] على ذلك الذنب.

 واحتجوا في ذلك بقصة إبليس لعنه الله, فقالوا: أمر بالسجود لشخص فلم يفعل فاستوجب الخلود في النار أبداً, ولا فرق بين معصية إبليس وغيره, إذ المعصى هو الله تعالى, وهو فاسد. فإن إبليس ما كفر بترك السجود وإنما كفر بنسبة الصانع تعالى إلى السفه في أمره بالسجود إلى من لا يصلح له أن يسجد له على زعمه ولذلك قال: "أأسجد لمن خلقت طيناً"[18]. والسفه هو الجهل بالأمور, ومن نسب الصانع تعالى إلى الجهل فهو كافر. وأيضاً أن تركه للسجود كان عناداً ويدل على فساد قولهم, أن الإيمان لو كان كل الطاعات لكان من ترك النوافل كافراً, وقد أجمعت الأمة على خلاف ذلك, بل لا يجب به الخروج عن العدالة فكيف يجب به الخروج عن الإيمان بل أجمعت الأمة على أن من فعل شيئاً من الصغائر لم يخرج عن جملة المؤمنين وقال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"[19] ولم يرد التوبة فإن الكفر يغفر بالتوبة. وقال: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم"[20]. وقال عليه السلام: "الصلاة الخمس كفارة للذنوب ما اجتنبت الكبائر"[21]. وينتقض مذهبهم بمن أسلم ومات في الحال ولم يعمل شيئا فإنهم حكموا له بالإيمان. وقال تعالى: "وعصى آدم ربه"[22] ولم يقل كفر.

وأما المعتزلة فإنهم قالوا: الإيمان جميع الواجبات من الأفعال والتروك, فمن ترك واجباً أو أتى كبيرة, ولم يتب خرج عن جملة المؤمنين والمسلمين, وليس بكافر, ولكنه على منزلة بين المنزلتين, لا مؤمن ولا كافر, وسمى فاسقاً. ومن العجب أنهم أثبتوا له أحكام الكفار في الآخرة من الخلود في النار ومنع الشفاعة له في الخروج منها, وأوجبوا على الله تعالى أن يخلده ويعذبه أبداً, وأثبتوا له أحكام المؤمنين في الدنيا من التزويج والدفن والصلاة والموارثة. وسبب ضلالهم الأخذ بعموم الآيات والأخبار من غير تدبر لمعانيها. منها قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمناً متعمداً "[23] الآية, " ومن يعصي الله ورسوله يتعد حدوده"[24] الآية, "ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين[25] وغير ذلك.

فأما الأخبار فقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزن الزاني حين يزني وهو مؤمن"[26] وما جرى مجراه. فوافقوا الخوارج في الكبائر وخالفوهم في الصغائر, ووافقوا أهل الظاهر من أهل الحق في إطلاق اسم الإيمان على الواجبات وخالفوهم في أحكام الآخرة.

ويدل على فساد ما قالوه إجماع الأمة قبل أن تنبع هذه الطائفة على أن الفاعل للكبائر يستحق اسم الإيمان ولا يخلد في النار. واتفاقهم الكل على إجراء الأحكام الدنيوية عليه ولو كان من ترك شيئاً من الواجبات لا على جهة الجحود حكمه في الآخرة أحكام الكفار لكان حكمه في الدنيا حكم المرتد, وقد قال تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"[27] ولم يقل فاقتلوهما, ولا قال الكافر والكافرة. [4ظ] وقال تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا"[28] فنسبهم إلى الإيمان. وقال عليه السلام: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه دخل الجنة, وإن زنى وإن سرق"[29] فلو كان الزنى يبطل حكم الإيمان لم يجامعه دخول الجنة, والسر في ذلك أن حكم الإيمان يختص بالأجناس دون الأوصاف وكذلك الكفر, والفسق الذي ليس بكفر يختص بالوصف ولا يرتفع ما ثبت اختصاصه بالجنس. وأعمال الجوارح لا تنافي أعمال القلوب إلا بالقصد وإن كان الشرع قد حكم بكفر من سجد للصنم وعبده أو قتل الأنبياء أو استهزأ بهم وترك تعظيمهم أو تعظيم المصحف والكعبة أو سب الله تعالى بما لا يليق به أو سب رسله, وإنما حكم بكفرهم من حيث أن فاعل ذلك من غير ضرورة دعته إليه يعذر بها لا يكون معه شيء من الإيمان ولا يتصور أن يفعلها إلا معتقد لذلك.

واختلف أهل الحق في كفر من فعل شيئا من ذلك مع اعتقاد كونه مجرماً فقال قوم؛ لا يكون كافراً إلا في شيئين سب الله وسب رسوله والمداومة على السجود لشيء مما تعبده طائفة من الكفار. وسبب هذا الاختلاف اختلافهم في ترك هذه الأفعال هل هو شرط في صحة الإيمان أم لا. فمن قال أنه شرط في صحة التصديق كفر فاعلها, لاستحالة أن يقضي الشرع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه, وقد قضى الشرع بكفر من فعلها, ولم يفرق بين أن يكون فاعلها معتقداً تحريمها أو غير معتقد. ومن لم يقل أنه شرط لم يكفره إلا باعتقاد تحليلها وأما إن رأى أنها معصية وقعت منه كسائر المعاصي مع اعتقاد تحريمها فلا.

وما استدل به المعتزلة من الآيات والأخبار كلها مؤولة على خلاف ما ظنوه. فأما قوله "ومن يقتل مؤمناً متعمداً"[30] فقد قيل في تأويله وجوه كلها صحيحة. منها أن الآية مخصوصة برجل قتل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من المسلمين وارتد عن الإيمان وقيل فجزاءه جهنم إن جزاه الله بذلك. وقيل: ومن يقتل مؤمناً متعمداً أي مستحلا. وقيل: إن الخلود لا يكون للتأبيد إلا بقرينة ومنه خلد الله ملك الأمير, ولو أرادوا به التأبيد لكان استهزاء بالأمير وإنما أرادوا مدة يمكن بقاء ملكه فيها. فإنه لا بد من موته وانقضاء ملكه. وذلك معلوم عندهم ضرورة. وأما قوله "ومن يعص الله ورسوله"[31] إلى آخر الآية, فالوعيد متعلق بتعدي الحدود كلها ولم يرد بعضها, ومن جملة الحدود الإيمان بالله ورسوله. وأما قوله "لم نك من المصلين"[32] فالوعيد متعلق [5و] بقوله "وكنا نكذب بيوم الدين"[33]. وأما قوله عليه السلام "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"[34] فهو محمول على أن المعصية تشغله عن المعرفة, ولا يجب به نفي الإيمان على الإطلاق. وحمله بعض السلف على معنى أنه لا يستحق اسم الإيمان على الكمال, بل يكون مؤمناً بما معه من العقد, فاسقاً بما أتى من الفسق وكان قبل مؤمنا من كل وجه. وتأوله قوم على الاستحلال, معناه إن فعل الزنا مستحللا له. وأما غلاة الروافض فمذهبهم مذهب المعتزلة وقد ذكرنا.

وأما المرجئة فهم طائفتان[35]: طائفة غلت حتى زعمت أن الإيمان قول بلا عمل ولا عقد وإن لم يقصد التقرب به إلى الله وأن العقد لا يؤثر وإن كان على خلاف المعتقد. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"[36] ولم يقل حتى يعتقدوا. وقال جمهورهم: أن الإيمان هو الإقرار, ولكنه لأحكام الدنيا. ولا بد من الاعتقاد والإخلاص لأحكام الآخرة. فمن أقر بما دعي إليه كان مؤمناً على الحقيقة إلا أنه إن خالف إقراره اعتقاده كان من أهل النار مخلداً كما يقول أهل الحق, وإذا لم يخالف اعتقاده قوله كان من أهل الجنة وكمل إيمانه الدنيوي والأخروي. ثم اختلفوا في المعاصي فقال قوم أنها لا تضر مع الإيمان. وقال آخرون أنها موقوفة على المشية والشفاعة والتوبة كما يقول أهل الحق وصار خلاف هذه الطائفة لأهل الحق في عبارة والطائفة الأولى خالفت جميع الفرق.

والدليل على فساد ما انتحلته قوله تعالى "قالت الأعراب آمنا" الآية إلى قوله "ولما يدخل الإيمان في قلوبكم"[37] فبين أن القول لا يكون إيماناً ما لم يحصل في القلب اعتقاد. وقوله تعالى "إذا جاءك المنافقون" إلى قوله "والله يشهد أن المنافقين لكاذبون"[38]. وذلك أنه لما كان قولهم على خلاف اعتقادهم سماهم كاذبين ولم يرض منهم بذلك, وبين أنهم في الدرك الأسفل من النار بقوله "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"[39]. وعلى قول المرجئة يكون المنافقون صادقين وهو تكذيب لقول الله تعالى, وعلى جملة ما ذكروه مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله ولإجماع الأمة وللعقل. فإن الفعل أو الإقرار لمن لا يقصد التقرب به إليه لا يوجب عند جميع العقلاء ارتفاع المنزلة عنده بل يكون الفاعل لذلك مستهزئاً بالمقر له.

ثم قال رضي الله عنه: [ ورأيت الفتاوى والأحكام على غاية الاختلال عند السؤال رتبت فيه أقل ما يحتاج إليه] فالفتاوى جمع فتيا, وهي, في اللغة, عبارة عن كل خبر يذكره الإنسان حقاً كان أو باطلا, جداً أو هزلا, وهي, في عرف الفقهاء واصطلاحهم, عبارة عن قول تعلق به [5ظ] حكم من أحكام الشريعة التي هي الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة. ولما كانت الفتيا بحكم الاصطلاح عبارة عما ذكرناه ذكر الفتاوى والأحكام, فالفتيا عبارة عن القول ولا بد من حكم يصحها.

والأحكام جمع حكم, وهو ما تعلق بالقول كما ذكرناه, على معنى أنه يخبر بأن هذا حكم الله الذي هو الفتيا. والحكم معنوي راجع إلى أوامر الله ونواهيه والفتيا قول العبد وكسبه لكن لم يطلق عليها اسم الفتيا من حيث أنها قوله وكسبه, بل من حيث تعلق حكم الله بها. ولا تصح الفتيا إلا من عالم مجتهد بعد إكمال شروط التكليف. وشروط التكليف ثلاثة: أن يكون عارفاً بالله ورسله واليوم الآخر على قول أو معتقد على قول. والشرط الثاني أن يكون محيطاً بمدارك الشرع متمكناً من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره. والشرط الثالث أن يكون عدلاً مجتنباً للمعاصي القادحة في العدالة وهي الكبائر وهذا الشرط إنما اشترط لجواز الاعتماد على قوله لا لكونه مجتهداً لنفسه, وغاية كل شيء نهاية ما يصير إليه, إما في الفساد, وإما في الصلاح, وإما في التكوين. والاختلال يكون في الأقوال حقيقة وفي المعاني مجازاً.

وأراد بأقل ما يحتاج إليه ما ذكره في العقيدة, ولما كان ما يحتاج إليه, تارة يكون واجباً, وتارة يكون مندوباً, وتارة يكون مباحاً أراد ما يتعلق به الوجوب, ويتخلص به من عرفه من عذاب الله الدائم نعوذ بالله منه, ومعرفة الله ومعرفة رسله مما يحتاج إليها كل عاقل إذ لا أشرف منها وإن لم يكن ثم وجوب العبد على الحظوظ وشرف العلم بشرف معلومه. ولكن ما كلف الخلق معرفة ذلك على الكمال, كيف ولا يتصور معرفة ذلك على الكمال إلا على الله سبحانه, بل وجميع المعارف كلها محتاج إليها, إلا أن الشرع نهى عن بعضها كعلم القضايا من النجوم من حيث أنه ظن وتخمين, وعلم السحر من حيث أنه يؤذى به الخلق أو من حيث أنه لا يتعلم إلا كافر. وكذلك كل علم ويؤدي إلى معصية.

وقوله رضي الله عنه [على قول الجماعة] يريد جماعة أهل الحق المتقدم ذكرهم. وقوله [ وأتبعته ما يعطيه الاسم عنه الكافة] يريد من أوجب الدليل, ومن لم يوجبه من أهل الحق. فإن من لم يوجب الدليل يرى أن معرفة الله بالدليل أحسن وأعلى وأكثر ثواباً.والذي أتبعه هو أدلة هذه العقيدة.

ثم قال رحمه الله [ ليقف عليه المدعى علم الشريعة, ويزيل عن نفسه تغيير أهل الدراية[40] ويجوز فتواه[41] عند أهل المعرفة[42] ويستحق الاسم الإيمان ] أراد رحمه الله أن يخبر بالسبب الذي دعاه إلى تأليف هذه العقيدة ليقتدي به غيره في مثل ذلك, وهي قصود كلها [6و] محمودة عند الله وهي هذه الوقوف وجواز الفتيا وزوال المعرة واستحقاق اسم الإيمان.

أما القصد الأول, وهو الوقوف, فقصد حسن من حيث أن المذاهب قد اختلط بعضها ببعض وكل واحد من الناس يدعي أنه من المتمسكين بالشريعة وأنه من أهل الحق. فإذا وقف على ما رتبه الأستاذ في هذه العقيدة وعلمه ببين له من أي الطوائف هو. ومن وجد رجلا بين يديه أطعمه في بعضها سم وهو لا يعرفه فبين له الطعام الذي في السم عُد عند العقلاء من الناصحين وعند الله إن كان الرجل ممن تجب حرمته من الفائزين.

وأما القصد الثاني وهو إزالة المعرة فهو مثل الأول فإنه من باب قصد زوال الأذى عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فإن الجهل بالله وبرسله ووصفه بما لا يليق به من أكبر المعرة في الدنيا والآخرة.

وأما القصد الثالث وهو جواز الفتيا فهو مثل الثاني فإنه لو كان أعلم أهل زمانه وخالف أهل الحق في الاعتقاد لم تقبل فتياه عندهم, فإن الفتيا فرع والاعتقاد أصل ولا يصح فرع مع عدم أصله وقد أجمعوا على أن الكافر لا تقبل فتياه سواء كان أصلياً أو ممن يشهد الشهادتين ويعتقد ما به يكون كافراً وفي الضال والمبتدع والفاسق خلاف.وأما القصد الرابع وهو استحقاق الإيمان فهو أعظم هذه القصود. لأنه متعلق بالدنيا والآخرة.

وقوله [ على قول من ينتسب إليهم في علم التوحيد والعقول ][43] يريد النظار من أهل الحق الذين بلغوا رتبة الاجتهاد.

وأما قوله [ يلقن الصبيان قبل[44] البلوغ فيكون مؤمنين عند الخطاب ] فإنه رحمه الله نظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"[45] وإلى قوله عليه السلام "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر"[46] وفهم من الحديث الأول أن المولود خال عن كل شيء وأنه قابل لكل ما ألقي إليه وأنه أسرع قبولا من غيره ممن بلغ وأن ما قبله من أبواه لا يكاد ينفك عنه عند البلوغ إلا بعد مجاهدة عظيمة لما غلب على ظنه من كونهما ناصحين له أو علم ذلك. وفهم من الحديث الثاني أن أمره عليه السلام للاستئناس بالوضوء والصلاة لما فيهما من المشقة, ومن ألف شيئا هان عليه الدوام عليه ومن لم يألف يصعب عليه. ونظر إلى ما حدث من الاختلاف في هذه الزمن ومخالطة الناس بعضهم لبعض, فقال: الاعتقاد الذي هو أصل دينه ولا تصح الصلاة دونه أولا أن يحث عليه فإن من عقل عنه ولم يلقن الاعتقاد ربما حصل له بمخالطة الأخدان السوء اعتقادات فاسدة يعسر زوالها وهذا نظر حسن ونية صالحة.

ثم قال رحمه الله: [ ولو لا وجوبه علي بالشريعة لكنت لا أجمعه لهذه الطائفة مع ما غلب عليهم من الجهالة وما استشعروه لأهل التوحيد من العداوة لقصورهم عن هذه المرتبة ] وهذا  [6ظ] هو الباعث الأعظم, فإن الوجوب لا يجوز تركه مع قدرة عليه وقد أوجب الله على العلماء أن يبينوا للعوام اعتقاداتهم يذبوا عنهم يصونوهم عن الشك والشبهة في عقائدهم وعن كل ما يفسد عليهم فرض عينهم من الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح والطلاق والبيوع وكل مسألة حدثت لهم وجرت بينهم من أصول الشريعة أو من فروعها. قال تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم"[47]. وقال عليه السلام: "إذا ظهرت البدع وسكت العالم فعليه لعنة الله"[48].

 وأراد بالطائفة كل طائفة خالفت أهل الحق في ذلك الزمن كالحشوية والكرامية والحنابلة, فإنهم يذمون النظر وأهله ويحرمونه. وما علموا أن أصل علم الكلام كتاب الله تعالى, ذلك أن القرآن يحتوي على نحو ستة آلاف أية منها قريب من خمسمئة آية لأحكام الشريعة ومثلها في القصص وباقي الآي في التوحيد والنبوة. وقال عليه السلام: "آية الكرسي سيدة لما فيها من صفات الإله"[49] والسيد هو المتبوع. وما من رسول إلا وقد دعا قومه إلى التوحيد وناظرهم وجادلهم. فمن ذلك قصة نوح وإبراهيم وهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. وذكر قصصهم يطول, والعجب أنهم كلهم أعني من حرم النظر ومن لم يحرمه متفقون على أن من لم يكن مؤمناً بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله لم يصح منه شيء من عبادتهم وإن كان مصيباً فيها. والإيمان لا يصح إلا بأحد ثلاثة أمور إما بالضرورة وفيه رفع التكليف, وإما بالدليل ولا يصح العلم بما يدل عليه الدليل إلا بالنظر. فما بالهم يحرمون النظر, وإما بالتقليد والتقليد قبول قول الغير من غير حجة. والذين يمكن تقليدهم هم الأنبياء. ولا يصح تصديقهم إلا بعد أن ثبت صدقهم وإلا فيلزم تقليد كل أحد وصدق كل من ادعى الرسالة, ولا يطلب منه دليل على صدقه ويجب تقليد الكفار. ثم التقليد إن كان واجباً فلا يجب إلا بالشرع, والشرع لا يثبت بالتقليد بل لا يثبت إلا بالدليل. وإلا فيلمز منه تقليد الكاذب, ثم الكاذب من الصادق لا يعلم إلا بالدليل. وهذا سبب ضلال أكثر الخلق فإنهم اختلفوا وقلدوا تركوا النظر فضلوا وأضلوا, نعوذ بالله من الضلال.

                          

 

 

 

 

 

 

 

             

             

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                [الباب الأول: المبادئ في الاعتقاد]

 

 

 

 

 

                              

 

 

 

 

 

 

 

 

                              [فصل في حدث العالم ووجوب الصانع]

ثم قال رضي الله عنه [ والذي لا بد منه لهذه التسمية اعتقاد حدث العالم ] فأقول: لا بد من معرفة الاعتقاد ومعرفة الحدوث ومعرفة العالم, فإن من لا يعرف المفردات لا يعرف المركبات. فأما الاعتقاد في اللغة فهو افتعال من العقد وهو الربط وهو في الأجسام حقيقة. إذ تقول عقدت الخيط  وعقدت الحبل, ومجاز في الأعراض  [7و]  وهو في عرف بعض المتكلمين عبارة عن ربط الفكر بأمر ما, فإن طابق المعتقد فهو اعتقاد حق وإن لم يطابق فهو جهل. وعند بعضهم عبارة عن ظن قوي يجوز فيه تغليب أحد النقيضين. وعند بعضهم هو العلم وهو مذهب المعتزلة. فإنهم قالوا في حد العلم أنه اعتقاد الشيء على ما هو له فابطل عليهم فاعتقاد المقلدة ثبوت الصانع وليس بعلم, فزادوا سكون النفس فابطل عليهم بسكون نفس المقلد, فزادوا إذا وقع ضرورة أو نظراً فابطل عليهم بأن الاعتقاد يتجرد ولا يكون علماً ويستحيل أن يكون علماً لمعنى سواه لاستحالة انقلاب الحقائق. فإن العلم علم لذاته كما أن البياض بياض لذاته. ومن أهل الحق من قال العلم عبارة عن صفة قائمة بالقلب تكشف المعلومات عن قطع لا تردد فيه أبداً, وعن بصيرة لا اشتباه فيها وهذه كلها من توابع العلم ولوازمه.

 والاعتقاد أيضاً عبارة عن صفة قائمة بالقلب يصح معها الجزم من غير تردد في الحال إلا أنه عن غير بصيرة. ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه بخلاف العالم فإنه لا يجد ذلك, ولو أصغى إلى الشبه لم يشك في بطلانها. وسره أن الاعتقاد يتصور مع عدم المعتقد إذا لم يعلم ذلك, ومع وجوده فإنه في الحقيقة ميل النفس إلى ما تصورته من غير إخطار نقيضه بالبال, ومن غير أن يكون ما تصورته موجوداً بل ما يلقى إليه إذا لم يكن متناقضاً.

وأما الحدوث فهي لفظة عربية فإن العرب تقول هذا بنيان قديم وهذا بنيان حادث, إلا أن العرب لم تستعمل هذه اللفظة إلا فيما وجد عن قرب. فنقلها أهل الحق إلى كل ما وجد عن أول أو عن عدم أو بعد عدم. فالأولية والافتتاح والتحدد والحدوث كلها عبارة متقاربة تدل على معنى واحد وهو ما لم يكن فكان.

واعلم أن الحدوث قضية يحكم بها على الجواهر والأعراض راجعة إلى أنفسها ليست بجوهر ولا عرض. فإنها لو كانت جوهراً لاستحالت في الأعراض ولو كانت عرضاً لاستحالت في الجواهر.

 والحدوث عند بعض الفلاسفة على ضربين: زماني وغير زماني. فالإحداث الزماني هو الإيجاد للشيء بعد أن لم يكن وجوده  في زمن سابق وهو الذي أراده أهل الحق وهو الحقيقة وما عداه مجاز. والإحداث غير الزماني هو إفادة الشيء وجوداً وذلك الشيء ليس له في ذاته ذلك الوجود بحسب زمن دون زمان, بل بحسب كل زمن. وبهذا المعنى كان العالم عندهم حادثاً لا بالمعنى الأول.

وأما العالم  [7ظ]  فهي لفظة عربية موضوعة لمن يعقل ولمن هو بصفات من يعقل من الإنس خاصة. ومن ذلك قول العرب رأينا عالماً من الناس ولا يقولون رأينا عالماً من الدواب. وقد قيل أنها موضوعة لكل موجود سوى الله بدليل قوله تعالى "الحمد لله رب العالمين"[50] وما أراد الإنس خاصة. فإن الرب هو المالك ولما كان العالم اسماً[51] مشتركاً بحكم اللغة و بحكم العرب والاصطلاح إذ يقال عالم لكل جملة متجانسة كقولهم عالم الطبيعة وعالم الأجسام ويقال عالم لمجموع الأجسام الطبيعية ويقال عالم لمجموع العقول.

قال الأستاذ: [ ثم الاعتقاد بأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى ] ويدخل في ذلك الملائكة والجن والإنس والجنة والنار وصفات الخلق وأفعالهم والسماوات والأرض والعرش والكرسي وعلى الجملة ما عدى ذاته تعالى وصفاته. وحصر الموجودات عند أهل الحق: متحيزٌ وهو الجوهر وقائم بمتحيز وهو العرض. وما ليس متحيز ولا قائم بمتحيز وهو الله. وحصر الموجودات عند الفلاسفة: عقول ونفوس, وهي لا متحيزة ولا قائمة بمتحيز وتتباين بالحد والحقيقة, وأجسام وهي مركبة من هيولا وصورة. وكل واحد منهما قبل الاجتماع غير متحيز في الذهن ولا في الوجود, وبعد الاجتماع صارت الهيولا متحيزة وتحيزها صورتها.

 والعلة الأولى الموجبة لهما التي هي الباري على زعمهم وهي لا من جنس العقول وإن كانت العقول توجب كما توجب العلة الأولى, ولا من جنس النفوس ولا من جنس الأجسام. والعقول تؤثر في النفوس تأثيران: تأثير وجود وتأثير تغير أحوال. وتؤثر النفوس في الأجسام تأثير انفعال بالطاعة. وتؤثر العقول في الأجسام تأثير وجود وتؤثر بعض العقول في بعض. ولا تؤثر عندهم الأجسام في شيء. والعلة الأولى لا يؤثر فيها شيء وتؤثر في العقول وهذا كلها باطل مبني على توهم فاسد. وقد ذكرنا مذهبهم وأبطلناه في مقدمة مفردة لئلا يطول الكلام.

والمنكرون لحدث العالم بالوجه الذي ذكره أهل الحق: بعض الفلاسفة كأرسطوطاليس[52] ومن قال بقوله كالفارابي[53] وابن سينا[54] من المتفلسفي الإسلام. وزعموا أن العالم حادث بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول. والدهرية وهم طوائف من قدماء الفلاسفة أنكروا حدوث العالم لا بالزمان ولا بالذات, وأنكروا الصانع جملة, ولم يقول بعلة ولا بفاعل مختار. وطائفة من الطبيعيين أنكروا حدوث العالم وأقروا بأن ثم طبيعة خامسة مخالفة لهذه الطبائع, تفعل هذه العجائب بطبعها ولا يتصور أن تكون حية, فإن الحياة لا تكون إلا باعتدال الطبائع, وتؤدي إلى ما لا نهاية له. ومن الفلاسفة من أقر بحدوث العالم كله, ومنهم من  [ 8و] أقر بحدوث الصور والأعراض الحادثة في الأجسام وأنكر حدوث ما في العالم العلوي من العقول والنفوس على زعمهم والأجسام. والذي دعاهم إلى القول بقدم العالم توهمهم أن الباري يفعل بالذات والطبع على اختلاف أقوالهم لا بالإرادة, وتوهمهم أن الفاعل إذا لم يفعل ثم فعل فقد تغير, وتوهمهم نسبة بين العلة والمعلول ولما استحالت عندهم النسبة المكانية والمثلية تمسكوا بالنسبة الزمانية كما تمسكت الكرامية بالنسبة المكانية.

وأنا أقول: إذا قدر المقدر شيئاً مفتتحا له أول مع الذهول عن إثبات القديم ونفيه أو مع اعتقاد نفيه لا شك أن تقديره يصح عند الكل. ولا يكون محالا تصوره في النفس بل جائزاً. وكل ما صح جوازه لا يحول عن حقيقته باعتقاد قديم لا تعلق له بالمفتتح, فإن المحصور لا يناسب ما انتفى عنه الحصر. وكذلك لو تصور قديما على الانفراد لصح تصوره. وإذا لم يبعد في العقل قديم منفرد ولا حادث منفرد لم يبعد اجتماعها في العقل ويكون القديم فاعلا للمحدث, بل أقول لولا الحادث ما صح العلم بالقديم فإن من حق القديم أن لا يحتوى عليه أصلاً وإنما يعرفه حق معرفته من ينفى عنه الحصر. ونفي الحصر متضمنة الحكم بالاحتواء. ووجوب القدم للعالم يؤدي إلى نفي العالم كما سنذكره إن شاء الله.

ثم قال رحمه الله في الفصل الذي يليه: [ ثم الاعتقاد بأن له محدثاً ] ومعنى ذلك أن العالم الذي ذكرناه آنفاً له فاعل أوجده بعد أن لم يكن, أوجد ذاته وعينه من غير شيء ولولاه لم يكن موجوداً أو يستحيل أن يكون الشيء مفعولا من وجه غير مفعول من وجه. وللفاعل المخترع ثلاثة[55] شروط: أحدها أن يكون موجوداً قديماً قائماً بنفسه حياً عالماً قادراً مريداً واختلف في السمع والبصر والكلام. والشرط الثاني عدم المناسبة بينه وبين المفعول لا مكانية كما يقوله الكرامي ولا زمانية كما يقوله الفيلسوف الوهمي ولا مثلية كما يقوله المشبهي إلا نسبة إرادية. والشرط الثالث التقدم في الوجود لا بالرتبة كتقدم العالم على الجاهل ولا بالذات كتقدم العلة على المعلول ولا بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ولا بالزمن كتقدم الوالد على الولد.

وللمفعول ثلاثة شروط: أحدها أن لا تكون له ذات موجودة يطرأ عليها الوجود ولا ثابتة في العدم يطرأ عليها الوجود كما ذهبت إليه المعتزلة والفلاسفة والكرامية. أما المعتزلة فإنهم قالوا الأشياء ثابتة في العدم وهي غير موجودة أرادوا به الممكن وجودها كما سنذكر مذهبهم في ذلك ونقضه إن شاء الله, والوجود يطرأ عليها وهو حال والحال لا  [8ظ]  موجود ولا معدوم وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن الحال إذا كان غير موجود في نفسه وطرأ علي ما ليس بموجود استحال أن يصيره موجوداً إذ ما ليس بسواد يستحيل أن يصير ما ليس بسواد سواداً أو أسود, فإن العدم عندهم ثابت وليس بموجود والحال ثابت وليس موجود. والثاني أن الحال إن كان صفة نفسية استحال أن تفعل على حيالها دون النفس وإن كانت معنوية كان فيه إبطال الأعراض وفيه كون الشيء مفعولا من وجه غير مفعولا من وجه. ولو كان كل ثابت يفتقر إلى وجود ثابت لافتقر الوجود إلى وجود آخر ويلزم منه التسلسل إلى غير نهاية وهو محال.

وأما الكرامية فإنهم قالوا: أن الوجود عرض وهو معنى من المعاني يطرأ على الماهيات, وقالوا: أن كل موجود يوجد يفتقر إلى وجود يلزم منه نفي الوجود والموجود والموجد لهم.

وأما الفلاسفة فإنهم زعموا أن الوجود في الممكنات يعرض لها ولم يريدوا به العرض الذي هو المعنى, وإنما أرادوا به العرض المقابل بالذاتي. وذلك أنهم يزعمون أن الماهيات تعقل في حق الممكنات ويعقل وتغفل[56]عن وجودها. فليس الوجود من الصفات المقومة لها, وهذا غلط عظيم. فلولا كون الأشياء موجودة ما أدركها العقل أبداً, فإن العدم المطلق لا يعقل على حياله. وإن الأشياء المحسوسة لا تتصور في العقل إلا بعد إدراك الحس لها وكذلك الأشياء المعقولة لا تتصور إلا بعد تقدير وجودها في الخارج حينئذ تنقل إلى الذهن. وهذا في حق المحدث نعم ليس من شرط تقدير أمثالها في الذهن وجودها في الخارج الآن.

والشرط الثاني أن يكون وجوده مسبوقاً بعدم وإلا فكل موجود لا يتقدمه عدم يستحيل أن يكون مفعولا. وزعمت الفلاسفة أن هذا الشرط لا يحتاج إليه المفعول, لأن المفعول إنما احتاج إلى الفاعل من حيث الوجود, والصادر من الفاعل الوجود والعدم نفي محض لا تعلق له بالفاعل. وهذا الذي ذكروه باطل فإن الموجود لو احتاج إلى الفاعل من حيث الوجود لاحتاج كل موجود إلى وجود ويلزم عليه وجود القديم سبحانه أن يحتاج إلى موجد بل وجود هو بصفة الإمكان هو المحتاج إلى الموجد ولا يتحقق له الوجود إلا بعد إرادة الموجد له بصفة. كذا وذكر الاحتياج نوع توسع وإلا فالمعدوم نفي محض. والنفي المحض لا يقال أنه محتاج ولا غير محتاج.

 وقولهم أن العالم مفعول تلبيس. فإن المفعول ما كان بقصد ولا يصح القصد إلى الموجود الذي لم يزل, فإن العالم عندهم لم يزل موجوداً لا أول له والباري لا أول له وأحدهما علة للآخر.  [ 9و]  وما مثال ذلك إلا مثال رجل وجد في دار فقيل له؛ كم عمرك؟ فقال: لا أول لي. قيل له: وهذه الدار؟ قال: لا أول لها وأنا فاعلها. فهل يتصور ذلك؟ وإنما تخيلوا أن العالم معلول من حيث أنه مركب كما أن الدار مركبة, والتركيب إذا كان لم يزل كيف يتصور أنه قصد إلى تركيبه المفرد والمفرد لم يزل والمركب لم يزل. ولا يستحق المركب أن يكون مفعولا بتركيبه ولا المفرد يستحق الفاعلية بإفراده.

 ولهذه العلة أنكرت الدهرية وجود الصانع فإنهم قالوا أن خالق الأشياء على ما زعمتم لم يخل من أن يكون لم يزل خالقاً أو غير خالق. فإن كان لم يزل خالقاً كان محالا, لأن من لم يزل لا يكون خالقاً في الأزلية لاستحالة وجود المخلوق أزلا, لأنه جمع بين نقيضين, وإن كان غير خالق ثم خلق فقد تغير. وإذا بطل الوجهان بطل الصانع. والتغير الذي ذكروه إنما يلزم في حق العلة والطبيعة لا في حق من يفعل بالاختيار, فإن من فعل الممكن في وقت مخصوص تعلقت به إرادته وعلمه لا يقال تغير عند فعله وإنما يتغير عند فعله أن لو تجدد في ذاته أمر لم يكن. فكيف بالمحال, فإن فعل العالم في الأزل محال. إذ الأزل يشعر بنفي الأولية والفعل يقتضي الابتداء والأولية, والجمع بينهما محال, كما أن خلق السواد في محل ممكن مع عدم البياض من المحل وفي حال وجود البياض محال. فإذا زال وجود البياض وأوجد الفاعل السواد لا يقال تغير الفاعل.

 وهؤلاء القوم إنما أوتوا وغلطوا من حيث أنهم لم يتوهموا وجود الواحد شيء لا من شيء, ومن حيث أنهم توهموا وجود الأشياء وجعلوا لكل مسبب سبباً ورأوا أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحداً. ولو كان لا يصدر عن الواحد إلا واحد كما زعموا لاستحال وجود الواحد في نفسه, فإن الواحد الصادر عنه لا يخلو أن يكون مثله أو خلافه, فإن كان مثله لم يكن أحدهما بأولى من الآخر في الصدور عنه. ثم إذا جاز صدور واحد عن واحد ولم يتغير الواحد فما المانع من وجود آلاف. ثم الواحد إن كان قد انفصل عنه فهما اثنان وإن لم ينفصل عنه فالقوة التي أوجد بها واحدا إذا لم تتغير جائز أن يوجد بها غيره وإن تغيرت فكيف تغيرت بواحد, ولمَ أوجد العقل الثاني أربعة وليس في قوة موجده إلا واحد. وإذا كان الأعلى ليس في قوته إلا واحد كان الأدنى أولى أن يكون في قوته إلا واحد أو لا شيء, لأن قوى من أوجده قد تناهت به ولا يمكن أن يكون فيه ما ليس في قوة موجده. وإن كان الصادر عنه خلافه وجب أن يوجد. ومن صدر عنه خلافه من غير تغير جاز أن يصدر عنه أمثاله وأضعافه.

واعلم أنه إذا ثبت حدوث العالم دليلا وثبت أن له محدثاً لم يزل  [9ظ] فهو مخترع له حين يكون مخترعاً وحين أراد اختراعه, ولا يصح أن يكون مريداً لاختراعه حين لا يصح اختراعه كما لا يصح أن يكون مريداً للجمع بين الضدين ولا أن يكون مريدا لما لا أول له.

والشرط الثالث أن يكون ممكناً مراداً معلوماً وإلا فيستحيل وجوده والممكن ما لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه. والإمكان قضية يحكم بها العقل على الشيء الممكن إذا لم يعرض في وجوده في تلك الحال وعلى تلك الحال ما يمنع وجوده. وكذلك في الطرف الآخر وهو العدم ولا يتصور أن يكون الإمكان أمراً إضافياً بدليل أن السواد والبياض يقضي العقل لهما بالإمكان قبل وجودهما وليس ثم مادة يضاف إليها الإمكان إلا الجسم. فإن كان الإمكان يضاف إلى الجسم حتى يقال هذا الجسم يمكن أن يسود أو يبيض ارتفع ما قضى به العقل من الإمكان في حق السواد والبياض, فمن أي الأقسام يكونان؟ ولو افتقر الإمكان إلى مادة كما زعمت الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأحد ما استدلوا به على قدم العالم لافتقر الامتناع إلى مادة حتى يكون المحال له مادة وليس للمحال وجود في ذاته. فكيف تكون له مادة يطرأ عليها؟

والذي يليه من الفصول [ الاعتقاد بأن محدثه قديم ] اعلم رحمنا الله وإياك أن هذا الفصل واجب أن يكون في الترتيب بعد الذي قبله كما أن الذي قبله واجب أن يكون في الترتيب بعد الذي قبله. فإن من لا يعرف حدث العالم لا يعرف أن له محدثاً. ثم المحدث لا بد أن يكون محدثَاً أو قديماً, ومحال أن يكون محدثاً مع كونه حادثاً إذ يلزم منه افتقاره إلى محدث كما لزم افتقار المحدث, ويلزم منه نفي المحدث والمحدث. والقديم في موضوع اللغة عبارة عن المتقدم على غيره. قال الله تعالى: "حتى عاد كالعرجون القديم"[57] فلو خلق الله موجوداً وأبقاه ألف سنة فهذا لا يسمى قديماً في إطلاق اللغة حتى يضاف إليه غيره. والعرب تقول: هذا بنيان قديم ورجل قديم ودار قديمة. وهو في اصطلاح المتكلمين عبارة عن الموجود المستمر الوجود إلى غير غاية.

واختلف المتكلمون في القدم هل هو صفة نفسية أو معنوية أو سلبية؟ فقال بعضهم: هو عبارة عن نفس القديم وهو الحق ومعناه أنك إذا فكرت في وجود الباري تعالى لم تقف فيه عند حد ولا غاية إلا وبرهان العقل يردّك. وإنما كان الباري بهذا الوصف لذاته. وقال بعضهم سلب العدم عنه أولا. قلنا صحيح ولكن لا بد أن يكون سلب العدم عنه إما لذاته وإما لغيره. وليس ذلك بتعليل إذا أضيف إلى الذات وهو تعليل إذا أضيف إلى الغير.

 وقال بعضهم: هو صفة معنوية من أجلها كان لا أول له والقدم  [10و]  قديم لنفسه وهو غلط. فإن الصفة إذا كانت موجودة, وشاركت الموصوف في كونه لا أول له, ثم قيل: أن الموصوف له علة والصفة لا علة لها مع اشتراكها في الحكم كان ذلك محالا, لأن ما وجب لأحد المشتركين في حكم وجب للآخر مثله فإما نفي التعليل عنهما وإما وجوده لهما. وإنما وقع لهم هذا الغلط لظنهم أن الصفة لا توصف وأن الموصوف هو الذي يوصف؛ والحق أن الصفة لا توصف بصفات المعاني وتوصف بصفات الأنفس, والموصوف يوصف بصفات النفس وبصفات المعاني؛ ولظنهم أن أن هذا الوصف للاختصاص وقد تقدم الكلام عليه في ابتداء شرح هذه العقيدة.

والقدم عند بعض الفلاسفة على ضربين: قديم مطلق وقديم بالقياس. فالقديم بالقياس هو الذي ذكرنا أنه مقتضى اللغة وهو كل ما كان زمانه في الماضي أكثر من زمن شيء آخر فهو قديم بالقياس إليه. والقديم المطلق على ضربين: يقال بحسب الذات وهو الذي ليس له مبدأ عليٌ أي ليس له علة, ويقال بحسب الزمن وهو الشيء الذي يوجد في زمن ماض غير متناه وهذا الوجود للملائكة والسماوات وجملة أصول العالم عندهم والأول وجود الباري تعالى. ويبطل قولهم بحدوث العالم وليس في هذا الفصل خلاف ظاهر إلا ما يحكى عن جهال الروافض لعنهم الله في قولهم أن الله خلق علياً رضي الله عنه وجعل خلق سائر الأشياء إليه؛ وعن جهال المنجمين في قولهم أن الله خلق العالم والأفلاك وسائر الكواك, وجعل التدبير إلى كل كوكب ألف عام. وهيهات من لا يحسن منه أن يدبر نفسه يستحيل أن يدبر غيره, ويستحيل من مخلوق أن يوجد مخلوقاً مع الاشتراك في الجنس. والكواكب معدات لا موجدات ولا موجدَات. ثم من لا يعلم أحوال غيره كيف يدبره. والذي يحيل التدبير أن التدبير لا يصح إلا ممن لا يجهل عواقب الأمور, وتدبير العالم معناه إبقائه على الحالة التي هو عليها لا يتغير, ولا يبقى على الحالة التي هو عليها إلا بخلق ما يبقيه. ويستحيل من مخلوق أن يكون خالقاً لشيء مع جهله بما يخلقه, وقصور قدرته عن الاختراع. ثم قيل أن يخلق الكواكب من كان يدبر العالم, ثم من دبر الكواكب حين وجدت. وعلى الجملة من احتاج إلى غيره في الخلق والتدبير فهو بالنقص جدير, وقد دخل في جنس الحقير والتحقير, ومن احتاج إلى غيره في ذرة استحال منه وجود ذرة.

                                 [فصل في نفي التشبيه]

والذي يليه من الفصول [ الاعتقاد بأنه لا يشبه شيئاً من المخلوقات ] اعلم رحمنا الله وإياك أن الاتحاد متى كان في الكمية قيل له المساواة وإن كان في الكيفية قيل له المشابهة وإن كان  [10ظ] في الخاصية النفسية قيل له المماثلة والمراد بالمشابهة هاهنا المماثلة. والمماثلة عبارة عن الاستواء في جميع الصفات النفسية الواجبة والجائزة والمستحيلة. فالمثلان هما الموجودان اللذان يشتركان فيما يجب ويجوز ويستحيل كالجوهرين وكالبياضين وغير ذلك. ومن أثبت الأحول قال في حد المثلين كل موجودين ثبت لأحدهما من صفات النفس ما ثبت للثاني. وحد الخلافين كل موجودين ثبت لأحدهما من صفات النفس ما لم يثبت للثاني.

وشروط المثلين خمسة: الوجود لاستحالة التماثل في المعدومات. والثاني الحدوث لاستحالة إثبات المثل للقديم إذ لا قديم إلا الله ولا مثل له.والثالث التعدد لاستحالة التماثل في الشيء الواحد فلا بد من الغيرية. وينشأ عن هذا مسلة و هي[58] هل التماثل حال زائد على ذات الجوهرين المقدرين مثلين أو العرضين؟ فإذا قلنا أنه حال فالجوهر المفرد لا يكون مثلا إلا مع غيره. وكذلك من نفي الحال يلزمه هذا السؤال فإنه إذا رد التماثل إلى عين أوصاف الأجناس والجوهر الفرد لو قدر لم يسم متماثلا إلا مع غيره وقد ثبتت له جميع صفات النفس. فقال القاضي جواباً عن تقدير خلق جوهر فرد: الجوهر الفرد المقدر يثبت له التماثل تقديراً مع غيره إن لو خلق. فعلى هذا يكون شرط التعدد وجوداً أو تقديراً في حق من يجوز وجود مثله.

واعلم أن من نفي الأحوال لم يكن عنده لتعليل التماثل وجه إذ المتماثلان يتماثلان لأنفسهما وليس يرجع تماثلهما إلى وصف زائد. فلو قلنا: أن أنفسهما علة تماثلهما أو تماثلهما علة أنفسهما لآل مرجع الكلام إلى أنهما تماثلا لأنهما تماثلا. لكن ربما أقاموا الصفات النفسية مقام الصفات العلية توسعاً. فأما من قال بالأحوال فإنهم اختلفوا فمنهم من قال: أن تماثلهما حال زائد على سائر الأحوال ومنهم من قال هو مبني على التساوي كما ذكرناه في صفات الأجناس وليس بحال. وقد تردد فيه القاضي فقال: مرة ليس التماثل حالا واستدل على ذلك بأن قال لو قلت أنه حال للزمني في الجوهر الفرد الذي لم يخلق الله مثلا غيره أن يكون مماثلا لنفسه فإنه قدر خلقه منفرداً وفيه حال. ولو قلت أن الحال لا يثبت إلا بعد خلق جوهر آخر لكان ذلك محالا فإن الأحوال الثابتة للنفس يستحيل تحديدها للنفس وقال مرة هو حال.

واعلم أن التعليل في التماثل لا يصح إذ العلة لا تكون إلا ذاتاً قائمة بمن أوجبت له الحكم وفيه قيام الصفة بالصفة. وقد قال القاضي رحمه الله: إن سلكنا مسلك التعليل ولم نرد التماثل إلى صفات الأجناس ورددناه إلى وصف زائد على أوصاف الأجناس عللناه بالأخص وهو باطل من وجهين: منها أن  [11و]  البياضية حال والحال لا يوجب الحال. والثاني أن العلة العقلية لا توجب إلا حكما واحداً, وفي التعليل بالأخص إيجاب المماثلة والمخالفة لأن ما به يتماثلان هو بعينه ما به يخالفان غيرهما.

 ومنهم من علل التماثل بالتسمية الواقعة عليها حقيقة. وهذا باطل فإن التسمية لا تغير الحقائق بل هي موضوعة بالاصطلاح. والعرب تطلق اسم الطعم على الطعوم المختلفة حقيقة. وكذلك اسم اللون على مسميات مختلفة. فتسمية القديم موجود والمحدث موجود لا يوجب المماثلة. ومنهم من علل التماثل بصفة معنوية فقال إذا اشتركا في صفة من صفات المعاني كانا مثلين. وهذا باطل فإنه يؤدي إلى رفع التماثل في الأعراض, فإن الصفات لا تقوم بها الصفات, ويلزم منه أن يكون أحدهما أبيض ساكناً والآخر أبيض ساكناً فيتماثلان, فيتحرك أحدهما يسكن الآخر فيختلفان. ومنهم من علله بصفة من صفات الإثبات. فقال أكثر المعتزلة: إنما كان المثلان مثلين لاشتراكهما في صفة من صفات الإثبات. وذلك باطل فإن البياض يشارك السواد في كثير من صفات النفس ولم يوجب لهما ذلك المماثلة ككونهما لونين وعرضين وحادثين.

ثم عدنا إلى الشروط, والشرط الرابع: الاستواء في الخاصة النفسية لأنه متى اختص أحدهما عن الآخر بحكم لنفسه أو بخاصية دون غيره بطل التماثل. إذ لا معنى للتماثل إلا الاستواء في جميع الصفات النفسية والأحكام النفسية.

الخامس: الاستواء في الأحكام العامة والخاصة لأنه متى وجد الأخص وجد الأعم بالضرورة. فإذا وجد البياض وجد اللون ولا يلزم عكسه, وهو أنه إذا وجد اللون وجد البياض بل قد يوجد غيره.

وشروط الخلافين أربعة: الوجود والتعدد والاختلاف في الخاصية النفسية والاشتراك في الأحكام العامة والخاصة. مسلة نشأت من الخلافين وهي[59] كما أن أحد المثلين لا يستبد عن مماثله بحكم من الأحكام النفسية ويجوز أن يستبد بصفة معنى يجوز وقوع أمثالها في مماثله للإرادة لا من حيث ذاته. وذلك كالجوهرين يكون أحدهما أبيض والآخر أسود وهما مثلان, وكالبياض في محلين وهما مثلان. وإنما اختص أحدهما بذلك لإرادة الفاعل. كذلك أيضاً أحد الخلافين يصح أن يشارك خلافه في صفة من صفات العموم ولا يجوز أن يشاركه في أخص الأوصاف, ثم يخالفه بأعمها فإن  [11ظ] السواد والبياض يدرك كونها مختلفين ضدين ضرورة.  ثم هما مشتركان في الوجود والحدوث والعرضية واللونية ولم يختلفا إلا بالسوادية والبياضية. إلا أنا نقول إذا كان الوجود نفس الموجود وليس بحال فوجود البياض هو عين البياضية واللونية والعرضية والحدوث. وإنما هذه معان تتعدد للعقل وليست بذوات ثابتة موجودة تركب منها السواد, فإن ذلك محال. وإلا في الوجود الخارج ليس إلا ذات هي بياض وذات هي سواد فلا مشاركة إلا في الاسم على هذا.

واعلم أن التشبيه يكون بالوجود ويكون بالذات ويكون بالصفات ويكون بالأفعال ويكون بالزمان ويكون بالمكان. والمشبهة على سبع مقالات لكل مقالة صنف وكلها تشترك عند التحقيق في أمر واحد. فأولهم المجوس لعنهم الله زعموا أن الإله جسم وجوزوا عليه الذهاب والمجيء والمقابلة والقهر والغلبة وزعموا أن الشيطان كان يحاربه فخاف الغلبة منه على نفسه فصالحه إلى مدة ذكروا أنها سبعة آلاف سنة على زعمهم. فإذا انقضى أجلها كانت القوة له فأخذ سيفه وقتل عدوه وعاد الأمر إلى نظامه وذهب الشر من عالمه. والذي دعاهم إلى إثبات الجسمية طلب معرفة ربهم ومعبودهم من المحسوسات وما يتشكل في الأوهام, وكذلك كل من شاركهم. وإذا كان الباري تعالى جسم يجوز عليه ما يجوز على الأجسام. ثم هو مع ذلك قديم فما المانع من كون العالم كله قديماً وكله آلهة. وسيذكر الدليل على استحالة كونه جسماً في موضعه عند ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى.

 وأما ما ذكروه من قصة الشيطان وصدور الشر منه والمحاربة وغير ذلك فسببه الاختلاف في الإرادة. وذلك أنهم زعموا أن الله سبحانه حكيم والحكيم لا يريد إلا الخير ولا يفعل إلا الخير, والسفيه لا يريد إلا الشر ولا يصدر منه إلا الشر. ورأوا الموجودات فيها شر وخير. فطلبوا للشر موجوداً آخر فزعموا أنه الشيطان اغتراراً منهم بالظواهر الواردة في الشيطان في كتبهم أن سبب وجود الشيطان منه أن الرحمن فكر فكرة ردية فحدث منها الشيطان وأن سبب الفكرة أنه لا يأمن أن يدخل[60] في ملكه من ينازعه. وما ذكروه باطل خارج عن المعقول من خمسة أوجه: أحدها في الفكرة فإنها لا تخلو من أن تكون خيراً أو شراً فإن كانت خيراً فلا يتولد منها شر وإن كانت شراً فقد فعل الإله وهو يزدان بلغتهم الشر, وهو محال عندهم أن يفعل الشر.

الثاني أنه لا يخلو إما أن يكون عالماً بعواقب الأمور فيكون عالماً بما يتولد من الشيطان فإن كان عالماً, فيكون  [12و] فاعلا للفكرة والشيطان على بصيرة. وإن كان غير عالم فيكون جهله بذلك شراً فعلى الوجهين يكون موصوفاً بالشر. والثالث أن الشيطان لما تولد من الفكرة لم يخل الإله من أن يكون قادراً على إماتته أو غير قادر. فإن كان قادراً فيكون تركه للشيطان إلى أن قوي شراً, وإن كان غير قادر فيكون ضعفه عنه شراً أعظم منه. والرابع أن صلحه لا يخلو من أن يكون خيراً أو شراً فإن كان خيراً فقد وجد من كل واحد منهما ما هو خير وإن كان شراً فقد وجد من كل واحد منهما ما هو شر. وكذلك السيف ووضعه إن كان خيراً فقد اتفقا عليه وإن كان شراً فقد اصطلحا عليه. ونزيد معنى سادساً فنقول كلما حدث في مدة الصلح من فساد أو صلاح في العالم فيكون باتفاق من الرحمن والشيطان فيكون الرحمن قد ساعد الشيطان على الفساد ويكون الشيطان قد ساعد الرحمن على الصلاح والخير.

والفرقة الثانية من فرق المشبهة النصارى لعنهم الله زعموا أن الإله سبحانه جوهر, وعنوا به أنه أصل الأقانيم. والأقانيم عندهم ثلاثة: الوجود والحياة والعلم. فيسمون الوجود أباً والعلم ابناً والحياة روح القدس. وقد يسمونها كلمة ولا يريدون بالكلمة الكلام, فإنه مخلوق عندهم. والأقانيم عندهم هي الخواص وهي بمنزلة الأحوال عند مثبتيها. ثم هذه الأقانيم هي الجوهر بلا مزيد, والجوهر واحد والأقانيم ثلاثة, والحال مثل التحيز للجوهر وقبول الأعراض عند من أثبت الأحوال. ثم زعموا أنه حل في قالب مريم ثم في قالب عيسى وظهر به. ثم اختلفوا في كيفية الظهور, فزعم قوم منهم أن عيسى صار إلهاً وقال آخرون أن الإله صار إنساناً. ثم زعموا أن اليهود لعنهم الله قتلته. فمن زعم أن الإله صار إنساناً زعم أنه قتل وصلب ثم دفن ثم ارتفع من قبره إلى السماء. ومن زعم أيضاً أن الإنسان صار إلهاً كان ذلك قوله. وزعمت طائفة منهم أن كل واحد منهما لم ينقلب عن حقيقته وأن القتل حل بالناسوت دون اللاهوت, وأنه لما قتل عيسى خرج الإله منه ورجع إلى السماء.

وسبب ضلالهم ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والتعلق بظواهر ألفاظ أطلقها عيسى للحواريين. وهي أذهب إلى أبي وأبيكم وأطلقت في التوراة فقال: يا بني. ومذهب النصارى متناقض لفظاً ومعنىً. أما اللفظ فإنهم أطلقوا لفظ الجوهر ولفظ الأقانيم ولفظ الأب والابن وهي ألفاظ موهمة في موضعها. وزعموا أن الجوهر ثلاثة, ثم زعموا أن الثلاثة واحد وأن الواحد من الثلاثة صار ابناً, فآخر الكلام برفع أوله.  [12ظ]  وأوله برفع آخره. وأما من حيث المعنى فالأول لا يكون ثلاثة والثلاثة لا تكون واحداً وإلا فترتفع الوحدة والعدد.

فيقال لهم: الأقانيم موافقة للجوهر أو مخالفة؟ فإن قالوا موافقة أبطلوا مذهبهم وصار الأب أباً لنفسه والابن ابناً لنفسه. وهو باطل أيضاً من حيث أن الأب والابن من الأمور الإضافية, وكل مضافين غيرين. وإن قالوا مخالفة للجوهر والجوهر يخالفها فهم إذاً أربعة وهم يأبون ذلك.

ثم نقول لهم أيضاً: الاقانيم في أنفسها متفقة أو مختلفة؟ فإن قالوا هي متفقة فقد صار الأب والابن وروح القدس واحداً, فيغني أحدهما عن الاثنين. وهذا مما يأبونه غاية الإباء. وإن قالوا هي مختلفة قلنا تخالف ذواتها وأنفسها أو غيرها؟ فالأول باطل لأن الشيء لا يخالف نفسه, وإن خالفت غيرها فقد صارت أربعة.

ثم اتخاذ عيسى ابناً إما أن يكون على سبيل البعضية أو على سبيل التناسل الحادث عن المباعضة أو على معنى التبني. فالأول باطل فإنه تعالى ليس مما يتجزأ ويتبعض. وجعل أقنوم العلم بعضاً له ليس بأولى من جعل الحياة بعضاً وجعل القدرة بعضاً, لأن الجوهر العام الذي يجمع هذه الصفات سماته. والثاني باطل لأنه يقتضي زوجه قديمة وذلك لا يجوز على القديم وفيه إثبات الإلهين وفيه إثبات المماسة. والثالث مستحيل لأن التبني اتخاذ غير الابن ابناً تشبيهاً بالابن, والابن مستحيل على القديم, والتشبيه بالمحال محال.

وإن زعموا أن ذلك على معنى الكرامة والرحمة. قلنا لو جاز ذلك لجاز لسائر النبيين إذ لا سبيل إلى اختصاص عيسى دونهم. وإن قالوا هذه التسمية وردت شرعاً في الإنجيل. قلنا وقد وردت في التوراة أيضاً فليكن موسى ابناً. واختلفت النصارى في عدد الآلهة فصرحت الروم بإثبات ثلاثة آلهة وامتنع من ذلك اليعقوبية والنسطورية من وجه والترموه من وجه فقالوا الكلمة إله والروح إله والأب إله. والثلاثة أقانيم الذي كل واحد منها إله[61] واحد, فصرحوا بالنترام التثليث وردوا الثلاثة إلى واحد. وهذا لا ينفعهم لأنا بالضرورة نعلم أن الثلاثة أكثر من الواحد, والاتحاد من غير حقيقة لا يفيد. ويلزمهم أن تكون الثلاثة أقانيم أقنوماً واحداً وهم يأبون ذلك. ثم الأقانيم لا تخلو أن تكون موجودة أو معدومة أو لا موجودة ولا معدومة. فإن كانت موجودة بطل كونها أقنوماً. ثم لا يخلو أن تكون قائمة بأنفسها أو غير قائمة بأنفسها. فإن كانت قائمة بأنفسها بطل أن تكون أقنوماً أو خاصية, وإن كانت غير قائمة بأنفسها بطل كونها آلهة, وإن كانت معدومة بطل كونها إلهاً.

ويقال لمن قال منهم  [13و]  أن الأقانيم ذوات وآلهة, لا يخلو أن تكون الأقانيم متساوياً في العلم والقدرة أو متفاضلة, يعلم بعضها ويقدر ما لا يعلم الآخر وقدر على ما لا يقدر عليه الآخر. فإن كانت متساوية كان ما زاد على الواحد غير محتاج إليه وهذا على مذهبهم أكد, فإنهم لا يجيزون أن يكون في الموجودات الحادثة ما لا معنى لوجوده فضلا عن القدماء. وإن كانت متفاضلة كان المفضول ناقصاً فلا يكون إلهاً, إذ الإله لا يكون معدوماً. وإن كانت لا موجودة ولا معدومة بطل كونها إلهاً. ثم لا واسطة بين الوجود والعدم, ثم كل أقنوم إما أن ينفرد بالفعل أو لا ينفرد به. فإن لم ينفرد به فكيف يصح كونه إلهاً, وإن انفرد كل أقنوم بالفعل منع منه دليل التمانع, وإن انفرد أحدهما دون الآخرين كان المنفرد أولى بالإلهية.

وقد ذكر المتكلمون مذاهبهم وأكثروا في الرد عليهم.  وفيما ذكرناه غنية فإن مذهبهم مما لا يعقل وهو العقل والمعقول الذي ذكره الفلاسفة. ولو هدوا لمراشدهم لعلموا أن الإله واحد, وهو الفاعل, وهذه الأقانيم صفات له.

وأما كلامهم في الاتحاد فهو مما لا يخفى فساده على عاقل عامي فضلا عن العالم. وفيه وقع الغلط الأعظم. فزعم النصارى لعنهم الله أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت منه الذي هو الجسد. ثم اختلفوا في كيفية الاتحاد. فزعم بعضهم أن المراد به حلول الكلمة بجسم المسيح كما يحل العرض الجوهر. ويلزم منه انتقال الصفة القديمة إلى الحادث وإبطال الأقنوم وإبطال الجوهر الذي هو أصل الأقنوم, فإن الخاصية إذا بطلت بطل ذات الشيء كالتحيز مثلا لو بطل من الجوهر لبطل ذات الجوهر.

وذهبت طائفة من اليعقوبية والنسطورية إلى أن المراد به أن الكلمة مازجت جسم المسيح وخالطته مخالطة اللبن الماء. ويلزم منه انقلاب الأقانيم جسماً, فإن الممازجة والمخالطة لا تكون إلا بين الأجسام وهي المجاوزة الواقعة بين النهايتين إلا أن الحس لا يدرك التفرقة بينهما. وفيه إبطال الجوهر بانقلاب أقنومه. ثم انقلاب الشيء شيئاً آخر محال سواء كان ذلك الشيء قديماً أو حادثاً, فإنه إما أن يكون حقيقة موجودة فلم ينقلب, وإما أن تكون معدومة ووجد غيره فلم ينقلب. وذهب معظم اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحماً ودماً. وفيه مع الاستحالة المتقدمة انقلاب القديم حادثاً ويلزم منه انقلاب الجوهر عرضاً, والعرض جوهراً, والعلم جهلا, والسواد بياضاً.  وهذه سفسطة, ومن انتهى معقوله إلى هذا الحد سقطت مكالمته.

وذهبت الروم إلى الامتزاج كما بينا وزادوا فقالوا صار شيئاً  [13ظ]  واحداً. وفيه مع ما تقدم كون الاثنين واحدا, ويلزم منه كون العالم هو الله تعالى وكون السماوات والأرض سبباً واحداً.

وذهب قوم من النصارى وأشباه من كل حزب وهم أعقلهم لما ظهر لهم ما ظهر من فساد هذه الأقاويل إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت. ثم اختلفوا في الظهور فقال بعضهم هو كظهور الوجه في المرات. وقال الآخرون هو كظهور نقش الخاتم في الشمع فنقول قد علم بالضرورة أن عين الإنسان وعين الخاتم ما حلت في المرات والشمع بدليل جواز أحدهما مع عدم الآخر, وذلك في الخاتم والشمع. فإن الذي في الشمع بعض الشمع تركب برطوبته على شكل الخاتم. وأما الذي في المرات فإن الله تعالى أجرى العادة عند مقابلة الإنسان المرات وما سواها من الأجسام الصقيلة أن يخلق له رؤية ذاته حيث هو بإدراك يحدثه الله عز وجل عند أهل الحق وبانعكاس الشعاع عند قوم من المعتزلة. ثم غاية ما يتخيل في المرات مثال الشخص المقابل لا عينه وفي الشمع مثال الخاتم لا عين الخاتم. فإن قالوا أنه لم يحصل في الناسوت شيء من الأقانيم الأمثال فيلزم منه أن لا يكون المسيح إلهاً. وإن قالوا أنه قد حصل في الناسوت عين الأقنوم الذي فقد عادوا إلى مذهب إخوانهم, وبطل قولهم في الظهور. وإن زعموا أنه بحصول مثال الأقنوم في الناسوت يكون إلهاً, فتكون الألهة أربعة: الأقانيم الثلاثة ومثال الأقنوم الذي صار به المسيح إلهاً.

والفرقة الثالثة بعض اليهود لعنهم الله زعموا أن الإله جسم, له وجه وصورة كصورة خلقه, وجوزوا عليه الحركة والسكون, وأثبتوا له الحد والنهاية, وزعموا أنه خلق العالم في ستة أيام ثم استرح في اليوم السابع مما ناله من التعب فلم يعمل فيه وعلى هذا يمتنعون من العمل فيه, وجوزوا عليه الغم والفرح والبداء في الإرادة والغضب والرضى. وطائفة من اليهود يعتقدون مذاهب المعتزلة, وبعضهم يعتقدون مذاهب الفلاسفة. وذلك بحسب ما نشأت عليه كل طائفة.

والفرقة الرابعة غالية الروافض لعنهم الله زعموا أن الإله سبحانه حل في قالب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم في قالب علي رضي الله عنه ثم انتقل إلى الحسن ثم إلى الحسين. ثم اختلفوا فيمن انتقل إليه بعد هؤلاء فقال قوم أنه انتقل إلى قالب على بن الحسين إلى أن صار إلى إسماعيل بن بيان وهم الإسماعيلية وهو قول القرامطة أيضاً. وزعم آخرون أنه انتقل إلى محمد بن الحنفية. وزعموا بأجمعهم أن من حل فيه الإله في وقت كان إلهاً على الحقيقة واحداً بعد واحد على التناسخ. وهؤلاء نسجوا على منوال النصارى وزادوا  [14و]  عليهم بالتناسخ مع وجود الإله بجملته فيمن حل فيه دون صفة من صفاته.

والفرقة الخامسة جمهور الإمامية من الشيعة لعنهم الله إمامهم هشام بن الحكم[62], زعموا أن الله سبحانه جسم مماس للعرش طوله سبعة أشبار بشبر نفسه تعالى الله عن قولهم,[63] وجوزوا عليه الحد والنهاية والحركة والسكون. وسائر الإمامية في غير قومسن يقولون في الصفات بقول المعتزلة.

والفرقة السادسة الكرامية والحشوية من أهل البصرة وأهل الجبل من طبرستان وأهل هذاة يقولون أن الله خلق آدم على صورة الرحمن وأن له يداً ورجلا وأصابع رئساً وشعراً وأنه جالس على العرش فوقه قبة أخضر أو أنه يفرح ويضحك ويماس ويسكن ويتحرك. ذكر ابن كرام[64] في كتاب لقبه بعذاب القبر[65] في باب التوحيد أن الإله سبحانه جوهر وجسم يتحرك ويسكن ويغتم ويفرح, ومن نفى هذه الصفات عنه فقد شبهه بلا شيء, ومن شبهه بلا شيء فقد تزندق وكفر. وقال في باب النزول أنه ينزل من العرش إلى السماء الدنيا فلا يمر بسماء إلا وتنشق من ثقله عليها. وقال في باب وصف اليدين أن الله خمر طينة آدم بيده أربعين يوماً ثم أدخل يده فيه فضربه ثم صوره فكان الطين يخرج من بين أصابعه ثم فرك إحدى يديه بالأخرى. وهذا غاية التشبيه وهو تشبيه الخالق بالمخلوق. وهذا الكتاب عندهم من مكون العلم لا يدفع إلى أحد إلا بالعهد والبيعة بعد المعرفة بالإخلاص والتدين بدين صاحب المذهب. وكان أصحابه قبل هذا الزمن يظهرون كثيراً من هذه الأقاويل ويناظرون عليها. فلما اشتهر أمرهم وقبح مذهبهم عند الخلق امتنعوا عن إظهار كثير منها واقتصروا على أن يناظروا من جملة مذهبهم على أنه جسم وصفاته أعراض, وأنه محل للحوادث, وله حد ونهاية, وأنه يماس العرش ويقابله وليس بينه وبين العرش واسطة.

وأما الحشوية من الحنابلة فإنهم يقرون بكل ما دكيناه من كلام الكرامية. ولكنهم يذمون الكلام وأهله ولا يرون المناظرة ولا الجلوس إليها ولا الاستماع ممن يراها. وإنما أتوا هؤلاء من ضعف عقولهم وطلبهم معبودهم من المحسوسات وكون نفوسهم قد ألفت ذلك وما انغرس في نفوسهم الضعيفة من الحض على التقليد وذم المناظرة والجدال في الدين. وما التزموه أعظم مما احترزوا منه, فإنهم احترزوا أن لا يضلوا فقلدوا فضلوا وأضلوا نعوذ بالله من الخذي مع أن شمس التوحيد المذهبة لظلام التشبيه والتقليد طالعة في سماء قوله تعالى "ليس كمثله شيء"[66]

والفرقة السابعة من فرق المشبهة طائفة من  [14ظ]  الحلولية وهم الحنبلية من الحشوية يزعمون أن الله سبحانه على صورة غلام أمرد, وأنه يسير بين الخلق ولا يعرفه إلا ولي. وهذا تشبيه المخلوق بالخالق.

 وهؤلاء كلهم مشبهون في الذات والصفات والمكان والأفعال, ويعتقدون أن الصانع قديم لا أول له. والمشبهة بالزمان الفلاسفة فإنهم زعموا أن الله مع العالم زماناً كما زعمت الكرامية أن الله مع العالم مكاناً. ومن المشبهة من نفى الجسمية ولم يطق نفي عوارضها فأثبت الجهة.

ووجه فساد هذه الأقاويل مع كونها خارجة عن المعقول أنه إذا جاز أن يكون الإله القديم على هذه الصورة وتجوز عليه الحركة والسكون والمحاذات والمقابلة جاز أن يكون العالم بما فيه قديماً. وإن كان يتحرك ويسكن يجتمع ويفترق وتحله الحوادث, فإن وجب حدوث العالم لهذه الصفات وجب مثله في الإله فيلزم منه أحد أمرين: إما حدوث القديم أو قدم العالم وكلاهما محال فالمؤدي إليه محال. ولهم شبه معنوية وسمعية يزعمون أنها أدلة نذكرها. والجواب عنها عند شرحنا الأدلة في الدليل على استحالة كون الباري تعالى جسماً إن شاء الله لئلا يطول الكلام.

ثم قال الأستاذ رضي الله عنه كلمة وجيزة جامعة لنفي أنواع التشبيه وهي [ وتحقيقه أنه لا يتصور في الوهم وما دونه يقبل هذه الصفة ] فقوله تحقيقه أي أن حقيقة ما يمنع المشابهة بينه وبين خلقه أن من صفة نفس الباري, وحقيقته أنه لا يحيط به الوهم, إذ لا يحيط الوهم إلا بمحدود محسوس. وما من موجود سوى الإله إلا والوهم يحيط به إما تحقيقاً أو تقديراً فكيف يحصل التشبيه فيما لا يحيط به الوهم. والمخالفة تقع بصفة واحدة من صفات النفس الخاصة.

ولذلك قال الإمام أبو المعالي[67] رحمه الله: من انتهض لطلب مدبره فإن اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه. وذلك من حيث أن كل ما تصور في الأوهام فالله بخلافه. ثم قال: وإن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل وذلك من حيث أنه لما كاع وهمه عن إدراكه ظن أن ما لا يحيط به الوهم ولا يدركه الفكر ولا يكيفه العقل نفي محض, فعطل الصنع عن الصانع في اعتقاده لا في الحقيقة وهو مأمور بالاعتراف بالصانع. ثم قال: وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موجد, وهو معنى قول الصديق رضي الله عنه "العجز عن درك الإدراك إدراك" معناه أنك إذا عرفت المصنوعات وعرفت أن لها صانعاً ولم تزل  [15و]  تفكر حتى ظهر لك بالبرهان القاطع أن الله تعالى لا تكيفه الأوهام والعقول ولا تحيط به وأنها عاجزة عن ذلك؛ عرفت أنك أدركت المطلوب منك, فإن طلب التكييف تشبيه فالعجز إذاً عن إدراك التشبيه معرفة والوصول إليه تشبيه ونفي ما لا يكيف تعطيل. وينشأ من هذا مسلة وهو أن الصانع تعالى هل يعلم على الحقيقة أم لا؟ وسنذكر المسلة في شرح الأسماء من هذه العقيدة إن شاء الله.

                                          التنبيه

اعلم أن الوجود على ضربين: مطلق ومقيد. فوجود الباري تعالى مطلق ووجود العالم مقيد,  والتقييد هو التخصيص. وجملة التقييدات في العالم عشرة: أحدها التقييد بالفاعل المختار وهو عام في جميع العالم. ومن تقيد وجوده بالفاعل المختار استحال عليه الوجود دونه. وكذلك كل من تقيد بشيء. وثانيها: التقييد بالخواص المتعددة المتفقة والمختلفة والمتضادة الحالة منها والمتحيزة. وثالثها: التقييد بالحال المنفردة والمؤتلفة والمجتمعة والمفترقة. ورابعها: التقييد بالأمكنة المقدرة والمحققة. والخامس: التقييد بالأزمنة القبلية والبعدية. والسادس: التقييد بالجواز مثل جواز العدم دون الوجود, والوجود دون العدم, وجواز استمرار العدم دون الحدوث, وجواز استمرار الحدوث دون العدم. والسابع: التقييد بالجرمية كالجزء والجسم. والثامن: التقييد بالجهة المقدرة والمحققة. والتاسع: التقييد بالبنية المخصوصة والأشكال المميزة كالجمادية والحيوانية. والعاشر: التقييد بالهيئة المخصوصة كالميل والاعتدال والنقص والكمال المقيد دون المطلق والاستقرار والزوال والتغير والتحويل والاطراد والتبديل والعوارض والخواص والنماء والاستواء.

 فهذه جملة التقييدات, ويتعالى رب العزة عنها. فلو تقيد بواحد منها لذهب الوجود المطلق وتطرق إليه الجواز واستحال وجوده دون ما تقيد به. لو اختص وجود الباري تعالى بفاعل مختار لكان محدثاً, ولو اختص بزمن منحصر لكان منقضياً, ولو اختص بزمن ممتد لكان من جملة الزمانيات, ولو اختص بجهة لكان متحيزاً, ولو اختص بمكان لكان مقدراً, ولو اختص بسبب معتاد لكان مفتقراً, ولو اختص بمقارنة جرمية لكان متناهياً, ولو اختص بشكل لكان مصوراً, ولو اختص بصورة مميزة لكان مكيفاً, ولو اختص بخاصية مثلية لكان مماثلا, ولو اختص بخاصية جنسية لكان مساوياً أو بخاصة ضدية لاستحال وجود غيره معه وكان من جملة المتضادات. وإذا  [15ظ]  تخصص المخصص بطل المخصص والمخصص والمخصصات لانقضائها.

                        [فصل في استحالة الحد والنهاية عليه]

والذي يليه من الفصول [ الاعتقاد باستحالة الحد والنهاية عليه ] اعلم رحمنا الله وإياك أن الحد في اللغة المنع وهو في العرف والاصطلاح اسم مشترك يطلق على الحقيقة فيقال: ما حد هذا الشيء أي ما حقيقته؟ وقد يطلق والمراد به رسمه في النفس بأي نوع كان. وقد يطلق والمراد به شرح الاسم. وما أراد الأستاذ شيئا من هذا. وقد يطلق والمراد به الحد الشرعي كحد الزاني والسارق ولم يرد هذا. وقد يطلق ويراد به انحياز الشيء عن غيره وانقطاعه منه تناهيه وهو الحد الهندسي كحد الدار والآبار وهو انقطاعها عن غيرها وتناهيها. وهو على ضربين: محسوس ومعقول. وهو الذي أراد الأستاذ رحمه الله.

 وذلك أن الحد بهذا المعنى يجب أن ينفى عن الله تعالى في أربع مواضع: في الوجود وفي الذات وفي الصفات وفي الأفعال. فالحد في الوجود كل مفتتح والوجود وإن طال وجوده. والحد في الذات كل منقطع الجهات وإن امتدت جهاته. والحد في الصفات التعلق ببعض المتعلقات وإن كثرت متعلقاته. والحد في الأفعال تناهيها وإيجاد بعضها دون بعض وإن كثرت أفعاله.

 فلو كان الباري تعالى محدوداً في الوجود لكان محدثاً متعلقاً بفاعل فعله وهو محال. ولو كان الباري تعالى محدوداً في الذات لكان متحيزاً. ثم لا يخلو أن يكون مفرداً أو مركباً فإن كان مفرداً كان جوهراً وإن كان مركباً كان جسماً. ثم لا يخلو أن يكون طويلا أو ربعاً أو قصيراً كما ذهب إليه هشام بن الحكم في كونه حدد الباري تعالى فقال: طوله سبعة أشبار بشبر نفسه كما تقدم من ذكر مذهبه. وإذا كان الباري متحيزاً تعلق به الجواز لتعلق التخصيص به ولزمته الحركة والسكون ولزمه الحدوث. ولو كان الباري محدوداً في الصفات للزمها التخصيص وفي لزوم التخصيص لزوم الحدوث على ما سنبينه في موضعه إن شاء الله. وكذلك الحد في الأفعال يلزم منه وجود الشريك. وقد قالت الكرامية وجميع الطوائف المشبهة المتقدمة ذكره بالحد في الذات. وقالت المعتزلة بالحد في الأفعال وكذلك الحد في الصفات.

وأما النهاية فهي غاية تصير الشيء ذا الكمية إلى مقدار ليس فوقه شيء منه كالجزء الفرد أو ليس وراءه شيء منه. والتناهي على ضربين كما قدمنا: محسوس ومعقول. والمحسوس على ضربين: زماني ومكاني. فالمكاني هو ما ذكرناه انتهاء حد جرم بجرم وجسم بجسم. والزماني كتناهي حد وقت لجسم بوقت لجرم أو جسم. والمعقول على ضربين: حد  [16و]  مركب من ذاتيات الشيء أو رسم مركب من لوازمه, وحقائق تتميز بها الموجودات العقلية من غير أن تكون مركبة. والتناهي أيضاً يقع في الأقسام الأربعة المذكورة, وهو التناهي في الوجود والتناهي في الذات والتناهي في الصفات والتناهي في الأفعال. والكل محال في حق الله تعالى, إذ كل واحد منها يؤدي إلى محال كما تقدم.

والذي يليه من الفصول [ الاعتقاد بأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ] فأما الكلام على الجوهر فنقول: الجوهر لفظة عربية, غيرتها الفرس بلغتها فقالوا: كوهر. وقيل لفظة فارسية أعربتها العرب. وهي موضوعة في كلا اللغتين للجوهر الذي يخرج من البحر, وهو الكبير من اللؤلؤ. وقد تستعمل في أصول الأشياء فيقال: فلان من جوهر نقي وفلان من جوهر ردي. فأخذ المتكلمون لفظة الجوهر ونقلوها إلى الجرم الذي لا يتجزأ, أرادوا بذلك ضبط المعاني وحصرها. وذلك أنهم لما كانوا مطالبين بمعرفة الصانع من طريق الاستدلال بالأفعال, إذ لا دليل عليه إلا الأفعال, ولا دلالة للفعل إلا بعد إثبات حدوثه. فبحثوا عما به يصح معرفة حدوثه فوجدوا الجوهر أصلا للأعراض في باب الثبوت والأعراض أصلا للجوهر في باب الحدوث. فبحثوا عن الجواهر والأعراض ورتبوا الكلام عليها. ونحن نذكر جميع ذلك على أوجز ما يمكن. لكن لما كان الجوهر في الاصطلاح اسماً مشتركاً, والاسم المشترك هو المتفق في اللفظ المختلف في المعنى وكان نفي الجوهر في العقيدة عاماً ويستحيل اعتقاد نفي شيء دون معرفة معناه؛ لزم بالضرورة أن لا يقتصر على معرفة بعض الاصطلاح دون بعض. بل لا بد من بيان المسميات التي وقع عليها اسم الجوهر.

                                      [فصل في الجوهر]

والجوهر واقع بحكم الاصطلاح على مسميات عدة: فيقال جوهر لذات كل شيء كان كالإنسان والبياض, فيقال جوهر البياض وذاته وجوهر الإنسان وذاته. وهذا يمتنع إطلاقه في حق الله تعالى شرعاً, إذ لا تجوز تسمية الباري تعالى إلا بما أذن فيه الشرع. ويمنع أيضاً للإيهام الحاصل.

 ويقال جوهر لكل موجود لا تحتاج ذاته إلى ذات أخرى تقارنها في الوجود بحيث لا يصح وجودها دونها حتى يكون وحده بالفعل. وهذا معنى قولهم الجوهر قائم بنفسه, وهذا أيضاً مثل الأول في منع الإطلاق وإن كانت ذات الله تعالى لا تحتاج في الوجود إلى ذات أخرى تقارنها.

 ويقال جوهر لما كان بهذه الصفة وكان من شأنه أن يقبل الأضداد بتعاقبها عليه. وهذا يمنع من  [16ظ]  إطلاقه عقلا, لأنه يدل على الحدوث, لأن ما قبِِل الحوادث حادث إذ الأضداد لا تجتمع ولا تنتقل. فلا بد من حدوث كل ضد.

 ويقال جوهر لكل ذات لا في المحل, والباري تعالى ذاته ليس في محل فيمنع إطلاقه شرعاً بهذا الاصطلاح. والأولى أن يمنع عقلا لمشاركة الهيولى له في هذا الاصطلاح, فإن الهيولى عند من قال بها جوهر لا في محل إلا أن قوامها في الوجود لا يكون إلا بالصورة, فلا تكون وحدها بالفعل فلا تكون قائمة بنفسها على هذا الاصطلاح.  

يقال جوهر لكل ذات وجوده لا في موضوع وعليه اصطلاح الفلاسفة المتقدمين. وهذا أيضاً يمتنع عقلا وشرعاً وإن كانت ذات الله تعالى لا في موضوع لمشاركة الصورة له في هذا الاصطلاح, فإن الصورة الجسمية جوهر لا في موضوع عندهم. ومعنى قولهم الجوهر موجود لا في موضوع أي الموجود غير مقارن الوجود لمحل قائم بنفسه بالفعل ولكنه مقوم له كالصورة المقومة للهيولى. وكل جوهر عندهم لا في موضوع لا بأس أن يكون في محل لا يتقوم المحل دونه بالفعل. والفرق بين الموضوع والمحل عندهم أن المحل ما لا يتقوم بنفسه بل بالصورة. والموضوع كل محل يتقوم بذاته لا بما يحله. ولا مشاحة في الاصطلاح بعد فهم المعاني.

 والمتكلمون لا يقولون شيء من هذه الاصطلاحات. والجوهر عندهم عبارة عن الجرم المتحيز الذي لا ينقسم ويسمون المنقسم جسماً. وهذا بحكم هذا الاصطلاح يمتنع إطلاقه عقلا وشرعاً. ونحن نذكر الآن الجوهر وما يتعلق به على طريقة أهل الحق.

فأقول وبالله استعين: أن الناس بالنسبة إلى إثبات الجوهر ونفيه على ثلاث فرق: فرقة قالوا: لا موجود إلا الأعراض فأنكروا الجوهر. وفرقة قالوا لا موجود إلا الجوهر فأنكروا الأعراض. وفرقة قالوا بإثبات الجوهر والأعراض. والذين قالوا بإثبات الجوهر والأعراض اختلفوا في إطلاق اسم الجوهر والعرض على ما ذا يطلقان. وقد ذكرنا أقسام ما ينطلق عليه اسم الجوهر. وسنذكر أقسام ما ينطلق عليه اسم العرض في موضعه إن شاء الله. وقد أنكرت الفلاسفة الجوهر الفرد على ما يقوله أهل الحق أنه لا ينقسم وأقروا بوجوده تحيزه. وزعموا أنه جسم مركب من الهيولى والصورة. وأقروا بأنه يتناهى بالفعل في القسمة ولا يتناهى بالقوة. وأنكره النظام[68]  وزعم أنه لا يتناهى قوة وفعلا. وأقر أنه يتناهى جملة ولا يتناهى تفصيلا. ونحن نذكر شرح ما وقع الإنكار له والإقرار به, فإنه لا يصح الإقرار بشيء ولا الإنكار له دون معرفته.

فقال أهل الحق رحمهم الله: الذي يقع به التمييز بين الجوهر  [17و]   والعرض هو كونه متحيزاً. ومعنى تحيزه حيثوثته وانقطاعه عن الجهات الخمس بحيث لو خلق الله جوهراً فرداً ثم خلق غيره لاستحال وجوده إلا في جهة من جهاته ولا يصح وجوده بحيث وجوده حتى يتعذر الفصل بينهما بالحس كما في العرض. والتحيز عندهم صفة نفسية للجوهر. وزعم بعض الناس أن التحيز صفة معنوية وهو محال.

والدليل عليه أنه لو كان صفة معنوية لما استحال تقدير بقاء الجوهر دونها عند عدمها وطريان ضدها إذ هذا حكم كل صفة معنوية. ومحال أن يتقدر وجود الجوهر دون تحيزه. والتحيز عند الفلاسفة صورة وهي جوهر في محل. ثم عدنا إلى الجوهر فقالوا أنه متحيز له حجم على معنى أن ذاته تمنع من ذات أخرى أن تحل بحيث هي, وأنه محل للعرض على معنى الاتصاف به, وأنه لا ينفك عن الأعراض لأنه قبلها لذاته, ولا يصح أن يمتنع عنها لذاته ولا بفاعل, وبها يصح بقائه ولا يوجد إلا في محاذات. وتصح عليه المماسة والتأليف ولا يتجزأ بالفعل ولا بالوهم ولا يتصور بالشكل, ولا له طرف. وأنه يصح أن تحيط به ستة أمثاله من الجواهر ولا يتصل به أكثر منها, وأنه إذا اجتمع اثنان من الجواهر استحال أن يوضع عليها ثالث, فإن القول به يقتضي تنصيف الجوهر, وأن له قسطاً من المساحة. ومعنى ذلك أنه إذا أضيف إلى غيره من الجوهر أمكن ذرعه. وأن الذي يجب للجوهر التحيز والحجمية والنهاية وقبول العرض والقيام بالنفس بمعنى الاستغناء عن المحل وهو حكم ثابت يتضمن نفياً والحدوث. وأن الذي يجوز له وجود أحاد الأعراض به والبقاء والاختصاص ببعض الأماكن والجهات وعدمه. وأن الذي يستحيل عليه خروجه عن صفة نفسه وهو كونه جوهراً في العدم متحيزاً في الوجود, فإن فيه انقلاب جنسه. ويستحيل عليه الانقسام والقدم. وكل ما جاز قيامه بالجوهر في حال الاجتماع جاز قيامه به في حال الافتراق إلا المماسة وهي التأليف والاجتماع على قول من أثبتها معنى زائداً على الحركة والسكون والجوهر كلها متماثلة بهذا الاصطلاح. وخالف النظام والفلاسفة في ذلك وزعموا أن الجوهر مختلفة. قد ذكرنا معنى التحيز ونريد أن نذكر معنى المتحيز وهو كل جرم منقطع هو في تقدير مكان أو كل ما يشغل الحيز. ومعنى شغل الحيز أنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن أن يكون فراغاً. هذا كلام الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله في كتاب الوصف والصفة. وقال القاضي رضي الله عنه  [17ظ]  المتحيز هو الجرم أو الذي له حظ من المساحة والذي لا يوجد بحيث وجوده جوهر احترازاً من العرض. وقال الإمام[69] الحيز هو المتحيز نفسه ثم إضافة الحيز إلى الجوهر كإضافة الوجود إليه. فهذه صفة الجوهر عند الأشعرية رضي الله عنهم. وفي كل ما ذكرناه النزاع وهنا أذكر لكل فصل منه دليلا.

                         [فصل في إثبات الجوهر الفرد واستحالة انقسامه]    

    اعلم أن أهل الحق رحمهم الله قد استدلوا على إثبات الجوهر الفرد بأدلة منها هندسية ومنها حسية ومنها عقلية ومنها مركبة من الحس والعقل.

 فأما الهندسية فالكرة على البسيط, فإنها تلاقيه بغير منقسم وهو الجوهر الفرد. فإنها لاقتة بمنقسم ارتسم في البسيط بالملاقاة خط ذو طول وعرض, وإذا ارتسم في البسيط خط ذو طول وعرض فمثله يرتسم في الكرة. وذلك يخرجها عن كونها كرة, وتكون مسطحة. وهذا باطل, فإن الكرة على غاية الاحديداب ونهاية التشمير.

وأما الحسية فإن في المصير إلى إنكار الجوهر الفرد إنكار تفاوت الأجسام. وإنكار تفاوت الأجسام محال, فإنه إبطال للجسم. فإنكار الجوهر الفرد محال, وبالمشاهدة نعلم أن الجبل أضعاف الذرة, وما لا نهاية له لا يكون غيره أكثر منه. وقال أبو الحسن رحمه الله: في المصير إلى إنكار الجوهر الفرد إنكار وجود الأجسام. وذلك أن الأجسام متركبة من الأجزاء, وكل جزء إذا كان يتجزأ إلى غير نهاية استحال وجود الجسم لأن وجوده موقوف على ما لا يتناهى, ووجود ما لا يتناهى محال, فوجوده محال.

 وقال الأستاذ أبو إسحاق: قد ثبت تناهي الأجسام من حيث الجملة ضرورة, ويستحيل أن تكون الجملة المتناهية تشتمل على ما لا يتناهى لا قوة ولا فعلا. وقال أيضاً قد تقرر في العقل أن الفصل في الجملة يصح وأنه لا يصح إلا عن طرفين منهما كان الوصل, فلو كان لا نهاية لأجزاء الجملة لم يكن طلب الطرف الذي يقع به الفصل, إذ لا يقع في الوهم على موضع منها إلا كانت أجزاء يجب طلب ما دونها لصحة الفصل به على غير نهاية فيه, واستحال معه الوصول إلى الطرف.  

وأما المركبة من الحس والعقل, فإن في المصير إلى إنكار الجوهر الفرد إنكار الحركة الحسية, وإنكار الحركة الحسية محال, فإنكار الجوهر الفرد محال. ومثال ذلك أنا إذا فرضنا خطاً على البسيط مثلا وفرضنا جوهراً تحرك عليه فلا يقطعه أبداً, فإنه لا يقطع منه شيئاً إلا بقى مثله إلى غير نهاية. فإذا قطعه علمنا أنه ما قطع نصفه حتى قطع ربعه ولا ربعه حتى قطع ثمنه وهكذا إلى المبدأ. فإن لم يكن لهذه الحركة نهاية من جهة الانعكاس لم يكن لها نهاية من جهة المبدأ. فإذا كان له نهاية من جهة  [18و]  المبدأ دل على أن لها نهاية من جهة الانعكاس.

وأما العقلية فإن من انتظر أن يخرج من الذرة أجزاء السماء بل وأضعافها لم يكن ممن تصح مكالمته. ومعتمدنا في الدليل شيئان: أحدهما أن الاتصال متناه ضرورة فالانفصال كذلك, فإنه لا يصح في غير متصل. والثاني أن غير المتناهي لا يصح وجوده, وأن المتناهي لا يحصر ما لا نهاية له. وقد أقر الفلاسفة بذلك وقالوا كلما ذكرتموه صحيح في تقدير أجزاء في الجسم بالفعل, فإن الجسم المتناهي لا يشتمل على أجزاء غير متناهية بالفعل. وإنما يلزم ما ذكرتموه النظام في مصيره إلى أن المنقسم والانقسام لا يتناهيان. وأما من يقول أن المنقسم يتناهى والانقسام لا يتناهى لا يلزمه ذلك, فإن المتناهي بالفعل لا يجوز أن يحصر غير المتناهي بالفعل, ولكن يجوز أن يحصر غير المتناهي بالقوة فما المحيل لذلك.

قلنا: المحيل لذلك أن الانقسام لا يكون إلا في منقسم. فإذا كان المنقسم يتناهى فمن ضرورته تناهى الانقسام. وما قدرتموه من الانقسام بالقوة إلى غير نهاية هل يخرج إلى العقل أم لا يخرج؟ فإن لم يخرج فهو وهم دل على خلافه برهان العقل. وإن خرج لزم المحال الذي ذكرناه وأقررتم به.

 وأما إبطال ما ذكروه من الهيولى والصورة فنقول: الهيولى عندكم جوهر غير متحيز في الذهن. والصورة جوهر غير متحيز في الذهن. فلما وجدا وجدا على صفات أنفسهما أو تغيرا في الوجود. فالأول محال, فإنه يؤدي إلى نفي التحيز عنهما في الوجود. والثاني محال فإنهما وجدا على خلاف ما علما. ثم نقول: أنتم ما أدركتم إلا أجساماً متحيزة فما دليلكم على أنهما جوهران أحدهما هيولى والآخر صورة؟ فإن قالوا: الدليل على ذلك أن كل جسم قابل للانفصال[70], والانفصال والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال. وكذلك الانفصال فلا بد أن يكون ثم قابل يبقى مع طريان أحدهما ومع عدم الآخر. قلنا: الاتصال الطارء والانفصال طريا على موجود أو على معدوم وما معنى الاتصال والانفصال. فإن قلتم: طرأ على موجود فالهيولى لا تكون موجودة إلا مع الصورة. وإن قلتم: طرأ على معدوم فالاتصال والانفصال لا يطرأ على معدوم. ثم الاتصال معناه مماسة نهاية جسم لنهاية جسم آخر أو جوهر بحيث تكون نهايتهما واحدة. فلو لم يكن ثم موجودين لما تصور اتصال. والانفصال تباعد النهايتين فما لم تكن نهاية لم يكن اتصال ولا انفصال.

                                    [فصل في تجانس الجواهر]     

 

  والجواهر كلها جنس واحد, جوهر السماء وجوهر الأرض وجوهر الماء وجوهر النار وجميع الجواهر كلها. ومعنى القول في الجواهر أنها جنس واحد أن كل ما جاز على واحد منها جاز على الآخر  [18ظ]  وما وجب لبعضها وجب لكلها, وما استحال على أحدهما استحال على الآخرين ولا يقع الاختلاف بينهما في أنفسهما لاختلاف ما قام بها من الحركة والسكون. والألوان والطعوم والحرارة والبرودة فإن هذه أعراض مخالفة للجواهر وزعمت الفلاسفة أن الجواهر مختلفة بعد الوجود باختلاف صورها, فالنار جسم صورته الحرارة والماء جسم صورته البرودة والهواء جسم صورته الرطوبة والأرض جسم صورته اليبوسة.

والدليل على ما قلناه أن العصير يكون حامضاً في العنب فيصير حلواً ثم يصير حامضاً مع بقاء عينه في وصفه ووزنه ومساحته فبان أن الحموضة أعراض عدمت مع وجوده والحلاوة معان حدثت مع بقاء عينه. ولا يتصور الانقلاب إلا ببطلان شيء وحدوث غيره, لأنا إذا قدرنا الحلاوة جوهراً وكانت جوهراً لنفسها استحال انقلابها عن صفة نفسها. وكذلك في جميع الأشياء.

ولا يصح وصف المعدوم بأنه جوهر. وزعم جمهور القدرية أن الجوهر جوهر في العدم وفي الوجود, وبنوه على أصلهم في أن المعدوم الممكن شيء ثابت في العدم. وأول من أحدث هذه المقالة وهو أن المعدوم شيء الكعبي[71] إلا أنه لم يقل أنه جوهر ولا عرض إلى أن نبغ أبو على الجبائي[72] وولده أبو هاشم[73] فقالا أن الجوهر جوهر لنفسه وأن العرض عرض لنفسه وأن المماثلة والمخالفة تكون بالذوات الثابتة في العدم لا بما توجده القدرة لما في مساق القول بذلك من اتصاف الباري تعالى بالقدرة على أن يقلب الجوهر عرضاً والعرض جوهراً, وذلك محال. ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن نبغ الشحام فزاد التحيز في العدم. والذي أوقعهم في ذلك ما سمعوه من الفلاسفة في ذكر الهيولى وكونها جوهراً بالقوة وهو خطأ. ويزعمون أعني المعتزلة أن معنى ذلك أن له حالة في العدم يعلم بها ليحصل بذلك التمييز بينه وبين العرض. وتلك الحال توجب له على الاختصاص اشتغال الحيز في الوجود.

فنقول: إذا أشار مشير إلى جوهر معين فيسئلكم معاشر المعتزلة فيقول: هل كان هذا الجوهر قبل وجوده شيئاً ثابتاً جوهراً جسمانياً من حيث هو هذا أم كان جوهراً مطلقاً شيئاً عاماً غير متخصص بهذا؟ فإن قلتم: بالأول لزمكم تحقيق الإشارة إليه بهذا ويكون ذلك المشار إليه بهذا هو هذا, لأن هذا لا يشاركه فيه غير هذا وهو محال, إذ يلزم منه قدمه. وإن قلتم بالثاني لزمكم أن ما هو ثابت في العدم لم يتحقق له وجود. وما تحقق له الوجود لم يكن ثابتاً في الأزل.

وإنما أوقعهم في هذا الأمر ما سمعوه من أن الصفة الذاتية لا تنسب إلى الفاعل. وهو حق ولكنهم  [19و]  ما فهموه. وبيان ذلك أن ما ثبت للشيء المعين من الصفات التي هو قد تعين غير ما ثبت له من الصفات التي هو بها قد تنوع وتجنس. والأولي لا تسمى بصفات ذاتية إلا على معنى أنها عبارات عن ذاته المعينة, فيكون وجوده وجوهريته وعينه وذاته عبارات عن معنى واحد. وكما يحتاج في وجوده إلى الموجد يحتاج في عينه وذاته وجوهريته إلى الموجد. وجواز الوجود بعينه هو جواز الثبوت. وهو بعينه في أن يكون عيناً وبجوهريته في أن يكون جوهراً لا يستغني عن الموجد, وإلا فيلزم أن تستغني الأشياء كلها عن الموجد من جميع وجوهها وصفاتها إلا الوجود فحسب على أنه حال عندهم. والحال لا توصف بالوجود. ثم الوجود من حيث هو وجود لا يفتقر إلى الموجد بل وجود مخصوص هو بصفة الإمكان يفتقر إلى الموجد. ثم الوجود الممكن من حيث هو عام لا يتحقق له وجود بل وجود ممكن هو بصفة كذا هو الذي يتحقق له الوجود بشرط أن يكون مراداً.

ويلزم المعتزلة على قولهم أن المعدوم شيء نفي أثر القدرة أصلا, إذ الحال لا يعقل ولا يعقل على انفرادها وإثبات شريط لله تعالى في العدم لأنه معلوم وكل ما هو معلوم شيء عندهم, وإثبات كون المستحيل شيئاً من حيث كان معلوماً أو نفي كونه معلوماً إن لم يكن شيئاً, وإثبات نفي الأعراض معدومة وموجودة لإثباتهم حالا للحدوث من غير معنى, ونفي جميع الصفات النفسية عن الجواهر والأعراض في العدم, وقيام الأعراض بأنفسها في الوجود كما قامت بأنفسها في العدم, ومنها كون الشيء قبل نفسه ومنها أن افتقار العرض إلى المحل في حدوثه إن كان لنفسه وهو كذلك فيلزم افتقاره إليه في العدم, وإن كان لحدوثه فيلزم افتقار الجواهر إلى المحال, ومنها تماثل البياض الموجود البياض المعدوم لاشتراكهما في أخص الأوصاف وهو كونهما[74] بياضاً أو نقض أصلهم أو كون المعدومات على خصائص الموجودات أو الموجودات على خصائص المعدومات ولا مخلص منه. فهذه عشر إلزامات لا مخلص منها إلا بترك المذهب.

وللجزء مقدار من المساحة. ومنع من ذلك بعض القائلين بالجزء. ومعنى قول القائل أن له قدراً من المساحة أنه إذا أضيف إليه مثله أو مثاله أمكن ذرع جميعه, وليس المراد منه أن له أطرافاً وأساطاً وطولا وعرضاً. ويدل عليه أنه لو كان لا مساحة لواحد في الجنس على انفراده لكان المجموع مثله, إذ لا يتغير كل واحد عند الاجتماع مع غيره عن صفة نفسه وترتفع   [19ظ]  المساحة والزرع وهو محال.

واعلم أن الطول والعرض يرجع إلى كثرة الجواهر وقلتها فيكون لكل جزء من المساحة بحسابه وقدره. وإذا اجتمع ما لا مساحة له مع ما لا مساحة له لم تحدث بينهما مساحة.

لا صورة للجزء ولا يقال أنه مربع أو مثمن أو مثلث أو مدور, لأن كل شكل من هذه الأشكال لا يصح وجوده إلا بوجود جواهر جملة. وقد زعم بعض الناس أنه مربع وهو محال. بيانه أنه يستحيل الوصف له بالطول, وإذا انضم إليه مثله حصل له ما كان مستحيلا فيه على انفراده. والتربيع لا يكون إلا بثبوت طول للمربع. ويستحيل أن يثبت له على الانفراد ما كان محالا عليه في حال الانفراد, ويثبت له على الانفراد ما كان يثبت له على الاجتماع.

ويلقى الجزء ستة أجزاء, لأن كل واحد في حيزه. وقال بعض من يقول بالجزء أنه لا يلقى إلا مثله, وأشار إليه أبو الحسن الأشعري من غير قطع. ويدل على فساد قولهم أن الجزء لو كان لا يماس إلا مثله لكان لا يصح التأليف بين ثلاثة أجزاء ولاستحال وجود الأجرام الكبيرة على التأليف والاتصال. والضرورة  تفسد هذه المقالة واستدل من قال أنه لا يلقى إلا مثله بأن قال أن الشيء والواحد إذا اتصل بمثله لم يبق منه ما يلقى به غيره وإن بقي, فقد انقسم.

قال الأستاذ أبو إسحاق: وهذا لا شيء وهو وهم لأنا لا نقول بأنه يحتاج فيه إلى غير ذاته المتصلة بمثله حتى يصح الاتصال فيه بغيره بل نقول أن له وجهان في العبارة يرجع به إلى عين الشيء فيتصل بوجهيه مثليه كما نقول: أن الله تعالى لو خلق حائطاً من أجزاء لا تتجزأ لكان يراه نفسان من جانبيه. والكلام في هذا يطول وينبني على مقدمات وليس معرفة ذلك بمقصود في الاعتقاد. وإنما المقصود نفي كون الباري متحيزاً فإنه يؤدي إلى حدثه.

 

قد ذكرنا أن من صفة نفس الجوهر المجسة واشتغال الحيز واحتمال العرض. وزعم النجار في طائفة من البصريين أن الجوهر عشرة أعراض مجتمعة وهي اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخثورة[75] والزنة. فإذا اجتمعت هذه الأعراض العشرة كانت جسماً. وزعم بعضهم أن مذهب جماعتهم أنه يستحيل وجود تسعة منها. فإذا وجدت العشرة لم توجد إلا مجتمعة. وهذا الذي ذكروه متناقض, ووجه التناقض أنه إذا كان كل عرض منها لا حيز له ثم صار لها حيز باجتماعها فقد انقلبت عن حقيقتها ولا يلزم عليه الجسم, فإنه جسم للتأليف. ثم  [20و]  الطعم الواحد لا يكون طعماً لعشرة. وكذلك اللون والحرارة والبرودة. ثم ناقضوا في نفيه الأعراض. ثم نقول: هذه العشرة الأعراض لا تخلو من يكون عرض منها بحيث ذاته ونفسه أو بحيث واحد منها أو لا حيث لها. فإن كان لك عرض بحيث نفسه فالكل جواهر. وإن كانت بحيث واحد منها فيكون هو الجوهر. وإن كانت لا حيث لها فيبطل اجتماعها. ومما يلزمهم أن تكون الأعراض كلها أبعاضاً للجسم, ثم يكون كل عرض موجباً الحكم لنفسه, ثم يلزم منه استحالة عدم الأجسام, إذ لا موجب لعدمها إلا قطع الأعراض عنها ولا عرض. ويلزم منه بقاء الأعراض أو عدم الأجسام في كل وقت, فإن الأجسام أعراض عندهم. ويلزم منه قدم الأجسام, إذ لا عرض يدل على حدوثها. وإن زعموا أن الحركة والسكون عرضان يدلان على حدوث الأجسام. قلنا؛ إذا جاز مجاوزة الطعم والحرارة والبرودة ويصير الكل جسماً فمثله يلزم في الحركة والسكون. وفيما ذكرناه كفاية.

والجواهر لا تتداخل. وزعم النظام أنها تتداخل. ومعنى التداخل أن يكون اثنان في حيز واحد. ومعنى التجاوز أن يكون كل واحد في حيزه. ولا يدرك البصر تجاوز كل جزء عادة لكن يدرك الأكثر. والتداخل باطل ضرورة لأنه يلزم منه كون الاثنين واحداً وكون العالم في حيز خردلة.

وقال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله: العلم بالمداخلة لا يصح إلا على وجوه كلها تخالف ما قاله النظام. أحدها أن تكون أجسام منبثة فيها تخلخل. ويكون الجسم مجوفاً مع أنه لا يخلو من أجزاء هوائية في ذلك التخلخل وفي المتجوف. فيذهب الهواء بلطافته فيحصل في ذلك التخلخل جسم آخر, فيصير كالممتزج ويحصل في جوف ذلك الجسم جسم آخر بعد زوال أجزاء الهواء منه. فيكون له كالظرف أو يكون كورود العرض على المحل الذي هو الجوهر. فلا يكون للوارد جرم يشتغل, ويكون الذي له الجرم حاملا له. وما عدا ذلك لا يعقل فيتكلم عليه بنفي أو إثبات.

                                      فصل [في العرض]

وأما الكلام على العرض فأقول: العرض اسم مشترك وهو عند العرب عبارة عما لا يدوم في الوجود. ولم يفرقوا في ذلك بين ما قام بنفسه أو قام بغيره. وهو عند المتكلمين عبارة عن كل معنى حادث يستدعي وجوده محلا يقوم به. والأعراض كثيرة ولا ضابط يضبطها إلا هذا الرسم. ومنهم من ضبطها بالقسمة فقال الأعراض على ضربين: مماثلة ومختلفة. والمختلفة على ضربين: متضادة وغير متضادة. ومن أحكامها أنها لا تبقى  [20ظ]  زمانين. وقسمت المعتزلة الأعراض إلى ما يبقى كالألوان والطعوم والروائح والقدر والحرارة والبرودة وغير ذلك مما يطول تتبعه, وإلى ما لا يبقى كالأصوات والإرادات. واختلفوا في العلم والحركة. ومن أحكامها أنها لا تقوم بنفسها. ومن أحكامها أنها لا توجب الحكم إلا لمن قامت به لا بغيره وأنها لا يقوم بعضها ببعض. ومن أحكامها أنها لا تنتقل, وفي كل حكم ذكرناه من أحكام الأعراض نزاع, وعليه دليل. ونحن نذكره إن شاء الله.

حصر الفلاسفة أجناس الأعراض في تسعة. وهي الكم والكيف والاين والوضع والجدة و متى والإضافة ويفعل وينفعل. ونذكر أولا أقسام ما وقع فيه الاشتراك من الأعراض حتى يكون تلقي العرض عن الله على بصيرة. فيقال عرض لكل موجود في محل كالصورة عند الفلاسفة وسائر الأعراض عند المتكلمين. ويقال عرض لكل موجود في موضوع كالألوان والطعوم والحركات. يقال عرض للمعنى الكلي المفرد المحمول على كثيرين حملا غير مقوم كالأبيض لا كالبياض. وهذا العرض هو المقابل الذاتي في مقدمات القياس عند الفلاسفة. ويقال عرض لكل معنى موجود في الشيء خارج عن طبعه كحركة القاعد في السفينة. يقال عرض لكل معنى وجوده في آخر الأمر وفي أول الأمر لا يكون كحركة الحجر إلى فوق. فإنها عرض بجميع هذه الوجوه.

واعلم رحمنا الله وإياك أن كل منتم إلى الإسلام ذهب إلى إثبات الأعراض وإن خالفوا في التفاصيل إلا ابن كيسان الأصم, فإنه قال: العالم كله جواهر. ذهبت طوائف من الدهرية ونفاة الصانع إلى نفيها.

واعلم أن من الأعراض ما يعلم وجوده ضرورة كالآلام واللذات تطرأ ثم تزول مع بقاء الذات والأصوات والإرادات وغير ذلك. ونحن نذكر الدليل على إثباتها فنقول: قال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله: كل عين صح كونها عيناً وشيئاً على وصفين مختلفين مع بقاء ذاتها اقتضت معنى زائداً على ذاتها قام بها من أجلها صح اختلاف وصفها مع بقاء ذاتها وركب عليه الدليل فقال: إذا رأينا الجسم على وصف ثم انعدم ذلك الوصف عنه أو انتقل مع بقاء الذات ضرورة لم يخل ما كان له من الوصف من أن يكون هو عينه أو لصفة لعينه. فإن كان لاختصاص العين به أو هو عينه وجب أن يكون لازماً له ما دامت عينه أو تنعدم العين بانعدامه, لأن هذا حكم صفة النفس على ما سنذكره إن شاء الله أو أن يكون لمعنى قام به أو كان منه. فإن كان لذلك ثبت العرض. وقوله أو كان منه احترازاً  [21و]   من الأفعال الحادثة من الجسم, إذ كل محدث من الخلق يتصف بفعله لأنه لا يفعل إلا في ذاته على قول من قال أنه محدث من المعتزلة أو على قول من قال من أهل الحق أنه مكتسب أو أن يكون لا لنفسه ولا لمعنى. وهو نقيض القسمين الأولين. فإن كان كذلك لم يلزم أن يكون متحركاً بأولى من أن يكون ساكناً. وكذلك سائر الصفات المتضادات.

وقال الإمام أبو المعالي: اختصاص كل جوهر بحكم يجوز على مماثله دليل على معنى يخصصه به ويتعين قيامه به إذ لو قام به لما كان بإيجاب الحكم له بأولى من إيجابه لغيره. ثم ركب عليه أن الجوهر والجسم إذا رأيناه مختصاً بجهة ثم رأيناه مختصاً بجهة أخرى علمنا أن الجهة الأولى جائزة, إذ لو كانت واجبة لما انتقل عنها. وكذلك أيضاً الثانية جائزة إذ لا يستحيل تقدير بقاء الجوهر في الجهة الأولى. فإذا ثبت ذلك فالحكم الجائز ثبوته والجائز انتفائه إذا تخصص بالثبوت بدلا من الانتفاء المجوز افتقر إلى مقتض. ثم المقتضي لا يخلو أن يكون وجوداً أو عدماً. فمحال أن يكون عدماً إذ لا فرق بين نفي المقتضي وبين تقدير مقتض منتف, بل هو متناقض, فإنه إثبات للمقتضي. ثم رفع له بعد إثباته. فإذا ثبت أنه موجود لم يخل أن يكون نفس الجوهر أو أمراً زائداً عليه. محال أن يكون المقتضي نفس الجوهر. فإنه لو كان كذلك لاختص بالجهة التي فرضنا الكلام فيها ما دامت نفسه. والأمر بخلاف ذلك, فثبت أن المقتضي زائد على الجوهر. والزائد على الجوهر لا يخلو أن يكون مثله أو خلافه. محال أن يكون مثله إذ ليس أحد المثلين بأولى من الآخر, وجوهر لا يوجب حكماً لجوهر. ثم يلزم منه مع أنه محال لو سلم استحالة اختصاص ذلك الجوهر بالجهة المفروضة مع انتفاء الجوهر المقدر مقتضياً أو مع تقدير انتفائه. ثم يلزم منه التسلسل فثبت أنه خلافه. والمخالف إما أن يقدر معنى موجباً فيلزم قيامه بالجوهر, لأنه إن لم يقم به لم يكن بإيجاب الحكم له بأولى من إيجابه لغيره. وهو العرض الذي قصدنا إلى إثبات العلم به. وإما أن يقدر فاعلا مختاراً وهو محال, لأن الكلام مفروض في جوهر مستمر الوجود, ولا بد للفاعل من فعل إلا أن يفعل فيه العرض وهو المقصود.

واعلم أنه ليس أحد من العقلاء أثبت للباري تعالى خصائص الأعراض لما فيه من استحالة كون العرض فاعلا. وما يحكى عن أغبياء الكرامية فهو من حيث التسمية, لأن الباري غير متحيز والعرض غير متحيز. أما

الفلاسفة فأنكروا كون الباري عرضاً, لأن العرض يتعلق بالجسم ويلزم عدمه بعدم الجسم عندهم. وواجب الوجود لا علاقة  [21ظ]  له مع غيره البتة. ثم العرض ممكن وكل ممكن موجود بغيره, وذلك الغير علته والعرض غير قائم بنفسه, وواجب الوجود قائم بنفسه. وعند المتكلمين العرض يقوم بغيره والباري تعالى لا يقوم بغيره بل هو قائم بنفسه. والعرض لا يبقى والباري تعالى يستحيل عليه القدم, والعرض حادث والباري قديم, والعرض لا يوصف بصفات المعاني والباري سبحانه يوصف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة فافترقا. وكل موجودين وصف أحدهما بنقيض ما وصف به الآخر يستحيل أن يكون أحدهما مثل الآخر. ثم أجناس الأعراض وأحادها غير منحصرة, فإما أن يكون كل الأعراض فيلزم منه التناقض الموجود في الأعراض وإما أن يكون بعضها فيلزم منه التخصيص وحدوثه كما كان ذلك البعض حادثا أو قدم ذلك البعض كما كان هو قديماً, لأن ما لزم أحد المثلين لزم الآخر.

                                [فصل في أحكام الأعرض]

قد ذكرنا أن من أحكام الأعراض أنها لا تقوم بنفسها. والدليل عليه أن قيامها بنفسها يؤدي إلى إبطال حقيقتها وإبطال الجواهر. وكل ما يؤدي إلى المحال فهو محال. بيانه أن العلم مثلا لو قام بنفسه لم يخل إما أن يعلم به أو لا يعلم به. فإن لم يعلم به لزم منه علم لا عالم به ولا معلوم له, ومن صفة نفس العلم أن يعلم به وأن يكون له معلوم وأن يكون في محل. وإن علم به فليس ذات أولى من ذات, إذ لا اختصاص له بواحدة منها.

ومن أحكامها أنها لا تبقى زمانين. والدليل عليه أنها لو بقيت لاستحال عدمها وعدم من قامت به, وعدمها موجود وعدم من قامت به ممكن. وكل ما يؤدي إلى رفع الموجود أو الممكن فهو محال. وبيان ذلك أنا لو قدرنا بقائها لم يخل إما أن يكون باقية بنفسها أو بغيرها. فإن كانت باقية بغيرها لم يخل ذلك الغير إما أن يقوم بها فيؤدي إلى التسلسل, وإما أن لا يقوم بها فلا يوجب لها حكماً. وغية ما يتخيل بقاؤها ببقاء المحل فيلزم منه أنه متى انعدم عرض انعدم محله وهو محال, وإن لا تنعدم الأعراض إلا مع الأجسام ولا الأجسام إلا مع الأعراض. ثم وإن كان الأمر كذلك فما المعدم للأجسام؟ والكلام فيها كالكلام في الأعراض, ويلزم منه أن لا يتغير الجسم إلا بعدمه وهو محال. وإن كانت باقية لنفسها لم يصح عدمها ما دامت نفسها. ثم ولو قدر عدمها في زمن ما لم يخل الموجب للعدم من أن يكون موجوداً أو معدوماً. محال أن يكون معدوماً لأن المعدوم نفي محض لا تأثير له, وإن كان موجوداً لم يخل من أن يكون ذاتها وهو متناقض  [22و]  لأن ما كان باقياً لنفسه يستحيل أن يكون معدماً لنفسه أو غيرها. والغير إما مثل وإما خلاف, والمثل باطل إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر. ثم الكلام في ذلك المثل كالكلام في هذا. والخلاف باطل لأنه إما ضد فالضد لا يعدم الضد, إذ لا يجتمعان وليس أحدهما بأولى من الآخر. ثم الكلام في ضده المعدم له كالكلام في المعدَم, وأما ليس بضد وهو محال. فإنه إما أن يكون له به تعلق أو لا تعلق له به, فإن لم يتعلق به لم يوجب عدمه كالحركة واللون, وإن تعلق به لم يخل تعلقه من أن يكون تعلق تأثير كالعلة والمعلول. والشرط والمشروط والقدرة والمقدور, وكل واحد من هؤلاء باطل. أما العلة فتؤثر الحال ولا تؤثر العدم, وأما الشرط فالكلام فيه كالكلام في المشروط ويتسلسل, وأما القدرة فتأثيرها الوجود وهو صفة نفسها ولا تكون لها صفتي نفس على النقيض, أو يكون تعلقه تعلق غير مؤثر كالعلم والسمع والبصر وسائر الصفات الغير مؤثرة.

فإن قيل: ينعدم بالإرادة. قلنا: هذا محال, فإن الإرادة وإن تعلقت بالعدم فلا تؤثر في العدم فإذا أراد المريد عدم شيء كف عنه ما يصح بقاؤه به, لا أن الإرادة تتعلق بعدمعه فتنعدم.

ومن أحكامها أنها لا تنتقل. والدليل على ذلك أن نقلها يؤدي إلى إبطال ذاتها وقلت حقيقتها, وإبطال كل عرض. وبيانه أن النقلة أخذت من انتقال الجوهر من حيز إلى حيز فتوهم في الأعراض كذلك. والفرق أن الجوهر عقل وحده قائماً تنفسه ثم عقل إضافته إلى الحيز أعني الجهة, وذات العرض عقلت بالمحل فيستحيل أن ينتقل بلا محله إذ هو ذاتي له, والجهة المخصوصة للجوهر عرض له والجهة المطلقة ذاتي له. فإن انتقل بذاته بطل وجود الأعراض ووجود ذاته, وإن انتقل بانتقال لزم منه التسلسل وقيام المعاني بالمعاني وهو محال.

ومن أحكامها أنها لا يقوم بعضها ببعض. والدليل عليه أن الأعراض لا تخلو إما أن تكون مماثلة فليس أحد المثلين بأولى من الآخر بالقيام مع أن المصحح للوصف بالمعاني القيام بالنفس وهي غير قائمة بنفسها, وإما أن تكون مختلفة والمختلة ضربان: متضادة وغير متضادة, فالمتضادة لا يقوم بعضها ببعض لتنافيها والمختلفة غير المتضادة كالحركة واللون والعلم والقدرة, محال قيام بعضها ببعض. وبيانه أنا لو قدرنا قيام الحركة بالسواد وقيام البياض بالحركة أو قيام العلم بالحركة أو قيام الحركة بالعلم لزم منه كون السواد متحركاً, وبطل إيجابه السوادية للمحل وكون الحركة متلونة أو كونها عالمة أو كون العلم  [22ظ]  متحركاً. ويلزم منه أن تكون الحركة مخصصة للون بحيز, وإنما يتخصص بالحيز الأجرام, ولا جرم للون, وإن لم تخصصه بطلت حقيقتها. ثم يكون اللون غير موجب الحكم لغيره ويكون لوناً ومتلوناً لنفسه, وتكون الحركة متلونة ولا تنتقل وعالمة ولا تنتقل وتنتقل ولا تعلم.

وإن قدر أن الحركة قائمة بالمحل فتنقله, فإذا قام بها العلم من العالم به المحل أو الحركة فإن كان المحل لزم أن يعلم المحل بما لم يقم به. ثم لا بد من حياة وكذلك اللون. والمقصود أن كل أمر كان إثباته يؤدي إلى نفيه فنفيه أولى من إثباته فقيام العرض بالعرض يؤدي إلى نفي العرض ونفي الشيء بعد ثبوته محال.

ومن أحكامها أنها لا يوجد منها عرض في محلين ولم يجز ذلك أحد إلا المعتزلة في التأليف خاصة. والدليل على إبطال أن العلم به في محل يمنع من العلم به في آخر. بيانه أنه لا يخلو إما أن يقوم بكل واحد في حالة واحدة ففيه انقسام الواحد وهو محال, أو يقوم بأحدهما ويوجب الحكم للآخر وهو محال أن يوجب الحكم لما لا يقوم به, إذ معنى إيجابه الحكم قيامه به, وقد صح أن لا يقوم بالآخر. بيانه أن اللون الواحد لو وجد في محلين لكان مرئياً في كل جزء, وأحد وجوه العلم بتغاير المحلين الرؤية لهما في سمتين, وإذا صحت المغايرة بطل معنى الوحدة.

ومن أحكامها أنها لا تفتقر إلى بنية[76]  مخصوصة بل من شرطها وجود المحل فقط أو شرط قائم بالمحل وهذا من حيث ذاتها على الجملة, وشرط وجود آحادها الإرادة. والدليل عليه أن البنية لا معنى لها إلا انضمام جوهر إلى جوهر حتى يحصل من ذلك شكل مخصوص. والأشكال إما بسيطة كالكرة وإما مركبة مثلثة أو مربعة أو مخمسة أو مسدسة. فإذا قام العلم مثلا بمحل مخصوص لم يقم إلا بجوهر واحد من تيك الجواهر المركبة على ذلك الشكل, فلا أثر للجواهر المحيطة به. وإن قدر تقدير محال أن حصول العلم في ذلك الجوهر المخصوص لا يكون إلا بعد تقدير انضمام جواهر إليه. قلنا: لا تخلو إما أن يكون شرطاً من حيث كونها جواهر فالكل جواهر فليس أحدهما أولى بالشرطية من الآخر, وإما أن تكون شرطاً من حيث الانضمام فكلها متماسة منضمة, وإما أن تكون شرطاً من حيث الشكل فالشكل حاصل بمجموعها فلم اختص العلم بواحد منها؟ فإن قالوا بالإرادة وهو الحق بطل الشرط.

                                      فصل [في الجسم]   

وأما الجسم فهو اسم مشترك يطلقه المتكلمون من أهل الحق على ما تركب من جوهرين فصاعداً وهو عند الفلاسفة عبارة عما تركب من هيولى  [23و]   وصورة. وقال النجار[77]: هو ما اجتمع من عشرة أعراض كما تقدم. وقال جمهور القدرية: هو الطويل العريض العميق. واختلفوا في عدده وقال قوم منهم: أن الجسم ما يشغل الحيز ويلزم عليه الجوهر. وقالت طائفة: الجسم ما يقوم بنفسه ويلزم عليه الجوهر[78].

والجسم لفظة لغوية. وقال الأستاذ أبو إسحاق: يعرف الجسم والمكان والتأليف كل أهل اللغة ولا يعرف أكثرهم القائم بنفسه ولا المستغني عن المحل. وقال الأستاذ أيضاً: أن الجسم لو كان اسماً من صفات النفس لاستحال فيه المبالغة فلا يقال زيد أجسم من عمرو. وكالسواد والقدرة والعلم والجوهر وكون الباري تعالى جسماً يؤدي إلى جملة من المحالات. أحدها التقدير والثاني التشكيل والثالث التصوير ثم ليس شكلا ولا من شكل الرابع التركيب الخامس الممانعة في الفعل بين الأجزاء السادس آلهة بعدد الأجزاء والسابع أن يكون بعضه حياً وبعضه جماداً الثامن أن يتحرك الحركة الرحوية والحركة المستقيمة والحركة القسرية والحركة الاختيارية والتاسع انقطاع الأطراف والعاشر وهو العمدة حدوثه أو قدم العالم. ثم لا يخلو إما أن يشبه الأجسام كلها فيلزم فيه التناقض أو يشبه بعضها فيلزم الاشتراك ويلزم منه التخصيص وسنذكر بيان ذلك في شرح الأدلة إن شاء الله.

                         [فصل في استغناء الله تعالى عن الأغيار]

والذي يليه من الفصول [ ثم الاعتقاد بأنه مستغن عن الأغيار وعبر بعض أهل الخطابة عنه بأن قال: الاعتقاد لنفي الكيفية والكمية والأينية واللمية.]

اعلم رحمنا الله وإياك أن الغنى في اللغة موضوع للكفاية ثم هو عند أهل الحق الوصف المختص بالشيء مع وجوب وجود النفس. ثم ركبوا على هذا أن الغني على الحقيقة هو الله عز وجل, إذا كان لم يزل موجوداً بصفاته التي تخصه ولم يكن له حال يعرى عن صفة له على التخصيص ولا اقتضاء وجوده وصفاته فاعلا فهو غني بنفسه عن غيره وبصفاته عما عداه. والحاجة وقوف الشيء على وصف خاص يحصل له به ما يحتاج إليه, فلو كان الباري محتاجاً في ذاته إلى الموجد لكان محدثاً, ولو كان محتاجاً إلى دوام الوجود لجاز العدم عليه وهو متناقض مع الحكم بقدمه, ولو كان محتاجاً إلى تكميل وجوده كالإنسان الجاهل يحتاج إلى العلم والعاجز يحتاج إلى القدرة لكان ناقصاً وفيه الحكم بحدوثه وهو محال, ولو كان محتاجاً إلى أفعاله لكان متألماً بفقدها متلذذاً بوجودها, بل أقول ولا أبالي أنه يستحيل وجود الفعل ممن يكون محتاجاً إليه وسيأتي بيانه بعد ذكر مذهب المعتزلة والكرامية في هذه المسألة إن شاء الله.

 وذلك أن المعتزلة أعني معتزلة البصرة  [23ظ]  قالوا: يستحيل من الباري تعالى وجود فعل من الأفعال إلا بعد أن يخلق إرادة حادثة لا في محل وهذا معنى قولهم أن المحدث محدث محدوث, وحدوثه إرادة الله.

وزعمت الكرامية أن الله تعالى لا يحدث شيئاً من العالم حتى يحدث في ذاته تعالى كافاً ونوناً وإرادة له وتسمعاً وتبصراً. وكذلك يقولون في كل ما ورد فيه لفظتان من كلام العرب, إحداهما مشتقة من الأخرى كالإحياء والتحريك والتسكين والإعدام وجميع المصادر المشتقة من الأفعال. وزعمت طائفة منهم أن الله خلق العرش مجلسه والكرسي موضع القدمين والجنة داره وأنه محتاج إلى هذه الأشياء. فأقول: لا يخلو حاجة الباري إلى هذه الأشياء أن يفعلها إما أن يكون قبل إيجادها أو بعد إيجادها أو مع إيجادها. فإن كان محتاجاً إليها قبل إيجادها ليوجد بها غيرها احتاج أيضاً في وجودها هي إلى ما يوجدها به ولزم منه أن لا يوجد منه فعل أبداً, فإنه إذا كان لا يوجد فعلا إلا بعد أن يخلق إرادة والإرادة فعلا أيضاًً تفتقر إلى إرادة إلى ما لا يتناهى, وما لا يتناهى لا يصح وجوده فلا يصح وجود ما هو موقوف عليه.

فإن قالوا: الإرادة لا تراد. قلنا: فيكن العالم غير مراد فإن الإرادة حادثة مختصة بوقت دون وقت و لا فرق بين حادث وحادث. وكذلك إن احتاج إليها عند إيجادها وإن كان محتاجاً إليها بعد الوجود وهو متمكن من خلقها من غير أن يحتاجها ليوجد بها بل لأمر آخر من المنافع كما يكون الإنسان في فعل البيت محتاجاً إلى السكنى والاستكنان, فيكون قبل ذلك موصوفاً بصفة نقص ويكون وجود ذلك الفعل سبب زوالها. والناقص لا يكون إلهاً ومن لا يكون إلهاً لا يكون فاعلا ومن لا يكون كاملا بنفسه لا يكون كاملا بغيره.

 والذي يدل على إبطال مذهب الكرامية أن وجود المحدث لا يخلو من أن يكون بالقدرة القديمة أو بالاحداث أو بهما جميعاً. فإن كان بالقدرة فقد استغنى عن الاحداث. وإن كان بالاحداث فقد استغنى عن القدرة ويستحيل وجود الفعل بما ليس بقدرة. وإن كان بهما جميعاً كان محالا لأن ما لا يؤثر على الانفراد لا يؤثر على الاجتماع في العقليات لا في العاديات. وقوله رحمه الله "وعبر بعض أهل الخطابة عنه" تعود على قوله "ثم الاعتقاد بأنه مستغن عن الأغيار"

وأهل الخطابة عنده هم أهل الكلام من أهل الحق. وفي اللغة هم العارفون بترجيز الكلام من غير قافية شعرية. وإنما رأى هذا القائل أن هذا الاعتقاد يقوم مقام الأول من حيث أن من انتفت عنه هذه  [24و]  الأسئلة انتفت عنه الحاجة, وكانت أبين وأبلغ في النفي أعني نفي الحاجة. وبيانه أن الكمية عرض عند الفلاسفة يلحق الجواهر بسبب الزيادة والنقصان والتقدير وهو قول القائل كم هو فتقتضي العدد في نفسه وهو عند أهل الحق سؤال عن العدد والباري سبحانه لا عدد ولا من عدد. فلو كان عدداً لكان يتجزأ ولو كان من عدد لكان يكون له أشباه ويسأل بها عن الوزن فيقال كم زنته, والباري تعالى لا تقوم به الخفة والثقل حتى يتعلق به وزن على قول من قال به, ولا بذي أجزاء فيرجع الوزن إلى أجزائه على قول من قال به, ويسأل بها عن المدة فيقال كم له والباري تعالى لا زمان له ابتدأ فيه بل هو خالق الزمن فلا يتصور قط أن يسأل بها إلا عما يتصور فيه, والزيادة والنقصان وذلك أكبر أنواع الاحتياج.

والكيفية أيضاً عرض عند الفلاسفة يلحق الجسم بسبب تغير أحواله من حال إلى حال. فيقال كيف هو. وهو عند أهل الحق سؤال عن حال وكل ما لا يتغير من المعاني فلا حال له, والقديم لا يتغير ولا تحيط به الأوهام ولا تكيفه العقول, إذ كل ما يدخل تحت الكيف فهو محدود محاط به, وكل محاط به متناه وكل متناه محدث. وفي طلب التكييف طلب التشبيه.

وأما الأينية فهي[79]  سؤال عن المكان والمكان إنما يكون للجواهر والأجسام. وأما اللمية فهي [80] قول القائل لم وهو سؤال عن العلة ولا علة لذاته ولا لصفاته ولا لأفعاله. فلو كان لذاته أو لصفاته علة لكان محدثاً على مذهب أهل الحق وممكناً على مذهب الفلاسفة, ولو كان لأفعاله علة لكان محتاجاً إليها وقد بينا فساده. فكانت هذه المطالب الأربعة أمهات الحاجة, ومن انتفت عنه فقد انتفت عنه الحاجة. يروى عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن يهودياً لعنه الله سأله فقال: أين ربنا؟ فقال علي رضي الله عنه: الذي أين الأين لا يقال له أين والذي كيف الكيف لا يقال له كيف. فقال اليهودي ومتى كان؟ فقال أمير المؤمنين: ومتى لم يكن لم يزل كان كائناً بلا كيف ولا متى. وإنما يقال لما لم يكن فكان متى كان وربنا كان قبل القبل وبعد البعد, فلا غاية انتهى إليها سبحانه.

                                   فصل [في صفات الله]

والذي يليه من الفصول [ الاعتقاد بأنه حي, عالم, قادر, مريد, سميع, بصير, متكلم له حياة و علم وقدرة وإرادة وسمع وبصر وكلام لم يزل ولا يزال موصوفاً بهذه الصفات] وذلك أنه لما فرغ من الصفات النفسية والسلبية ذكر الصفات المعنوية. ولا بد من هذا الفصل قبل الخوض في بيان ما قاله رحمه الله من التنبيه على  [24ظ] صفة النفس وصفة المعنى والفرق بينهما.

فاعلم أن قولنا صفة النفس مشتقة من النفس وقولنا صفة المعنى مشتقة من المعنى وليست هي النفس ولا حقيقتها حقيقتها, ولكن لها بها تعلق, وللنفس أيضاً بها تعلق. فتعلق المعنى بالنفس من حيث القيام وإيجاب الحكم وتعلق النفس بالمعنى من حيث الحصول بها على حال لو لا صفة المعنى لم تكن تلك الحالة على القول بالأحوال أو لم يحصل ذلك الأثر على القول بنفي الأحوال. فصفة النفس عند من نفى الحال عبارة عن خصوص الوجود, فكل مختص على صفة هي نفسه. ولذلك قال الأستاذ أبو إسحاق: رحمه الله حقيقة صفة النفس ما دل الوصف على العين وإن اختلفت الأوصاف وما يقع بها من العلوم كالموجود والمحدث والعرض واللون والسواد. وصفة النفس عند من أثبت الحال عبارة عن كل صفة إثبات للنفس ما بقيت النفس غير معللة بعلل زائدة على النفس.

 وحقيقة صفة المعنى كل صفة قامت بالنفس زائدة عليها. والفرق بين الوصفين والصفتين أن كل ما لو توهمته خارجاً عن نعته عدمت ذاته كان الوصف له لنفسه وكلما لو توهمته خارجاً عن نعته لم تعدم ذاته عنده كان الوصف له لمعنى أكثر من ذاته.

وصفة السلب هي ما سلبت عن الموصوف شيئاً ما. وقد اختلف فيها فقيل: ترجع إلى النفس فإن ما يسلب عن الشيء يسلب عنه لذاته. وقيل: راجعة إلى المسلوب فقط فإن السلوب كثيرة كقولنا ليس بجوهر, ليس بعرض, لا تأخذه سنة ولا نوم. فإن هذه صفات لا تفيد حصول الذات ولا تفيد حصول صفة معنوية قائمة بالذات ولا تفيد أفعالاً فعلها, وإنما تفيد سلب ما أضيف إليه وقد يوصف الموصوف بأنه معلوم ومذكور. وذلك وصف غير معلل ولا يرجع منه إلى المذكور معنى ويرجع الوصف إلى الذاكر والعالم.

وأما الفلاسفة فقسموا الصفات إلى ذاتية وهو كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه كاللونية للسواد والبياض والجسمية للفرس والشجر على الجملة الأجناس وينتقض ما قالوه بما لا جنس له من المعاني وغير ذلك؛ وإلى لازمة وهي كل صفة لا تفارق الذات, ولكن فهم الحقيقة غير موقوف على فهمه كوقوع الظل للشجر وينتقض بملازمة الحركة والسكون للجوهر؛ وإلى عرضية وهي التي من ضرورتها أن لا تلازم بل تفارق إما سريعاً كصفرة الوجل وحمرة الخجل وإما بطئاً كصفرة الذهب, وينتقض باستحالة بقاء الأعراض وبالألوان كلها.

 [25و] وأما المعتزلة فقسموا الصفات إلى نفسية وإلى معنوية وإلى صفات ثبت بالفاعل وإلى صفات تابعة للحدوث. فصفة النفس عندهم ما لزم النفس وينتقض بلزوم جنس الصفات للجوهر. وصفة المعنى كل وصف معلل بمعنى زائد على الموصوف وهو خطأ بل صفة المعنى هي العلل نفسها لا أحكامها عند من نفى الحال وعند من أثبته. وقال بعضهم صفة المعنى ما جاز خروجه عنه ويبطل باستحقاق الشيء وصفاً لمعنى في حال وجود معناه يستحيل خروجه عنه فيه. والصفة التي ثبتت بالفاعل هي الحدوث وليس بصفة نفس عندهم, إذ العدم يتصف بكونه نفساً عندهم كما تقدم, فمنعهم ذلك من جعل الحدوث صفة نفس. وأما الصفات التابعة للحدوث فحصر مذهبهم فيها أنها كل صفة تجددت عند الحدوث ولم تسبقه وليست من أثر القدرة لكن بعضها من أثر الإرادة نحو كون الأمر أمراً وبعضها من أثر كون العالم عالماً نحو كون الفعل محكماً. وعند حذاقهم المؤثر فيه كون المريد مريداً.

                                   [فصل في أحكام صفات الله]

 فإذا تقرر هذا فالمراد من لفظة الحي أنه على صفة يصح منه الإدراك, فإن القائم بنفسه إذا لم يكن حياً كان ميتاً ومواتاً وليست الحياة نفس الإدراك ولا نفس الذات. ومن أحكامها أنها لا متعلق لها سوى إيجاب الحكم للذات القائمة بها ولا يتعلق بها لذة ولا ألم ولا غم ولا سرور ولا فناء ولا موت ولا أمد ولا زمان ولا تفتقر إلى بنية مخصوصة ولا يوجد معها شيء من الصفات التي توجد بالإحياء المحدثين سوى العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والإدراك, وليست بعرض ولا روح ولا هي متعلقة بنفس وغذاء ورطوبة لأن ذلك من صفات المحدثين. ويستحيل على القديم ما يجوز على المحدث فيدل على حدثه.

ومن أحكامها أنها قديمة لاستحالة قيام المحدث بالقديم. ومن أحكامها أنها واحدة لاستحالة التعدد فيما قامت به وهو تعالى موصوف بها شرعاً وعقلا. أما شرعاً ففي قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"[81], وأما عقلا فلاستحالة وجود الفعل من غير عالم قادر مريد, يستحيل كون العالم عالماً قادراً مريداً من غير أن يكون حياً. وبيانه أن الإرادة ترتبط بالتخصيص والعلم يرتبط بالإرادة إذ لا يتخصص الفعل بالإرادة إلا بعلم, ومعنى ذلك أنه يستحيل أن يخصص ما لا يعلم. والقدرة ترتبط بالإيقاع بشرط وجود الإرادة والعلم إذا يستحيل أن يوجد ما لا يريد وجوده أو ما لا يعلم أنه سيوجده. والحياة مرتبطها افتقار القدرة والإرادة  [25ظ] والعلم إليها فجرت شرطاً في هذه الصفات أو مجرى الشرط من حيث الدليل إذ لا شرط في القديم ولا مشروط كما جرى العلم شرطاً في الإرادة والمتعلقة بالفعل من حيث الدليل, لأن أول رتبة في الدليل في إثبات الصفات الإرادة وإليها العلم وإليه القدرة من حيث أن العلم لا يوقع ولا يؤثر سواء كان قديماً أو محدثاً. ولو أثر لاستحال أن يعلم القديم ذاته أو يعلم المحدث ذاته ولا ذات القديم حتى يؤثر فيها وهو محال.

والمراد من لفظة العالم أنه على صفة يكشف بها المعلومات المعدومات والموجودات. ومن أحكامه أنه قديم وأنه ليس بضروري أي ليس يفعل لغيره ولا نظري فيحتاج إلى فكرة وقدرة, وأنه واحد لأنه لو كان أكثر من واحد لم يخل من أن يكون متناهياً أو غير متناه, فالغير المتناهي في العدد لا يدخل في الوجود والمتناهي يقتضي التخصيص وتناهي المعلومات واجتماع المتماثلات.

ومن أحكامه أنه متعلق بجميع المعلومات, ولا نهاية لمتعلقاته وسنذكر بقية أحكامه عند شرحنا لقوله رحمه الله "وأن علمه يعم جميع المعلومات". وهو تعالى موصوف بالعلم شرعاً وعقلا. فشرعاً قوله تعالى: "وهو بكل شيء عليم"[82] وقوله: "نبأني العليم الخبير"[83], وعقلا لحصول العقل واستحالته ممن ليس بعالم.

والمراد من لفظة القادر أنه على صفة يصح منه بها إيجاد الموجودات الممكنات بشرط العلم والإرادة. ومن أحكامها أنها قديمة لا يجوز عليها الفناء إذ ليست بمحدثة ولا هي عرض وكذلك سائر الصفات. ومن أحكامها أنها متعلقة بكل ممكن يجوز وجوده, وأنها واحدة لاتحاد محلها واستحالة تناهي المقدورات أو أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى عدداً, فإنه إما أن يكون له بإزاء كل مقدور قدرة فيلزم منه قدر لا نهاية لها أو يكون له قدر عدة فيلزم منه التخصيص واجتماع المثلين. وهو موصوف بها شرعاً وعقلا. أما شرعاً فقوله تعالى: "وهو على كل شيء قدير"[84], وأما عقلا فلاستحالة وجود الفعل من غير قادر.

والمراد من لفظة المريد أنه على صفة يتأذى منه التخصيص بها وليست بعزم لأن العزم توطين النفس بعد ترديد, ولا ميل نفسن, ولا تحنن, ولا تَوَاقان, ولا تَمََنٍ بل هي قصده إلى فعله وإيثاره له على غيره مما لا يستحيل وجوده معه على وجه لو لم يكن لم يغتم به معناه أنه إذا أراد وجود حركة أو جسم كان ما أراد من غير ميل نفس أو تواقان مع إيثاره لهما عن غيرهما, ولو أراد أن لا يقعا بدلا عن الوقوع كان حكمه فيه وحاله كحاله وحكمه في الإيثار لأن يكون. وبهذا تفارق الإرادة الكراهة  [26و]  والتمني, لأن مع الكراهة نفور النفس ومع التمني الألم إذا لم يوجد ما أراد أو وجد غيره بدله.

ومن أحكامها أنها لا تتناهى متعلقاتها وهو موصوف بها شرعاً وعقلا. أما شرعاً فقوله تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"[85]  وأما عقلا فللتخصيص الذي ذكرناه.

و المراد من لفظة السميع أنه على صفة تدرك بها المسموعات على اختلافها. وهي صفة متعلقة بالموجود دون المعدوم ولا تفتقر إلى قرب أو بعد ولا تختلف باختلاف الأصوات ولا تتغير بتغير الحوادث ولا تفتقر إلى بنية مخصوصة, وكذلك سائر الصفات. فهو في الأزل سامع لكلامه ولا يتغير سمعه بتغير الزمن, وهو وصف كمال في حق كل عالم. وهو عند الأستاذ علم بالمدرك على وجه مخصوص, ويلزم عليه نفي تماثل العلوم. وإن اتحد المتعلق ويلزم عليه أن لا يصح اجتماع العلم والإدراك, ويلزم أن يكون الخلاف خلافاً في عبارة مع القول بنفي الأحوال ويلزمه العكس. وهو أن يجعل العلوم من قبيل الإدراك كما كان الإدراك من قبيل العلوم. وعند غيره طريق إلى العلم لكن في حق الحادث الذي لا يحصل له علم إلا من ناحية الإدراك, وأما القديم سبحانه فلا يكون إدراكه طريقاً إلى العلم بالمدرك. والحق أن الإدراك أمر زائد على العلم ولا يكون إدراك القديم سبباً لعلمه ولا علمه سبباً لإدراكه, ولا يتقدم أحدهما الآخر. ولو كان الإدراك هو العلم لاكتفى بالعلم عن الإدراك, وثبتت خاصية الإدراك للعلم وخاصية العلم للإدراك, واتحدا وليس الأمر كذلك فإنه يجوز خلق الإدراك للشيء مع عدم العلم به ولا نهاية لمتعلقات هذه الصفة, وكذلك كل صفة قديمة.

 وهو موصوف بالسمع شرعاً وعقلا. أما شرعاً فقوله تعالى "وكان الله سميعاً بصيراً"[86]  وأما عقلا فلدلالة الفعل المحكم على الحياة. وإن كان ذلك ضمناً ووصف الحي بكونه سميعاً بصيراً غير ممتنع عقلا, إذ لو امتنع لوجب وصفه بضده وضده نفص ولا يجوز وصفه بالنقائص. وقيل لاستحالة ترتيب الأصوات المختلفة على النظم والنثر والوجوه التي يستحسن عليها تارة ويستقبح أخرى ممن لا يسمع شيئاً, ومعنى ذلك أنه لا يصح القصد إلى خلقها إلا من عالم بها ولا يصح أن يعلمها إلا مدرك لها. وهذا لا يصح لأن الإدراك لا يتعلق بالشيء إلا بعد وجوده والعلم يتعلق به قبل وجوده ويستحيل أن يفعل ما لا يعلمه ويصح أن يوجد ما لا يدرك.

والمراد من لفظة البصير أنه على صفة يصح أن يدرك بها المبصرات على اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها. والكلام فيها كالكلام في السمع سواء  [26ظ]  في كونه علماً بالمدرك أو طريقاً إلى العلم به, وفي نفي الأفة عنه والبنية والمقابلة والشعاع, وفي عدم تناهي متعلقاته كما في كل صفة, وأن الذي يتعلق به السمع والبصر من الموجودات هو ما يتعلق به العلم أو لهما متعلق آخر, وفي كونه لا يتعلق إلا بموجود, وفي وجوب اتصافه عقلا وشرعاً.

والحق في ذلك أنا لا نعني بالسمع والبصر في حق الله تعالى إلا أنه مدرك لحقائق المسموعات والمبصرات على ما هي عليه, ويستحيل أن يخلق للعبد الإدراك لها, ولا يدركها وكيف يخلق ما هو أكمل منه, وأنه يرى ذاته وصفاته.

والمراد من لفظة المتكلم أنه على صفة يصح منه بها أن يأمر وينهى ويخبر, وليس كلامه بحرف ولا صوت فإن الحرف تقطيع الصوت, والحروف والأصوات لا تفيد في وجودها إلا بتقدم بعضها على بعض وتأخر بعضها عن بعض نحو قولك "زيد" ألا ترى أن هذه الكلمة لا تفيد الدلالة على المسمى إلا بتقديم الزاي على الياء والياء على الدال, ولا يوجد منه حرف إلا بعد عدم الأول, وهذا محال في كلام الله تعالى.

ومن أحكامه أنه قديم واحد وأنه لا نهاية لمتعلقاته كسائر الصفات وسنذكر ذلك إن شاء الله في موضعه. وهو موصوف به عقلا وشرعاً. أما شرعاً فقوله تعالى: "فكلم الله موسى تكليماً"[87]  وأما عقلا فالعمدة فيه الجواز. ومعنى ذلك أنا نقطع بعد ثبوت قواعد الدين في إثبات العلم بالله سبحانه أن كونه زاجراً لعباده عما يرديهم ويؤديهم إلى معاطبهم, وآمراً بمراشدهم من جائزات العقول. ومن أنكر كون ذلك جائزاً كان بمنزلة من أنكر وجوه الجواز في الجائزات أجمع, أو بمنزلة من لم يعرف الجواز في الجائزات أجمع.

ثم التكاليف عند أهل الحق لا تتلقى من الإرادة والكراهة, فإن الرب سبحانه يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد. فإذا كان مأخذ الشرع غير مستند إلى الإرادة وجواز الزجر والحث معلوم قطعاً فلا مستند له إلا الأمر والنهي, فالإرادة تخصص, والقدرة توقع, والعلم لا بد منه في تحقيق الإرادة, والحياة شرط الصفات, والجواز الذي ذكرناه من نعت الخلق وهو مرتبط بهم, فهم الذين يزجرون ويأمرون. وجواز ذلك فيهم جراً إلى القول بإثبات الكلام, وليس الكلام مثبتاً للجواز بل هو مدلوله.

والمراد مما ذكره من الصفات النفسية والمعنوية شيئان: أحدهما استحالة العلم بالإله المأمور بمعرفته على غير هذه الصفة لاستحالة وجود الفعل ممن لا يكون على هذه الصفة. والقصد الثاني مباينة الفلاسفة والمعتزلة. أما الفلاسفة فقالوا:  [27و]  الباري تعالى موجود بسيط لا ماهية له ولا صفة لا نفسية ولا معنوية. وإن وصف بها شرعاً فعلى معنى أنها غير ذاته. وذاته وجوده وليس له ماهية يضاف إليها الوجود فإنه يلزم منه تركيب معقول. ولا فرق عندهم بين التركيب المحسوس والتركيب المعقول. ويوصف عندهم بالصفات السلبية فإنها لا توجب تكثراً في الذات, وكذلك الصفات الإضافية.

والكلام مع هؤلاء في حدث العالم وإثبات الصانع. ومن أثبت قدم العالم لزمه نفي الصانع قطعاً وكون الصانع جسماً, لأن الكل قديم مع ما فيه من التركيب مع أن ما ذكروه من الوجود البسيط الذي لا حقيقة له محال. بيانه لا معنى للوجود إلا الثبوت وهذه قضية تشترك فيها جميع الموجودات, والوجود المرسل محال كالعدم المرسل. ولو جاز فرض وجود لا خصوص له لجاز فرض خصوص لا ثبوت له. ولو قيل لعاقل: اعتقد حقيقة مرسلة لا يرى لاعتقاده مساغاً ولقال: اعتقد حقيقة ماذا, كذلك لو قيل له: اعتقد ثبوتاً مرسلا لقال: اعتقد ثبوت ماذا, فلا يستقل الثبوت معتقداً دون الإضافة إلى حقيقة ما كما لا تستقل الحقيقة معتقدة دون الإضافة إلى محقق بها.

فإذا تقرر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن كل موجودين متغايرين لا محالة إما بالزمان وإما بالمكان وإما بالوجود والعدم وإما بالحد والحقيقة, فبماذا غاير الموجود البسيط العالم فإنه لا زمان ولا مكان ولا وجود ولا عدم فلا بد من حقيقة و إلا فيلزم منه أن يماثله. وتلك الحقيقة مخالفة لكل العالم أو مماثلة له, فإن ماثلته لزم التشبيه وهو الذي يقتضيه مذهبهم فنزهوا شبهوا وإن خالفته صح ما قلناه. فإن قلتم: خالفه بكونه لا علة له. قلنا: لا علة له لا يدخل في حقيقة الوجود, فإن معنى كونه لا علة له أنه موجود بذاته فهمك أنه موجود بذاته والعالم موجود بغيره, والعالم له حقيقة بل حقائق, فتلك الحقائق هل تماثل ما هو موجود بنفسه أو تخالفه ولا انفكاك عنه أصلا.

واعلم أنه لا يقع بالسلب فرق أصلا. ثم نقول: أنكم خصصتم الوجود المرسل الذي لا يتخصص عندكم بالعلية فهل هو علة من حيث هو وجود, فيلزم منه أن يكون كل وجود علة. وإن سئلتم عن حد العلة لم تقولوا وجود مرسل, فإنه ينتقض بالعقول بل تقولوا ما قد قلتم أنها كل ذات وجود ذات أخرى بالفعل من وجود هذه الذات بالفعل, ووجود هذه الذات بالفعل ليس من وجود تلك بالفعل. ثم خصصتم بالعقل فقلتم هو عقل وعاقل حتى  [27ظ]  باين بذلك من ليس بعاقل. ثم خصصتم بالحياة وقلتم معنى كونه حياً أنه يشعر بنفسه وذلك يرجع إلى علة بذاته حتى تميز به عن الجمادات. ثم قلتم: هو مريد ومعنى كونه مريداً أن ما يصدر عنه ليس غافلا عنه ولا كارهاً له فما بال التخصيصات كثرت في ذات واجب الوجود ثم انتفت عنه مع أن كل واحد يعلم من حيث لا يعلم الآخر.

 وبعض الفلاسفة يفطنوا لهذا فأثبتوا الصفات النفسية ونفوا الصفات المعنوية, والباطنية منهم منعوا من إطلاق الوجود على الباري تعالى وقالوا: الصانع لا موجود ولا معدوم. فهؤلاء تحاشوا من إطلاق كل لفظة يقابلها نقيض مخافة التشبيه فوقعوا في التعطيل. وإنما أوقعهم في هذا الارتباك والحيرة من حيث أن حقيقة الإله ليست معلومة الآن لنا إما أن يكون لكونه تعالى لم يخلق لنا عليها دليلا أو علماً ضرورياً أو لكون العقول متقاصرة عنها, ولا سبيل إلى نفي الوجود. فتشوف قوم إلى تخيل حقيقته فشبهوا, وطلبها ولا الحقيقة من حيث العقول مخافة التشبيه فلم يجدوها بعقولهم فعطلوا وقالوا: الباري موجود بسيط لاحقيقة له وجعلوا تقاعد درك عقولهم القصيرة تحكماً في نفي ما لم يدركوه. وهذا زلل ظيم فالمنفي ما نفاه العقل لا ما قصر عنه.

وقال أهل الحق الذين وفقهم الله: شهدت قضايا العقول بموجود إليه افتقار الموجودات المحدثات وتقاعست درك العقول عن حقيقته مع القطع باستحالة وجود لا حقيقة له. فهذا تبيين التوحيد في النفي والإثبات.

وأما المعتزلة فإنهم قالوا: الباري شيء موجود مستغن عن المكان والزمان ولا حد له ولا نهاية ولا شكل ولا لون ولا تجوز عليه المماثلة, وأنه قديم لا أول له باق لا آخر له, فنفوا التشبيه وبالغوا في النفي. وهذا متفق عليه ثم لم يستقر لهم قدم في الصفات المعنوية واختلفوا اختلافاً كثيراً فقالوا بأجمعهم: أنه حي قادر لم يزل ولا يزال لكن لا حياة له ولا قدرة. ثم اختلفوا في الوصف العالِم والمريد والمتكلم فكان أوائلهم كجهم[88] وهشام يقولون: أنه عالم بعلم مخلوق وهو عرض لا في محل وأنه مريد بإرادة حادثة لا في محل وهي عرض وأنه موصوف بالقدرة على كراهة تضادها لا في محل وأنه يحدث له لكل فعل من أفعاله أو أفعال عبيده العقلاء من الطاعات الواجبات والمندوبات إرادة لا في محل ولكل فعل من أفعال عبيده العقلاء القبيحة التي نهاهم عنها كراهة لا في محل. وأما الأفعال الصبيان والمجانين والمباحات من أفعال العقلاء فهو لا يريدها ولا يكرهها. [28و]  وزعموا أنه لم يكن قبل وجود العالم مريداً ولا كارهاً وأنه خلق كلاماً هو عرض في جسم صار به متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً. وأحال البغداديون من المعتزلة الإرادة على القديم. وكذلك العلم الحادث فزعم النجار أنه مريد عالم لنفسه كما قالوه في الحي القادر. وثبت العلاف[89] في الإرادة على تلك المقالة ثم زعم أن الباري تعالى عالم لم يزل وأنه علمه هو هو. وكذلك قال في الحياة والقدرة وليس نفسه هي القدرة والحياة والعلم.

 ثم اختلفوا في السمع والبصر فأحال البغداديون وصفه بها كما أحالوه في الإرادة وزعم الآخرون أنه سميع بصير لنفسه ولم يختلفوا فيه كاختلافهم في العلم والإرادة. وزعم الجبائي أن السميع والبصير هو الحي الذي لا آفة به. وسبب هذا الاختلاف العظيم والواقع بينهم أن كل فريق منهم يتعلق بمذهب على جهة التقليد فينصره, فإذا حدث بعدهم من يعتقد مذهبه فلا بد أن يظهر لهم فساد ما قاله من تقدمهم أو بعضه. أما بتفقد أدلة أهل الحق وأسئلتهم[90]  عليه وعجزهم عن الخروج منها أو بأمر آخر يظهر فيتركون ذلك المذهب ويتعلقون بمذهب آخر من غير خروج عن أصل المذهب بالكلية. ومقصدهم بذلك إما التخلص مما يرد عليهم فيه من الأسئلة[91]  وإما أن يكون ظهر لهم بالظن والتخمين أن الحق فيما ذهبوا إليه دون غيره. وبيان ذلك بإعادة ما قد ذكرناه, وذلك لفائدة عظيمة وهي نقض كل مذهب من حيث هو مع الاتفاق عليه, وذلك أن رؤسائهم كجهم وهشام وكل من تبعهم كانوا يقولون بحدوث العلم لا في محل كم قد حكيناه, فلما حدث العلاف  وتطر إلى استحالة حدوث العلم ممن ليس بعالم أو يحدثه بعلم فيلزم منه التسلسل واستحالة وجود العلم كالقائم بنفسه ووجوب وصف القديم سبحانه بالقدرة على ضده فقال: أن الله سبحانه عالم بعلم هو هو.

 فلما انتهت النوبة إلى النظام ترك مذهبه لاستحالة كون العلم هو القديم وأن القديم ليس هو العلم, ووجوب كون قدرته نفسه ثم كون العلم قدرته, فزعم أن الباري حي, عالم, قادر وأن معنى كونه حياً, عالماً, قادراً نفي الجهل والموت والعجز عنه. فلما انتهت النوبة إلى من بعده من البصريين منهم الصالحي[92]  ترك مذهبه لاستحالة كون الشيء عالماً, قادراً, حياً لنفي الجهل والعجز والموت فإنه يوجب أن تكون الأعراض عالمة, حية, قادرة وكذلك سائر الجمادات لأجل نفي ذلك عنها, ثم لم يكن كونه عالماً لنفي الجهل عنه بأولى من كونه جاهلا لنفي العلم عنه وكذلك كل صفة وما يلزم عليه من كونه موصوفاً  [28ظ]  بالوصفين لنفي الضدية عنه, فزعموا أن الباري سبحانه عالم لكونه مخالفاً للجاهل الذي لا يصح منه الفعل, ومعناه أنه شيء لا كالأشياء.

فلما انتهت النوبة إلى الجبائي ترك مذهبهم لاستحالة كون الشيء عالماً لمخالفته الجاهل وما يلزم عليه من كون اللون والموت عالماً, ووجود الفعل ممن خالف العالم والجاهل فقال: أن الباري سبحانه عالم لنفسه.

 فلما انتهت النوبة إلى من بعده تركوا مذهبه لاستحالة كون نفسه علماً أن لو كان بها عالماً واستحالة كونه عالماً إذا كانت نفسه علماً. فزعموا أن الباري عالم, حي, قادر لا لنفسه ولا لمعنى.

 فلما انتهت النوبة إلى أبي هاشم ومن تبعه تركوا مذهبهم لاستحالة كون الشيء موصوفاً بوصف ولا يكون ذلك الوصف متعلقاً بذاته ولا بوصف من أوصافه لأنه يوجب أن يكون غير موصوف به, وذلك كالسواد به مثلا فإنه لما استحال أن يوصف بأنه بياض أو جوهر أو طعم لنفسه أو لمعنى قام به استحال أن يكون بياضاً أو جوهراً أو طعماً. فلو كان القديم عالماً, حياً لا لنفسه ولا لمعنى للزم منه نفي العلم عنه والحياة ولزم أن يكون السواد عالماً وسائر الموجودات التي ليست بحية.

ويقال: أنها عالمة لا لنفسها ولا لمعنى فزعموا أنه عالم, قادر لأحوال ثبتت الذات عليها. وهذا المذهب أفسد مما تقدم فإن الحال عندهم لا معدومة ولا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة فكيف صارت الذات ملومة عليها وهي غير معلومة في نفسها. ثم هذه الأحوال توجبها حال أخرى عندهم فكيف يوجب الحال حالا ومن الموجب لها. والذي يدل على فساد ذلك أن المعرفة بكون الأسود أسوداً إما أن تتعلق بالذات فلا معنى للحال أو بأكثر منها وذلك هو السواد ولا واسطة بين الوجود والعدم ولا بين الثبوت والوجود.

وأما قوله رحمه الله "له حياة وقدرة وعلم وإرادة وسمع وبصر وكلام" فمعنى ذلك أن الموصوف بصفة المعنى سواء كان حادثاً أو قديماً يستحيل عند أهل الحق وصفه بها ونفيها إلا إذا قامت به وكانت زائدة على ذاته.

وقد أقرت المعتزلة بإثبات الوصف بهذه الصفات للباري تعالى وأنكروا وجود الصفات كما تقدم وناقضوا في الكلام والإرادة فأثبتوهما محدثين. وذلك محال عند أهل الحق كم قدمنا ووجه استحالته أن الموجود إذا زيد عليه وصف في الوجود اقتضى له العلم إما بنفسه أو بصفة لنفسه أو بالصفة الزائدة. فإذا قال القائل: أن الباري تعالى حي, قادر ولا يريد به وجوده ولا إثبات  [29و]  حياة وقدرة له من أجلهما وصفة له بهما, ولا تخصيص نفسه بوصف من أجله إذا علم عليه صح وصفه بالحياة والقدرة كما يعلم العلم والقدرة والسواد والبياض والحلاوة والحموضة مثلا بوصف من أجله كان كذلك وامتاز به عن غيره, استحال العلم بكونه حياً, قادراً وكان إثباتهما من غير رجوع إلى النفس أو إلى صفة نفس أو إليهما, ثم نفيهما كنفيهما أولا بل أزيد في التناقض.

فإن قالوا: ذلك يرجع إلى صفة النفس. قلنا: صفة النفس هي النفس فتكون النفس هي الحياة والقدرة, فإن النفس تعقل حيث لم تكن حية ثم تعقل بعد ذلك إضافة الحياة إليها عند قول القائل أنه حي.

واعلم أن كل صفة من هذه الصفات متغايرة في الأحكام لا في المفارقة, وكل صفة منها تخالف الأخرى في الحقيقة ولا تنوب منابها. فكل صفة لها خاصية تخالف الأخرى كما قدمنا ولا يصح إيجاد بعضها ببعض ولا اتحادها مع الذات. وذلك أن المعنى الواحد لا يوجب للموصوف أكثر من حكم واحد في الجملة والتفصيل والتفسير كاللون مثلا يوجب كون محله متلوناً ثم يفسر بأنه سواد والمحل أسود. وما زاد عليه من الأوصاف كالعرض والشيء والمحدث والموجود لا يوجب للموصوف حكماً فلو كانت الحياة هي القدرة لاستحال أن يكون الباري حياً, قادراً بل أحدهما.

وقوله رضي الله عنه "لم يزل" إشارة إلى نفي الأولية عن الصفات والذات وإثبات القدم لها. وقوله "ولا يزال" إشارة إلى إثبات البقاء للذات والصفات واستحالة العدم عليها. فبقاء الذات عند الأستاذ ببقاء وبقاء الصفات والبقاء لأنفسها. والحق أن الذات والصفات باقيات لأنفسها لا ببقاء لأنه يلزم منه بقاء البقاء ويتسلسل, وإن وقف عند واحد باق لنفسه لزم في الأول مثله ولا يلزم من كون الذات في معنى البقاء, إذ كانت باقية لنفسها فإنه لا معنى للبقاء إلا دوام الوجود إلى غير غاية وهذا في حق القديم ويشترك فيه الصفات والموصوفات وتختص به الصفات. واحترز بذلك من مذهب البصريين من المعتزلة في قولهم أنه مريد بإرادة حادثة لا في محل وفي قول كافتهم أنه تعالى متكلم بكلام حادث في محل, ومن مذهب الكرامية[93]  في قولهم أنه تعالى مريد بإرادة حادثة في ذاته وخالق بكاف ونون حادثين وسامع بتسمع وباصر بتبصر على نحو ما تقدم في تفصيل مذهبهم وسيأتي الدليل في موضعه إن شاء الله.

ثم قال:"هو موصوف بهذه الصفات" ومعناه مع صحة الخلاف أنه لم يزل كان عالماً بذاته وصفاته, وما يكون من عبيد وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون  [29ظ]  ولا تتغير له ذات بتغير المعلومات. وكذلك لم يزل كان قادراً على ما علم أنه سيوجده في وقته مما هو ممكن ولم يتغير بتجدد المقدورات ولا يزال كذلك. وكذلك لم يزل مريداً لما علم أنه يوجده وأن لا يوجده ولا يزال كذلك. وكذلك لم يزل سامعاً لكلامه وما يوجده من كلام عبيده في وقته. وكذلك لم يزل مبصراً لذاته وصفاته وما يوجده من خلقه في وقته. وكذلك لم يزل متكلماً مع نفسه ولا يزال كذلك.

والدليل على استحالة التغير عليه بالعلم عند حدوث المعلوم أن الباري تعالى إذا علم وجود ما يكون وعدم ما لا يكون, وعلمه صفة قديمة لأنه يستحيل أن يكون واجب الذات جائز الصفات, والعلم بوجود الشيء وعدمه متضادان, فإذا حصل بأحد وصفيه في الأزل لم يوجد ما يضاده, ولم يجز حدوث ما لم يعلم حدوثه لاستحالة حدوث الفعل من غير عالم به, ولم يجز أن لا يحدث ما علم حدوثه لكونه مريداً له, فإذا وجد فهو المعلوم المراد المقدور. ولم يتجرد بتجرده للصفات معنى لم يكن لها, وإنما يتغير العالم منا لتجرد العلم والإرادة لا لتجرد المعلوم والمراد. ولا يجوز أن يكون الباري تعالى فيما يحدث على وصفين مختلفين بأن يكون في حال عالماً بحدوثه وفي حال غيره عالماً بأنه لا يحدث لأن الجمع بينهما متناقض, وهما في أنفسهما متضادان.

والدليل على أنه لم يزل ولا يزال موصوفاً بها أن نفيها يؤدي إلى نفينا ونفينا مع وجودنا محال. وبيانه أن الفعل لا يصح إلا من حي, عالم, قادر, مريد فإن قدر نفيها قبل الوجود استحال وجود الفعل ونحن من جملة الأفعال, وإن قدر نفيها بعد وجود الفعل وَدَّي إلى تناهي الممكنات أو إلى عدم القديم والكل محال. وسنذكر الدليل على استحالة عدم القديم وعلى استحالة تناهي الممكنات في موضعه إن شاء الله.

ثم قال رحمه الله: [ولا يشبه شيء منها شيئاً من صفات المخلوقين] ومعنى المشابهة المماثلة. وقد تقدم الكلام في ذلك في باب استحالة المشابهة على القديم سبحانه فإنه إذا كان قديماً استحال أن تكون صفاته حادثة فيكون قديماً من حيث الذات حادثاً من حيث الصفات.

واعلم أن المماثلة في الصفات تؤدي أيضاً إلى نفي الفعل إذ يستحيل من الحادث أن يخترع شيئاً أصلا, وإنما ذكر ذلك احترازاً من المعتزلة والكرامية كما تقدم. واعم أن المماثلة لا تكون بالاشتراك في الأسماء ولو كان الأمر كذلك لشابه الخلق كلهم الخالق ولتماثل الضدان لاشتراكهما في الوجود والحدوث والعرضية واللونية.  [30و]  وإنما يقع التماثل بالاشتراك في المعاني لا في الألفاظ لأن اللفظ في الرتبة الثالثة من مراتب الوطيد لأن كل موجود له في الوجود أربع مراتب: مرتبة في نفسه وذاته وحقيقته وبها يقع التماثل والاختلاف ومرتبة في النفوس وهو العلم به وتلحق والأولى من وجه ومرتبة في اللفظ ومرتبة في الكتابة وهاتان مرتبتين لا يقع بهما تماثل ولا اختلاف.

ثم قال رضي الله عنه:[ولا يقال فيها أنها هو ولا غيره ولا هي هو وغيره, ويستحيل أن يقال أنها تفارقه أو تجاوره أو تخالفه أو توافقه أو تحله بل هي صفات له تقوم به] ومعنى هذه الألفاظ في النفي والإثبات أن الهو هو يطلق لإثبات الوحدة في العين ونفي الكثرة عنها, ويطلق لإثبات الوحدة في الجنس, ولإثبات الوحدة في النوع, ولإثبات الوحدة في اللفظ. وأراد رحمه الله أن الصفات ليست هي عين الذات كما يقال في السواد أنه لون وعرض وموجود وحادث وجوهر على قول من قال به. والكل عبارة عن ذاته لا عن أمر زائد على ذاته. وإنما تعددت هذه الصفات بالنسبة إلى غيرها فيقال أنه موجود من حيث أنه ثابت وعرض من حيث أنه لا يبقى وحادث من حيث نسبة وجوده إلى المحدث ولون من حيث أن هذا الاسم يطلق على السواد والبياض والحمرة والخضرة وغير ذلك إطلاقاً متساوياً ولو نيته عين سواديته. وإنما منع من ذلك من حيث أن الصفات المعنوية حقائق ثابتة وقد استحال عقلا اجتماع حقائق مختلفة لحقائق واحدة حتى تكون هي هن. وقد تقدم الدليل على بطلان ذلك. وأما الغيرية فتطلق لما زاد على الواحد لا محالة ثم التغاير يكون بالحد والحقيقة وهي غيره بهذا الوجه من حيث أن الذات قائمة بنفسها والصفات غير قائمة بنفسها, والصفات توجب الأحكام للذات والذات لا توجب الحكم للصفات, والصفات متعلقة والذات غير متعلقة, من الصفات ما يؤثر كالقدرة والذات لا تؤثر, ويكون بالمكان كجوهرين في مكانين وبالمحل كبياضين في محلين, وبالزمان كسوادين في وقتين في محل واحد, وبالوجود والعدم كجوهرين أو عرضين يعدم أحدهما ويوجد الآخر, فليست غيره بهذه الوجوه. والأول ذكره احترازاً من مذهب العلاف كم تقدم والثاني ذكره احترازاً من مذهب المعتزلة والكرامية.

وأما قوله "ولا هي هو وغيره" فهو متناقض كما قال رضي الله عنه لأن وصف الشيء بأنه هو  [30ظ]  يناقض كونه غيره, وكونه غيره يناقض كونه هو. واحترز بذلك من مذهب النصارى وقد تقدم. وأما نفي المفارقة عن الصفات فهو صحيح لأن المفارقة بين الصفة القديمة والموصوف القديم محال بجميع الوجه إلا بالحقيقة كما ذكرنا. والمفارقة تكون بالزمان وبالمكان وبالمحل وبالوجود والعدم وبالحد والحقيقة كما ذكرناه. فإن فارقته بالمكان ودَّي إلى قيامها بنفسها وبحيزها. وإن فارقته بالزمان ودَّي إلى عرضيتها, فإن الأعراض تفارق محلها بالزمان. وإن فارقته بالمحل ودَّي إلى قيامها بغيره أو كونه متجزء في ذاته. وإن فارقته بالوجود والعدم ودَّي إلى عدمها وعدم القديم محال. وأما المفارقة بالحد والحقيقة فهي صحيحة لكن إطلاق لفظ المفارقة يوهم ويفتقر إلى تفصيل ولم يرد فيه إذن فمنع شرعاً وعقلا للإيهام السابق إلى الفهم في الأمور الأربعة.

واحترز به عن مذهب البصريين من المعتزلة ومذهب النصارى. وأما نفي المجاورة بين الصفة والموصوف فصحيح لأن المجاورة معناه المماسة والمماسة تكون بين جرمين متناهيين فيلتقيان بأطرافها من حيث أن ذات كل واحد تمنع من الذات الأخرى أن تكون فيها, وتكون المجاورة من غير تعذر انفصال أحدهما عن الآخر حساً وفعلا كالثياب والجسد, ومع تعذر الانفصال حساً وفعلا كاللبن والماء واللبن واللبن ولكن لا يتعذر عقلا, ومع تعذر الانفصال حساً لا فعلا كمائين وجوهرين من أي مائع كان أو جامد مع المماثلة, وقد يمتنع فعلا مع المماثلة لوجود دوام المماسة فيه وعدم القدرة على ذلك على مذهب أهل الحق ولوجود الاتصال على مذهب الفلاسفة, فإن الاتصال الذي في الأحجار ليس كالاتصال الذي في الماء. والاتصال صورة جسمية وهي مختلفة ومنهم من رأى أن ذلك يرجع إلى الصلابة والرخاوة. فالصلابة هو الجسم الذي لا يقبل سطحه الدفع والقسمة إلا بعسر, والرخاوة[94]  ضده وهو الذي يقبله بسهولة. وأما نفي المخالفة فصحيح وإنما منعها الأستاذ وإن كان قد أطلقها القاضي لأنها تقع بين الموصوفات كما تقع بين الصفات والموصوفات فيقال: فلان يخالف فلاناً. ففي إطلاق المخالفة إيهام ولم يرد شرع. والإيهام الذي في ذلك لاحتمال أن تكون قائمة بأنفسها حية, عالمة, قادرة, مريدة وإن كنا نعلم أنها تخالفه بالحد والحقيقة. وأما نفي الموافقة فلما فيه من إيهام المماثلة وإن كانت توافقه في القدم والبقاء ونفي النهاية.  [31و]  وأما نفي الحلول فلما فيه من إيهام الجسمية والجوهرية والعرضية إذ يقال حلَّ اللبن في الماء وحلَّ العرض في الجوهر وعلى الجملة قيام الصفة بالموصوف مما تقصر عنه العقول في حق الحادث فكيف في حق القديم.

وأما قوله "بل هي صفات له تقوم به" فهو إضراب عن الأول وكان قائلا قال: إذا نفيت هذه الوجوه وهي التي تعقل في إضافة ذات إلى ذات فماذا يقال ويعتقد أنها قائمة به لا غير.

                             [ فصل في عموم قدرة الله تعالى ]

والذي يليه من الفصول [ الاعتقاد بأن قدرته تعم جميع المقدورات وعلمه يعم جميع المعلومات, لم يزل كان عالماً بجميعها على أوصافها في ذواتها[95]  وإرادته تعم جميع المرادات على أوصافها في ذواتها فلا[96] يكون إلا ما يريد ولا يريد إلا ما يكون ] ومعنى ذلك في القدرة أنها تتعلق بالممكن من حيث هو مراد. ومعنى التعلق أن من صفة نفسها أن يكون لها مطلوب غير ذاتها, وأن مطلوبها لا يصح أن يكون قديماً ولا يصح أن يكون موجوداً ولا مستحيلا ولا متناهياً. ومعنى أنه ليس متناه أن ما من مقدور يقدره العقل ويتوهم وجوده إلا ومن صفة نفس القدرة إيجاده إذا أراد المريد ذلك لا على معنى أن الممكنات أشياء ثابتة غير متناهية.

قال الأستاذ: والدليل على وجوب تعلق قدرته تعالى بما لا يتناهى أن مقدوراته تعالى لو تناهت لعدمت القدرة وانقلب الممكن محالا, ولو بقيت قدرته والفعل ممكن فيما لا يزال ولا تعلق لها به لاستحال بقاء القدرة مع خروجها عن صفة نفسها وهو محال لاستحالة عدم القديم. ويستحيل تناهى المقدورات مع بقاء القدرة, فإنه لو جاز ذلك في وقت لجاز في كل وقت. وبالجملة تناهي المقدورات يؤدي إلى عدم القدرة وذلك محال أو انقلاب الممكن محالا وذلك أمحل.

فإن قيل: لا يلزمكم تناهي المقدورات من هذا الوجه بل نقول ما المانع من تعلق القدرة ببعض الأجناس دون البعض وإن كانت آحادها لا تتناهى كما قالت المعتزلة.

قلنا: هذا محال فإن الجنس الذي تصورتموه أنه لا تتعلق به قدرة القديم محال أو جائز, فإن كان محالا فليس في الانفكاك عن المحال قصور في القدرة فإن المحال غير مقدور, وإن كان جائزاً فلا يخلو إما أن يقع بذاته فيلزم ذلك في كل حادث وإما أن يقع بالقدرة فيلزم إضافتها إليه.

فإن قال: إنما يتعذر وجوده بالقدرة القديمة ولا يتعذر بالقدرة الحادثة. قلنا: هذا أمحل فإن ما استحال أن يقع بالقدرة القديمة استحال أن يقع بالقدرة الحادثة. فإن القدرة الحادثة واقعة بالقدرة القديمة  [31ظ]  فكيف يقدر كون القديم قادراً على اختراع قدر على مقدورات وجنس ذلك المقدور ليس بمقدور له, وأيضاً أن قدرة الرب قد تعلقت بالمختلفات والمتضادات وغير المتضادات والمتماثلات, ولا يوجد العبد عن واحد منها, وأيضاً أن القدرة الحادثة يستحيل أن تخترع فإن وصفها بالاختراع يؤدي إلى محالين, وكل يؤدي إلى المحال فهو محال. فأحد المحالين وجود الفعل ممن ليس بعالم وفيه إبطال علم القديم وجواز صدور الأفعال من الجمادات. والمحال الثاني تناهي قدرة القديم بل وفيه محال ثالث وهو وجود إلهين بل ومحال رابع وهو ممانعة العبد الرب تعالى الله عن ذلك.

واعلم أن المعتزلة قسموا المحدثات إلى جوهر وعرض وأحالوا تعلق قدرة العبد بالجواهر, وأما الأعراض فهي كثيرة. وقد اختلفوا فيما يجوز تعلق القدرة به منها مباشرة أو تولدا. فاتفقوا على أن الألوان والطعوم والروائح لا تقع مباشرة وكذلك الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة والألم واللذة والسهو والغفلة والقدرة. وافقهم أهل الحق على ذلك وقالوا: لو كان العبد قادراً عليها في حال قيامها به لأحس تفرقه في حال كونه متلوناً كما يحس ذلك من نفسه في حال حركته الاختيارية ولأحس من نفسه عجزاً عنها في حال عدم قدرته عليها كما يحسه في حركته الضرورية. واتفقوا على أن الاعتمادات كلها على اختلافها حركة كانت أو سكوناً أو افتراقاً أو اجتماعاً من مقدورات العباد, والباري تعالى قادر عليها قبل أن يقدر عبده عليها. وأما في حال أن أقدرهم فلا يوصف بالقدرة عليها لأنه يؤدي إلى مقدور بين قادرين.

وقال حذاقهم: كل ما علم الرب أن العبد يوجده لا يكون مقدوراً له لا قبل أن أقدرهم ولا بعده. واختلفوا في سائر أفعال القلوب من العلم والجهل والشك والإرادة والصوت الحادث عند الاعتماد في العبارة. ووافقهم أهل الحق في هذا الاختلاف أعني أنهم اختلفوا كما اختلفوا, فمنهم من قال: أنها ضرورة ومعنى ذلك أن تكون قدرته أعني العبد متعلقة بالأسباب التي إذا فعلها من الاعتمادات حدثت عنده هذه المعاني بقدرة الرب كما يحدث الشبع عقيب الأكل والري عقيب الشرب. ومنهم من قال: أنها كسب على مذهب أهل الحق واختراع على مذهب المعتزلة. هذا في الفعل المباشر ويشترط فيه عندهم وجود الفاعل, وإنما اشترطوا هذا الشرط لأن من شرط الفعل المباشر أن يقوم بمحل القدرة على مذهب أهل الحق أو بجزء من  [32و]  الجملة التي محل القدرة منها على مذهب المعتزلة. فلو عدم الفاعل لم يتصور قيام فعله به.

وفي شرط العلم والإرادة خلاف فمنهم من شرط العلم والإرادة ومنهم منع. وأما أهل الحق فلم يشترطوا العلم والإرادة إلا في الفعل المخترع ولم يشترطوه في الكسب. وعلى هذا يكون فعل النائم كسباً له. واشترطوا أيضاً العلم في كل كسب يكون مراداً إذ يستحيل القصد ممن لا يعلم. وكذلك اختلفوا في الظن والاعتقاد هل يشترط في الفعل الكسبي؟

وأما الفعل الذي هو غير مباشر بالقدرة إلا بواسطة السبب وهو المسمى بالتولد. فإنهم اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً. و أنكر ذلك أهل الحق وطائفة من المعتزلة, منهم بشر بن المعتمر[97]. و قالوا: الجسم لا يفعل إلا في محل قدرته ولا يصح وقوع الفعل منه إلا على المباشرة ولا يعقل للتولد معنى. فقالت طائفة منهم أن المتولدات فعل لا فاعل لها, منهم ثمامة بن الأشرس[98]. وقال آخرون أنه فعل بإيجاب الخلقة, منهم النظام. وقال آخرون: أنه متولد من فعل الإنس, ثم اختلفوا فيما يصح أن يكون فعله على التولد. فقال من أعطى القياس حقه من البغداديين أن اللون والطعم والرائحة والعلة والصحة والسكر والري والشبع والحرارة والبرودة وجميع الأفعال المتولدة تقع متولدة من أفعال الإنسان بالأسباب. و أنكر أهل البصرة ذلك وزعموا أنها مخترعة لله.

 وكذلك اختلفوا في أفعال الرب تعالى فقال بعضهم: أن جميع أفعاله على الاختراع كالمباشرة. وقال: آخرون أن من أفعاله ما يقع على التولد مثل أن تصدم الريح الشخص المنتصب فتطرحه أو يجري السيل فيغرقه[99]  أو يقع الحجر فيهشمه. وتفرد به الجبائي و أنكره عليه أصحاب أبيه. وحصر مذهب البصريين في المولدات والمتولدات أنها اعتماد وحركة وسكون وعلم وتأليف و وهاء وألم ولذة وإرادة ونظر ومجاورة. ثم منها ما يولد ويتولد كالاعتماد الذي يولد اعتماداً غيره وهو يولد الألم. وكذلك الحركة تولد وتتولد. ومنها ما يتولد ولا يولد كالعلم والألم والسكون والتأليف. ومنها ما يولد ولا يتولد كالنظر يولد العلم ولا يتولد والإرادة تولد أفعال القلوب من العلوم والاعتقادات ونحوها والمجاورة تولد التأليف ولا تتولد والوهاء يولد الألم وهو عبارة عن تفرق الأجزاء وهذا الفعل الواقع على سبيل التولد ينقسم عندهم فمنه ما يقع في محل السبب فيستحيل وقوعه مع عدم الفاعل  [32ظ]  أو موته إن كان مما يشترط فيه الحياة كالفعل المباشر. وذلك كالعلم المتولد عن النظر المباشر وكذلك أفعال القلوب المتولدة عن الإرادة ومنه ما يقع في غير محل فاعل السبب أو جزء من الجملة التي محل القدرة منها. وهو ينقسم إلى ما يقارن وجود السبب ولا يستأخر عنه وإلى ما يستأخر عنه. فأما المقارن فيستحيل وجوده مع عدم الفاعل إذ لا بد من تقدير السبب مع المسبب ولا بد للسبب من محل. ثم ذلك السبب إن كان يشترط في ثبوته الحياة فيقال في المقارن أنه لا يوجد إلا مع حياة المسبب. وأما المستأخر عن السبب القائم بمحل قدرة السبب فيجوز تقديره مع موت الفاعل وبعد موته فهذا حصر مذهبهم في المتولدات والمولدات. ويبطل بنكثتين: إحداهما أن المتولد فعل لا محالة ولا بد له من فاعل موجود و إلا فيلزم وجود العالم مع عدم الصانع. ثم أنهم لا يشترطون العلم بالمتولد فما المانع من وجود العالم على التولد من غير أن يعلمه الباري تعالى. والنكثة الأخرى أن المتولد فعل ولا بد له من فاعل, والفاعل إما أن يفعله بالقدرة دون السبب فيخرج عن كونه متولداً, وإما أن يفعله بالسبب دون القدرة فيستغني عن القدرة به أو بفعله بهما جميعاً وهو محال لأن كل واحد إذا كان بانفراده لا يؤثر, فكذلك بمجموعه لأن الاجتماع لا يقلب حقيقة كل واحد منهما عما كانت عليه.

والذي دعاهم إلى هذه المقالة في التولد والاختراع شبهتان: الشبهة الأولى[100]  مطالبات الشريعة بالأفعال المباشرة والمتولدة, فإن من قتل قتل ومن زنى رجم إذا كان حراً محصناً ومن ترك الصلاة قتل على أحد الأقوال. و لا بد للطلب من مطلوب, ولو كان الفعل مستحيلا منه لما كلف إذ لا يكلف الزمن القيام ولا الأعمى أن يبصر. وأيضاً أن في الأفعال أفعال قبيحة, والقبيح لا يفعله العالم به المستغني عن فعله, والرب تعالى عالم بالقبائح مستغن عن فعلها. والشبهة الثانية قولهم الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية لا يشك فيها بين الحركة الضرورية والاختيارية. وهذه التفرقة لا بد لها من مردّ ويعلم ماذا ترجع إليه بتقسيم. وذلك أنه لا يخلو إما أن ترجع التفرقة إلى نفس الفاعل وهو محال لأن الحكم النفسي يدوم بدوام النفس. ولما انقسمت الأحوال مع وجود النفس استحال صرف التفرقة إلى النفس وأيضاً فإن الشيء لا يغاير نفسه, وإما أن ترجع إلى زائد والزائد لا يخلو إما أن يكون نفس الحركتين  [33و] أعني نفس العلم بالحركتين من حيث أن هذه ضرورية وهذه اختيارية وهو محال اتفاقاً لتماثل الحركتين ومن حيث أن العلم لا يؤثر تفرقة من حيث الإحساس بل من حيث تميز أحد الحركتين عن الأخرى بما انضافت إليه. وإما أن يكون حالا وهو محال فإن الحال المجردة لا تطرأ. ومحال أن تكون التفرقة راجعة إلى سلامة البنية فإن الإنسان يجد تفرقة[101]  بين أن يحرك إنسان آخر يده وبين أن يحركها بنفسه مع سلامة بنيته. وإما أن يكون عرضاً وهو الحق ويتعين ذلك العرض قدرة لأن صفات المكتسب وما من صفة من صفاته غير القدرة إلا ويتصور ثبوتها مع انتفاء اقتدار, فإنه مع الحركة الضرورية يتصور أن يكون حياً, عالماً, مريداً, متلوناً, سميعاً, بصيراً, وتنتفي القدرة فلا يجد تفرقة. فإذا ثبت أن التفرقة ترجع إلى القدرة فلا بد للقدرة من أثر و إلا فقدرة لا مقدور لها محال كعلم لا معلوم به. وإذا صح أنه لا بد لها من مقدور, فمقدورها الوجود ولا يتصور أن يكون مقدوراً غيره.

والجواب عن الشبهة الأولى: أن نقول إما ما ذكرتموه من مطالبات الشريعة فصحيح وإن كان يجوز أن يذبّ عنه بجواز تكليف ما لا يطاق وبما علم الله أنه لا يوجد ثم طالب به وبمطالبة العاقلة بما لم تعمل وغير ذلك كثير, ولكن مقصودنا التحقيق لا المجادلة. وحصركم المطالب في الوجود محال فإن الوجود من حيث هو وجود لا يطلب اتفاقاً من حيث أن الوجود لا يختلف بكونه حسناً أو قبيحاً ومأموراً به أو منهياً عنه على أنه حال عندكم. ولذلك قلتم المطلوب جهة للوجود يستحق المدح والذم عليها مع أنه لا يندرج تحت قدرة العبد بل هو صفة تابعة للحدوث عندكم بل هاهنا مطالب خمسة: أحدها الوجود ويعارضه قصور قدرة الرب تعالى عن مثل مقدورها ويعارضه نفي التوحيد. والثاني بعض الصفات النفسية ويعارضه أن الصفات النفسية لا تتعلق بها القدرة إلا مع الذات, ثم الصفات النفسية على قول من قال بنفي الأحوال هي اختصاص النفس وعلى قول من أثبتها حال للنفس وهي صفة إثبات لها ليست بموجودة في الأعيان. وإنما هي موجودة في الأذهان. والثالث الحال ويعارضه نفي الأعراض ويعارضه أن الحال تثبت إلا بعد الوجود فكيف تتعلق بها قدرة العبد وتثبتها دون قدرة الرب. والفعل في إيجاده لا ينقسم على  [33ظ] قدرتين لأنه واحد. والرابع تعلق القدرة كتعلق العلم والإرادة من غير تأثير وإن لم يلزم استوائهما في جميع وجوه التعلق. والخامس أن يكون لها تأثير وتأثيرها في جعل الكسب يتبع الحدوث وهو أمر معقول. وذلك بأن يخلق الله للعبد القدرة والحركة معاً. والإرادة للحركة, ويكتسب العبد تلك الحركة بمقارنة القدرة والإرادة لها فيصرفها حيث شاء إذا شاء ربه, كما تكون عند الإنسان دنانير أو دراهم يصرفها ويكتسب بها أشياء, وإن كانت موجودة فالإنسان مضطر مع الاختيار والقدرة كما هو مضطر مع العجز وعدم القدرة, وبين الاضطرابين فرق.

والجواب عن الشبهة الثانية: أن نقول كلما ذكرتموه صحيح في إثبات القدرة وإثبات أثرها لكن تعيين الأثر غير ممكن. والحق إثبات الثاني والتمكن, وأن الإنسان[102]  يجد من نفسه ثلاث معان: الحركة والقدرة عليها والإرادة لها. فهذه ثلاثة أشياء لا يندفع عن النفس العلم بها وكونها موجودة قائمة به. أما كون أحد هذه المعاني الثلاثة وهو القدرة هو الذي أوجد الأخرين وهما الحركة والإرادة أو يكون معنى رابع هو الذي أوجد الثلاثة في محل واحد وجمعها فيه فلا يعلم إلا بنظر دقيق مع قوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون"[103]  ومع قوله "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"[104]  ومع قوله "الله خالق كل شيء"[105].  وليس هذا موضع بسط الكلام. وإنما لم نذكر مذهب الفلاسفة هاهنا لأنه لا قدرة عندهم ولا قادر ولا شيء يخترع بل الأجسام تنحل وتتركب.

فإذا تقرر هذا فاعلم أن القدرة الحادثة لا تبقى زمانين عند أهل الحق كما تقدم في سائر الأعراض ولا تصلح إلا لواحد من الجنس من غير تعيين دون ما يخالفه هذا مذهب جمهورهم. وحكي عن بعضهم أنه كان يقول أنها تصلح للضدين وإن لم يصح تقدمها عليه على معنى أنه يجوز وقوع الحركة بها في حال وجودها بدلا عما وقع من السكون ولا يقع بها مقدورها وهي معدومة ولا تتقدم على حدوث الفعل وجوداً. وإذا لم تتقدم وجوداً لم يخطر لعاقل تقديم تعلقها, وإلى ذلك صار الحسين النجار ومحمد بن عيسى[106] وغيرهم.

 ثم في السالكين هذا المسلك من يزعم أن القدرة الحادثة توجب مقدورها ومنع من ذلك أبو الحسن رحمه الله وذهب هؤلاء إلى أن القدرة المقارنة مقدورها لا تتعلق إلا بمقدور واحد وهو الذي حدث معها. وذهب ابن الراوندي[107]  وأبو عيسى الوراق[108] إلى أن القدرة تتعلق بالمقدور وقت حدوثه ولكنها  [34و] قدرة على الضدين على البدل. وإلى ذلك مال ابن سريج[109]. واتفق جمهور القدرية والبكرية وكثير من الزيدية وطوائف من المرجئة كأبي سمرة  وضرار[110] وحفص الفرد[111] على أنها تتقدم الفعل وتصلح للضدين وأنه محال تعلقها بالحادث في حال وجوده كما يستحيل تعلقها بالباقي, وإنما تتعلق بالفعل قبل وجوده. والبلخي[112] وإن وافق أهل الحق في منع بقاء القدرة فإنه صار إلى أن الاستطاعة تتقدم الفعل وتعدم ويوجد مقدورها في الحالة الثانية. واختلفت القدرية في جواز بقائها في حال وجود الفعل. فكان جمهور البغداديين ممن أحال بقاء الأعراض يزعمون بقائها ويجوز عدمها لكنها لو بقيت لم تكن قدرة على ما يوجد بها من الفعل وتكون قدرة على جنسه أو ضده يقع بها في الثاني.

 وقالت طائفة من البغداديين بوجوب بقائها في حال وجود الفعل وإن لم تكن قدرة عليه. وأحالوا وجود الفعل من العاجز. وزعم هؤلاء بأجمعهم أن القدرة إذا وجدت في الأول وجب حدوث أحد ما تصلح له في الثاني. وكذلك كل حال توجد فيه يوجد بعده بها فعل. ولما قيل لهم لو كان بقائها واجباً في حال الفعل وكانت قدرة على ما يقع بعد لكان القادر على العلم والإرادة إذا فعلها في الثاني من وجود القدرة قادراً على مثلها أو ضدها مما يوجد بعد. وذلك يؤدي إلى أن لا يصح موته بحال لاستحالة وقوع العلم والإرادة مع الموت, تحيروا وركبوا جواز وقوع العلم والإرادة وما يضادهما من الجهل والكراهة مع الموت في أكثر الأحوال ومنعوا منه في حالين. وحكي ذلك عن العلاف. ومن بلغ إلى هذا الحد سقطت مكالمته.

واعلم أن أهل الحق لم يمنعوا تقدم القدرة على المقدور بقضية ترجع إلى أحكام الفعل ولا إلى أحكام القدرة على الخصوص بالنسبة إلى الفعل ولكن لما علموا استحالة بقاء الأعراض وهي من جملة الأعراض وعلموا وجوب تعلق القدرة بالحادث علموا استحالة تقدمها على الحادث. فإنها لو تقدمت لعدمت.[113]  ثم يستحيل تعلق المعدوم بالمقدور في حال الحدوث.

ومن الدليل على ذلك أن الحي لا يخلو من الوصف بالقدرة والعجز وإذا استحال حدوث الفعل منه في حال كونه عاجزاً وجب جواز وجوده منه في حال قدرته عليه.

ومن الدليل على ذلك أيضاً أن القدرة لا تكون قدرة إلا بالفعل. والفعل لا يكون فعلا إلا بالقدرة والفعل  [34ظ]  لا يستحق تسميته فعلا قبل حدوثه فوجب أن يكون اختصاصه به في حال وجود الوصف له بأنه فعل.

فإن قيل: فيلزم منه أن لا تكون قدرة القديم قدرة قبل الفعل. قيل لهم: أنها تكون قدرة عليه قبل وجوده بمعنى أنه يفعل بها في حال الوجود. والبرهان القاطع على بطلان ما ذهبت إليه هذه الطائفة ما تقرر بين أهل العقول أن كل مذهب أو أمر يؤدي إلى المحال فهو محال. وبيان ذلك أن المعلومات تنقسم إلى الثابت والمنفي وليس بين النفي والإثبات درجة. فلو تقدمت القدرة ووجد بعدها المقدور لم يخل المقدور من أن يكون نفياً أو وجوداً. محال أن يكون نفياً إذا كان وجوداً, وهو مذهب الخصم فيلزم منه أن لا مقدور في الحالة الأولى, إذ لم يتحقق فيها وجود ولا مقدور في الحالة الثانية, إذ القدرة معدومة ولا تعلق لمعدوم بموجود, ولا أثر لها في الحالة الأولى؛ أو موجودة ولا تعلق لها. فإذا لم يتحقق في الحالة الأولى أثر وهي حالة التعلق ولم يتحقق في الثانية تعلق انتفى المقدور.

                                            تنبيه

واعلم أن المعدوم ليس هو شيئا ثابتاً تتعلق به القدرة. ثم يوجد في الزمن الثاني بل التعلق الحقيقي في القدرة وجود المقدور وحيث ينتفي الوجود انتفى التعلق. ثم الأحوال بالنسبة إلى القدرة والإمكان على حد سواء مع وجود العلم والإرادة. فإذا كانت الحالة الأولى ليست بحال إمكان مع وجود التعلق والقدرة فالحالة الثانية مثلها بل أمحل مع عدم القدرة والتعلق.

وعمدة ما استدلوا به المعتزلة على ذلك أن قالوا إنما يرتبط الفعل بها قبل وجوده ليوجد, وإذا تحقق وجود المقدور استقل بوجوده عن الاحتياج إلى القدرة. وعضدوا ذلك بأن قالوا القدرة يمتنع تعلقها بالباقي والمقتضي لامتناع التعلق تحقق الوجود. وهذا المعنى متقرر في الحالة الثانية وربما قرروه على صورة أخرى فقالوا: وجود الباقي في الحالة الثانية كهو في الحالة الأولى من وجوده. وإذا استحال تعلق القدرة به في الحالة الثانية استحال تعلقها به في حال وجوده فإن الحالتين شيئان ولا مدخل للأوقات في ذلك, فإن تغاير الأوقات لا يغير أحكام النفس. فهذه هي الحجة الغرسي عندهم. يبطل ما قالوه سوى ما ذكرناه بالعلة والمعلول فيلزمهم تقديم العلة على  [35و]  المعلول من حيث أن الذي توجده القدرة حال عندهم.

فإن قالوا: لو عدمت العلة لثبت المعلول بلا علة وذلك محال. قلنا: ولو عدمت القدرة و ثبت المقدور لكان ذلك قضاء بثبوت الأثر والمؤثر معدوم. ومما ينقض قولهم الشرط والمشروط. فلو قال القائل إذا وجد العلم استقل بوجوده عن وجود شرطه الذي هو الحياة كما قلتموه في القدرة بأي شيء كنتم تنفصلون عنه وقد منعتم ذلك في الشرط والمشروط. وكذلك مقارنة السبب والمسبب في بعض الأسباب كتحريك الخاتم في اليد تقارنه حركة اليد واعتمادها, والوهاء يقارن الألم, والمجاورة تقارن التأليف. ومما يلزمهم ولا انفكاك عنه إلا بترك المذهب سؤال الملحدة في نفي حدث العالم وفي نفي الحركة. فإن القدرتين عندهم شيئان في نفي تعلقهما بالحادث حال الوجود. وذلك أنهم قالوا: الفاعل إنما يحتاج إليه لوجود الفعل, فإذا وجد استغنى عن الفاعل, ومن المحال أن يكون فاعلا له في حال العدم. فإذا استحال كونه فاعلا له وهو معدوم أو موجود استحال أن يكون الشيء مفعولا لفاعل وثبت قدمه. وأما الحركة فإنهم قالوا: لا[114] يخلو حدوث الحركة من أن يكون المتحرك بها, حصل لها وصفها وهو في المكان الأول فقد وجدت والمتحرك لم يتحرك بها, أو في الثاني فقد استغنى بكونه فيه عن حركة يتحرك بها إليه, ويستحيل حدوثها لا في واحد منهما إذ لا مكان بينهما.

والجواب عن الجميع على مذهب أهل الحق أن يقال: لما كان وجود المحدث في حال حدوثه حاصلا له بالقدرة عليه وكون الشيء في المكان الثاني لوجود الحركة وجب أن تكون حادثة في حال كونه فيه والقدرة قدرة عليه في حال وجوده بالحدوث. ثم نعكس عليهم سوى الحركة والوارد في نفي الأعراض فنقول: إذا تحرك الشيء من مكان إلى ما يليه, وذلك مدرك ضرورة لم يخل من أن يكون متحركاً إليه في حال كونه فيه فيستغني بكونه فيه عن أن يكون متحركاً إليه أو يكون متحركاً إليه وهو في المكان الأول فيكون متناقضاً في الوصف والمعنى لتحركه عن مكان هو فيه إلى غيره ولم يدخله.

والدليل على أن القدرة الحادثة لا تتعلق إلا بمقدور واحد مع نفي الاختراع عنها أن ما من مقدور من الجنس إلا وهو جائز أن تتعلق به وإن لا تتعلق به. فلو كان من صفة نفسها أن تتعلق بمقدورين لاستحال وجود أحد الجائزين دون الثاني مع جواز تعلق الإرادة  [35ظ]  بالجائز الآخر. وفي إيجاب وجود الجائزين رفع ما تقرر من الجواز العقلي. وأما الضدين فلو تعلقت بهما لقارنتهما. ومن ضرورة ذلك وجودهما, وهو باطل.

فإن قالوا: يتخصص أحد الضدين بالإرادة ألزموا العاقل والنائم ولا محيص[115] عنه. ومنهم من قال أن القدرة الحادثة تتعلق بالمختلفات ويلزمهم أن تكون النملة قادرة على جميع ما يقدر عليه الإنسان وغيره ويلزمهم في القدرة على الضدين أن تكون الغفلة مقدورة. وامتنعوا من أن يقع بالقدرة مثلين في محل واحد في زمن واحد. ويلزم منه نفي القدرة على المثل الأول فإن الامتناع عندهم لا يرجع إلى استحالة اجتماع المثلين في محل واحد, فإنه يجوز ذلك عندهم. وإذا لم ترجع الاستحالة إلى هذا ولا إلى القصد في حق النائم والغافل لزم أن ترجع إلى ذات القدرة   فيلزم المحال الذي ذكرناه أن القادر عند أهل الحق لا يجوز أن يكون ممنوعاً من مقدوره مع وجود القدرة. ذلك لوجود مقارنة القدرة المقدور. فإذا وجدت القدرة وجد المقدور, وإذا وجد المقدور ارتفع المانع. ويقولون أن المانع لا معنى له إلا العجز والعجز معنى يضاد القدرة وهل يتعلق بالمعدوم والموجود أو بالمعدوم دون الموجود أو بالموجود دون المعدوم فيه كلام كثير. والحق منه أنه يتعلق بالموجود والكائن على نقيض القدرة.

وأما المعتزلة فمنهم من أثبت العجز معنىً ومنهم من نفاه وقال: لا معنى له إلا نفي القدرة أو اختلال البنية. والذي أثبته معنى جوز وجوده في الحالة الثانية من القدرة وهي الحالة التي لا تتعلق فيها بالمقدور عندهم, ويوجد فيها المقدور فيجتمع المقدور والعجز. ويطهر أثر العجز في الحالة الثانية من وجوده وهي الحالة الثالثة من وجود القدرة وهو محال, إذ يلزم منه نفي الموت إن كان المقدور مما يشترط فيه الحياة أو وجود المقدور مع الموت إذا لم يكن الفعل المقدور مشروطاً بالحياة. ولا يرتضى عاقل ركوب هذه الجهالة.

ثم اتفقوا كلهم أعني المعتزلة على أن القادر على شيء يجوز أن يكون ممنوعاً منه. والموانع عندهم تنقسم إلى وجود وعدم ولا يتخصص المنع بالموجود دون المعدوم. وحصر الموانع الموجودة أنها ثلاثة: أحدها ما يضاد المقدور بنفسه كالسكون المضاد للحركة وكل ضد. والثاني ما لا يضاد ما هو منع منه ولكن يولد ضده, وذلك كالاعتمادات المولدة للحركة. والاعتمادات على ضربين سفلية وعلوية. ومثال ذلك أن الاعتماد في الجسم الثقيل يمنع من لم يكثر قدره من رفعه صاعداً.  [36و]  وكذلك الاعتماد اللازم وإن كان لا يضاد الحركات في جهة العلو, فإن الأصح من مذهب القوم أن من رمى بالثقيل في حهة العلو أن الاعتمادات السفلية لا تفارقه بل هي لازمة له في ذهابه, لأنه إنما يرجع إذا رجع بما فيه من الاعتمادات السفلية. فالاعتمادات إذاً السفلية لا تضاد التحرك في جهة العلو ولكنها تكون معنى منه في بعض الأحوال فتكون مولدة لضد الحركة في جهة العلو وإن لم تكن بأنفسها مضادة لها. وكذلك الاعتمادات العلوية تمنع من التحرك في جهة السفل في بعض الأحوال وليست بضد للتحرك, فإنه بها يعود. والثالث من المنع خارج من القسمين كالتأليف والواقع بين الجوهرين مع رطوبة في إحداهما ويبوسة في الثاني, فإنه يمنع التفريق وإن لم يكن ضداً له, فإن التأليف لا ضد له عندهم. وضد التفريق المجاورة ومنه العلم بفتح الشيء مع الغنى عنه.

وأما العدم المانع فهو انتفاء ما شرط ثبوته في وقوع المقدور كانتفاء العلم بالممكن, فإنه منع من وقوعه مقدوراً. وكذلك انتفاء الآلات في الأفعال التي يشترط فيها الآلات وكعدم النظر في الدليل وسلب الآلة كجناح والسلم. ومنه غلق الباب والقيد.

وقال أهل الحق: أن القيد إذا وجد عدمت القدرة وإذا فقدت الآلة لم توجد القدرة. والدليل على فساد ما قالوه أن اجتماعهما في الوجود مع تنافيهما في الحكم منع من تخصيص أحدهما بإيجاب الحكم. ولم يكن التعذر بالمنع أولى من القدرة بالإيجاب. ويلزم منه وجود التعذر والمنع. وفيه خلو الصفة عن إيجاب الحكم مع وجودها وإمكان الفعل. والكلام في ذلك كثير وفيما ذكرناه كفاية.

                             [فصل في عموم علم الله تعالى]

ومعنى كون علمه تعالى يعم جميع المعلومات أن العلم من الصفات المتعلقة, وأن تعلقه مطلق لا تقييد فيه. ومعنى ذلك أن من صفة نفسه أن يكون له متعلقاً غير ذاته, وأن متعلقه على ضربين: قديم ومحدث. فالقديم وهو ذات الله تعالى وصفاته فلم يزل كان عالماً بذاته وصفاته على ما هو عليه, فإن من علم غيره كان علمه بذاته أولى[116]. والمحدث وهو أيضاً عالم بالمحدث على ما هو به قبل أن يوجده كما تقدم دون تغيير يحصل في العلم, لأنه إنما أوجد ما علم وجوده فلو حصل تغيير في العلم لكان ما أوجده على خلاف ما علم وهو محال. والعلم بالموجود مفصل محصور.

 والمعدوم على خمسة أضرب بالنسبة إلى تعلق العلم به و إلا فليس له في ذاته حقيقة يطرأ عليها التقسيم: معدوم يستحيل وجوده  [36ظ] لذاته كالجمع بين الضدين وغير ذلك من المستحيلات, والعلم به علم بانتفاء ما لا يصح وجوده, ولا تفصيل فيه, إذ لا يتقدر وجوده ولا يتصور. معدوم مستحيل وجوده لغيره, والعلم به علم بانتفاء ما لو كان كيف كان يكون, وهو مفصل بالنسبة إلى ما من أجله امتنع لأنه يتصور وجوده على انفراده وبالإضافة يمتنع تصوره إلا على وجه يؤدي إلى محال. ومعدوم في وقتنا هذا وسيوجد, والعلم به علم بانتفاء ما[117]  سيكون, وهذا أيضاً مفصل بالنسبة إلى وجوده إذ لا بد من القصد إلى إيجاده, ويستحيل أن يقصد إلى ما لا يعلم. ومعدوم في وقتنا هذا وقد كان, والعلم به علم بالكون الماضي ثم بانتفائه. ومعدوم يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون, وهذا يختص بنا و إلا فالباري تعالى يعلم أن يكون أو أنه لا يكون. فهذه المعلومات وهي لا تتناهى. ونفي التناهي عنها يؤدي إلى تناهي الممكنات, وتناهي الممكنات يؤدي نفي القدرة وانقلاب الممكن محالا, والكل محال.

وقد أخبر الشرع عن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبداً من غير انقطاع. ولا بد أن يكون معلوماً ولا يلزم منه محال, لأن المحال لا يتصور إلا في الموجود لاستحالة أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى. وعلى الجملة إذا ثبت أن المقدورات لا نهاية لها وثبت أن كل مقدور معلوم ثبت أن المعلومات لا نهاية لها. وكيفية تعلق العلم بما لا يتناهى مما تقصر عنه العقول.

                                           تنبيه

اعلم أن العلم القديم مع القول بالأحوال لا يوجب لله تعالى أحوالا لا نهاية لها فإن الذات الواحدة لا توجب أحكاماً لا نهاية لها ولا متناهية, ولا توجب إلا حكماً واحداً, وإنما يوجب له حكم الإحاطة بالمعلومات كيف ما تصرفت. ومن حكم العلم أنه لا يؤثر في المعلوم.

وزعمت الفلاسفة أنه يؤثر ولا خلاف, فإن الخلاف لا يقع إلا بعد التوارد على شيء واحد, فإن الذي قلنا نحن أنه لا يؤثر صفة قائمة بموصوف. والذي قالوا هم أنه يؤثر إنما هو ذات قائمة بنفسها لا صفة لها لا نفسية ولا معنوية وإن كان التأثير محالا. فإن القديم لا يؤثر في القديم ويلزمهم أن يؤثر ذاته في ذاته من حيث كان عالماً بها. وكذلك اختلفوا لعنهم الله فيما يصح أن يكون معلوماً لله سبحانه. فمنهم من قال لا يعلم إلا نفسه. ومنهم من قال يعلم نفسه ويعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات الحادثة. ومنهم من قال يعلم الجزئيات بنوع كليّ فتكون الجزئيات داخلة تحت الكليات.

والدليل على أن العلم لا يؤثر في المعلومات أنه لا يخلو إما  [37و]  أن يؤثر فيها من حيث الوجود فيلزم أن يكون كل موجود مشاركاً له في ذلك. وكذلك القدم إذا قرر أنه مؤثر لقدمه لمشاركة غيره فيه من الصفات القديمة والذات؛ وإما أن يؤثر فيها من حيث كونه علماً وذلك يشاركه فيه العلم الحادث فيلزم أن يكون مؤثراً فيستحيل تعلقه بالقديم والباقي والمستحيل, ويلزم منه نفي القدرة والإرادة, ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان مثلا أن زيداً مختار[118] , إذ العلم يوجب وقوع الفعل فلا يحتاج إلى الإرادة, ولاستحال من القديم تعالى ومنا أن نعلم ذاته أو يعلمها ولاستحال تعلق العلم بالمعلوم وبالضدين.

فإن قيل: إنما أثر العلم القديم لوجوب تعلقه وثبوت القدم له. قلنا: هذا باطل, فإن انتفاء القدم عن العلم الحادث لم يمنع من تعلقه بمعلومه ولا من إيجابه الحكم لمحله. والعلم إذا وقع لم ينقلب عن حقيقته.

فإن قيل: أن من شرط تأثير العلم أن يصادف[119]  ممكناً يؤثر فيه. قلنا: لو كان الأمر كذلك لاستحال أن يتعلق[120]  إلا بالممكن الذي يؤثر فيه, فإنه إنما أثر لكونه علماً. وذلك كالقدرة فإنها لا تتعلق إلا بالممكن ولا تتعلق بالقديم ولا بالوجود أو[121]  يكون تأثيره لا لأجل كونه علماً, وبالله التوفيق.

فإن قيل: ما الدليل على أن العلم الحادث لا يؤثر؟ قلنا: الوجود كله يشهد لذلك, فإنا نرى عالماً بشيء عاجزاً عن اكتسابه.

وأما قوله رضي الله عنه "لم يزل كان عالماً بجميعها على أوصافها" فإنما ذكر ذلك احترازاً من مذهب جهم[122]  في قوله أن الله لم يزل كان عالماً بأن العالم سيوجد فإذا وجد فقد تجدد العلم بالوجود, فإنه إن كان عالماً في الأزل بأن العالم قد وجد فذلك جهل لا علم, وإن كان غير عالم فقد تجدد علم لا محالة, وهذه شبهته.   

والجواب: أن نقول لا يتجدد لله علم ولا حال بتجدد المعلومات. والعلم أن سيكون هو العلم بالكون في وقت الكون إلا أن من ضرورة العلم بالوجود في وقت الوجود العلم بالعدم قبل. وهو الذي يعبر عنه بأنه علم بأن سيكون. ثم السر في ذلك ما قد ذكره بعض الأئمة أن المعلومات في حق الله تعالى متلازمة فلا يتصور الجهل ببعضها, فهن معلومة أبداً, فكان العلم متعلقاً بجميعها إذ الجهل يستحيل عليه.

وقال القاضي رحمه الله: تلازم المعلومات في حق الله تعالى لا لأمر يعود إلى المعلومات. وإنها في أنفسها متلازمة متضايقة, ولكن ذلك لأمر يرجع إلى القدم. وهو أن علمه قديم فلا يتصور أن يسبق  في علمه شيء ويتأخر شيء.

وأنا أقول: [37ظ] ما ذكره جهم من تجدد العلم محال, لأنه قد ثبت استحالة صدور فعل من الباري سبحانه من غير أن يكون عالماً به. فإن كان عالماً به فهو ما قلناه, وإن كان غير عالم به استحال صدوره منه. وإن جاز صدور فعل منه هو غير عالم به جاز صدور العالم منه وهو غير عالم به. ثم ما الذي تجدد المعلوم أو العلم أو الأمرين جميعاً؟  فإن كان المعلوم لم يلزم من تجدده تجدد العلم بل حصل ما قد علم بوصفه, وإن كان العلم فلا بد من معلوم وعالم والعالم هو الله. ويستحيل أن تكون ذاته محلا للحوادث. وإن قام بغيره كان الغير هو العالم به. وإن كان لا في محل لم يوجب الحكم لأحد فتبطل حقيقته. وإن كان العلم والمعلوم كان أمحل, إذ لا فاعل غيره فيصدر منه له العلم والمعلوم. وإن صدر منه استحال وجوده منه وهو غير عالم به, واستحال أن يكون موجباً له حكماً. وما لا يعقل وجوده وتقديره لا يلزم تكلف صورة له أو دليل عليه. ومن توهم علمه زمانياً أو شيئاً من صفاته تخيل له هذا المحال.

                              [فصل في عموم إرادة الله تعالى]

وأما قوله رحمه الله "وإرادته تعم جميع المرادات. فهو على نحو ما ذكرناه في القدرة والعلم أن لله[123]  تعالى صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله وأنه لا نهاية لتخصيصاتها. ومعنى ذلك أنها صفة متعلقة ومعنى كونها متعلقة أن لها مطلوباً تتعلق به غير ذاتها وذات من قامت به. وإن ذلك صفة نفسية لها متى خرجت عنه بطلت حقيقتها. وكذلك كل صفة معنوية قامت بذاته تعالى سوى الحياة. وإن ذلك لا لقصور في الحياة بل لأن خاصية الحياة كذلك وأن مطلوبها تخصيص ما علم أنه سيوجد من الممكن بالوجود أو ما علم أنه لا يوجد بالعدم. ومعنى ذلك أنها تتعلق بالحدوث والتجدد من حيث أنه يجوز أن يكون كما قال الله تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"[124]  أي يريد أن لا يكون العسر موجوداً وقتاً ما ولا تتعلق بالقديم ولا بالباقي ولا بالمستحيل, لا على أن يوجد ولا على أن لا يوجد ولا بالمعدوم من حيث أنه معدوم فإن الإرادة قصد أو مشيئة متجدد ولا يتصور القصد إلا إلى ما يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون انتفائه, وسواء كان من فعل المريد أو ليس من فعله. وإن مطلوبها الذي هو متعلقها غير متناه كما أن الممكنات غير متناهية فلا يحدث في العالم ذرة ولا تنعدم إلا وهي مرادة لأنها معلومة قبل الفعل. وكل معلوم هو فعل مراد, بل لو لم يكن مراداً لم يكن فعلا. فإنه  [38و]  يلزم من نفي الإرادة عن الفعل استحالة وجود الفعل, فإن الإرادة هي الدالة على العلم. ومن نفى الإرادة فقد نفى العلم, ومن نفى العلم فقد نفى الفعل, إذ يستحيل صدور الفعل من غير عالم به وسنذكر الدليل على ذلك في موضعه إن شاء الله.

فأما الدليل على أن الإرادة تتعلق بأن لا يحدث الشيء فهو ما ذكره الأستاذ في الخفي. وذلك أنه قال: لو لم تتعلق الإرادة بأن لا يحدث الشيء لم تتعلق بحدوث الشيء, فإنها إذا تعلقت بحدوثه تعلقت بأن لا يحدث. بيانه: أن الحي إنما يصح أن يريد حركة الجسم إذا صح كونه مريداً أن لا يتحرك. ولذلك يستحيل من الإنسان أن يريد من الله سبحانه أن يتحرك وأن لا يتحرك لاستحالة ذلك عليه. ويريد من الله أن يرزقه كما يريد أن لا يعذبه. ويريد من الكافر أن لا يكفر كما يريد أن يؤمن.

وحكي عن المعتزلة مذهبين: أحدهما أن الإرادة تتعلق بأن لا يحدث الشيء, لكن من قال: أريد أن لا يتحرك زيد, معناه أنه يريد أن يسكن و إلا فلا تتعلق الإرادة بالنفي المحض. والمذهب الثاني أن من أراد أن لا يحدث شيء تصح إرادته لكنها إرادة لا مراد لها كما أثبتوا علماً لا معلوم له. ويبطل المذهب الأول بأن الإنسان قد يريد أن لا يحدث الله عرضاً وقد لا يخطر له في ذلك الوقت ضد وقد يريد أن لا يحدث جوهراً وإن كان لا ضد له على مذهبنا وقد لا يخطر له الفناء الذي قدرته المعتزلة ضداً. وأما إبطال المذهب الثاني فهو مدرك ضرورة لأن خروج الصفة المتعلقة عن أن تكون متعلقة إبطال لحقيقتها.

وإنما قال رحمه الله: أن إرادته تعم جميع المرادت احترازاً من اعتقاد التناهي في الصفات القديمة ومن المعتزلة في قولهم أن الإرادات مخلوقة,  وهي لا تراد ولكن تكره. وكذلك أفعال العبيد المباحة لا تراد ولا تكره أو المحظورة لا تراد ولكن تكره. وكذلك أفعال البهائم والمجانين لا تراد ولا تكره, وقد تقدم ذلك. ولو جاز وجود فعل قد اختص بوقت دون وقت, واختص بمحل دون محل, واختص عن جنسه بالوجود دون العدم لجاز ذلك في كل فعل, وبطل حدث العالم, وجاز أن يكون قديماً مع ما فيه من التخصيص. وسيأتي الدليل في موضعه إن شاء الله.

                                                تنبيه

واعلم أن محبة الله ورضاه وغضبه عبارة عن إرادته, وكذلك محبتنا له هي إرادتنا لطاعته. وقد قال بعض الناس أن المحبة جنس غير الإرادة, ومنهم من رد المحبة والرضى والغضب إلى صفات الفعل. ومعناه أن من أنعم الله عليه فقد أحبه ورضي عنه فسمي بذلك محباً وراضياً, ومن عاقبه فقد غضب عليه بعد اتفاقهم علي  [38ظ]  أن لله إرادة لا أول لها, وأنها متعلقة بكل ما يصح أن يكون مراداً.

والدليل على صحة ما قلناه, أن المحبة التي هي الميل والتحنن والرقة, يستحيل وصف الرب بها ولا يستحيل وصف العبد بها. وإذا استحال وصف الرب بالتحنن والميل والتوقان استحال وصفه بالمحبة على الحقيقة, لأنه مقدس عن الأغراض والميل الموجود في الطباع, يكون وصفه بها محمولا في المعنى على الإرادة وتتخصص أن تكون إرادة للثواب. وكذلك الرضا لا يوصف به على المعنى الموضوع له في اللغة لأنه عبارة عن السرور واللذة والحاصلة في النفس, وذلك لا يوصف به القديم. وكذلك الغضب لا يكون إلا من ألم وكراهة تحدث في النفس من الشيء المغضوب منه إذا أتى على خلاف المراد حتى قيل فيه أنه غليان دم القلب لإرادة الشفاء, وقيل أنه إن لم يحدث في النفس لا يزول إلا بحصول الانتقام. والباري تعالى منزه عن ذلك فيحمل على إرادة الانتقام.

وأما المحبة العبد لله فلا تتصور إلا على ما قلناه فإنه مقدس عن أن يُنال حظاً أو يَنال حظاً. ولا تظنن أن من رأى الله تعالى تلذذ بنفس النظر إليه بل يتلذذ بما يخلق الله له من اللذة, وهي لذة لا توازيها لذة, وإن كان يجوز لولا الوعد أن يقرن بها ألماً لا يوازيه ألم على أنا نقول: لا تخلو المحبة أن تكون مثلا للإرادة أو خلافها. فإن كانت مثلها فما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر, وإن كانت خلافها لم يخل إما أن تكون ضدها فيستحيل اجتماهما معها فيكون محباً غير مريد أو مريداً غير محب, وهو محال. وليست ضدها فيجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر فيكون محباً كارهاً, وذلك محال.

فإن قيل: فالمريض يريد الدواء ولا يحبه, ويحب الإنسان ولده ولا يريده إذا الإرادة لا تتعلق بالموجود. قلنا: هذا باطل, فإن الذي يقصد إصلاح نفسه بالدواء يحب إصلاح نفسه, ومن أحب ولده أراده ولا تتعلق الإرادة بذات الولد التي هي موجودة بل يتجدد المنافع المرجوة منه. وكذل الطعام والشراب لا تتعلق الإرادة بذواتها وإنما تتعلق بتجدد المنفعة الحاصلة منها. وكذلك الصديق يريد الإنسان لقاءه ويفرح به ومتعلق الإرادة المنافع المرجوة المقدرة من الصديق.

وقوله "على أوصافها في ذواتها" أراد على ما هو عليه من جميع صفاتها. فإن كانت حسنة أراد كونها حسنة إما على الإطلاق وإما لقوم مخصوصين وإما في زمن دون زمن. وكذلك إن كانت قبيحة أراد كونها قبيحة إما على الإطلاق وإما لقوم مخصوصين وإما في زمن دون زمن, لا من  [39و]  حيث أنها حسنة أو قبيحة لذاتها بل من حيث أنه أراد الثواب على هذه والعقاب على هذه. ومعنى ذلك أنه أراد أن تكون المعاصي ومنها الكفر قبيحة, متناقضة منهياً عنها, معاقباً على فعلها, وأراد كونها للكافر والفاسق فيكون من أراد كونها له كافراً, فاسقاً. وأراد أن تكون الطاعة والإيمان حسناً, مأموراً به, متفقاً في نفسه مثاباً عليه إيماناً للمؤمنين وطاعة للمتقين. وهل تطلق الإرادة على الكائنات من غير تفصيل أو بتفصيل؟  فيه خلاف بين الأئمة. فمن نظر إلى إطلاق ما أجمعت عليه الأمة من قولهم "ما شاء الله كان وما لا يشاء لم يكن" إطلاق من غير تفصيل. ومن نظر إلى الإيهام الحاصل فصل.

واحترز بقوله "على أوصافها" من قول من قال: إنما تتعلق الإرادة بالمعصية من حيث يجددها, وكذلك الطاعة من حيث تجددها لا من حيث ما ذكرناه.

وقوله "فلا يكون إلا ما يريد ولا يريد إلا ما يكون" المراد منه بعد تحقيق المعرفة بها التمييز من المعتزلة في قولهم أنه يريد من العبد الطاعة فلا تكون ولا يريد وجود المعاصي فتقع على ما تقدم. وفيه إيجاب النقص والعجز, وفيه وجود الإلهين, ثم الكل فعله ولا يصح أن يكون مريداً لبعض أفعاله دون بعض, ثم الباري تعالى عالم بكل ما يصدر منهم اتفاقاً فكيف يتصور أن يكون كارهاً لما قد علم وجوده وهيأ أسبابه, ولذلك لما قيل لابن عباس رضي الله عنه: ما مراد الله من الخلق فقال: ما علمه منهم. وسنعود إلى هذه المسلة بالبيان إن شاء الله.

                                  [فصل في توحيد الله تعالى]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأن لا إله غيره ولا خالق سواه] ومعنى ذلك نفي الإلهية والخالقية عن كل موجود سواه. ولا يتصور نفي وصف عن شيء ولا إثباته لشيء إلا بعد فهم الوصف والموصوف في نفسه.

فاعلم أن الإله عند جمهور أهل الحق عبارة عن موجود قديم, باق, لا حد له ولا نهاية ولا مقدار ولا لون ولا شكل, حي, عالم, قادر, مريد, سميع, بصير, متكلم على الوصف الذي قد تقدم. واختلفت عبارات بعضهم فيه. فقال أبو الحسن رحمه الله: حقيقة الإله القادر على الاختراع, ويرجع إلى ما ذكرناه. وقال الأستاذ: الإله من إذا أوجد الخلق والاختراع كان به ومنه, ويرجع إلى ما ذكرناه إذ يستحيل عندهم أن يوجد الخلق منه إلا إذا كان على الصفة المذكورة. وقال أيضاً: من له الاختصاص بالأمر والنهي, ويرجع إلى ما ذكرناه. وقال غيره: من له الخلق والتعبد, وينتقض باستحالة وجود الفعل في الأزل.  [39ظ]  وقال آخرون: من نفذت مشيئته, ويرجع إلى ما ذكرناه. وقال آخرون: هو الغني المطلق, ويرجع إلى ما ذكرناه إذ لا يكون غنياً مطلقاً إلا إذا كان بالوصف المذكور لكنه قاصر في البيان. وقال بعضهم: القائم بنفسه على الحقيقة, وهذا وإن كان الباري قائماً بنفسه على الحقيقة فلم يكن إلهاً لقيامه بنفسه على الإطلاق.

وقالت الفلاسفة: الإله هو العلة الأولى وهو موجود واجب الوجوب, لا صفة له نفسية ولا معنوية, ولا يصدر عنه مباشرة إلا واحد بالواسطة الكل وليس ثم معدوم فوجد بل هو تقدير وهمي.

وقالت المجسمة: الإله جسم وجوهر قديم كما قد تقدم في تفصيل مذهبهم. وقالت النصارى: جوهر وهو ثلاثة أقانيم كما تقدم. وقالت المجوس: الإله من وجد منه الخير والشيطان ليس بإله حقيقي وإن وجد منه الشر لكون أحواله تنقضي ويعود الأمر إلى الإله. وقالت الثنوية: الإله هو النور, والظلام ليس بإله كامل بل هو كالمعين له. وقالت المعدلة: الإله اثنان: نور و ظلام, والمعدل كالواسطة. وقال الطبيعيون: الإله طبيعة خمسة تفعل هذه العجائب بطبعها. وقال قدماء المعتزلة: الإله من استحق العبادة, وقال متأخروهم: الإله هو القديم وهو مذهب الجبائي. ويبطل المذهب الأول أن الله تعالى لا يستحق العبادة إلا بالأمر ولا أمر ولا عابد في الأزل. ويبطل المذهب الثاني أن الإله من الأسماء التي تصح فيه الإضافة ولا يتحقق إلا بها فيقال: إلهنا وإله من خلق ولا يقال: قديمنا وقديم من خلق. والإله هو الذي تاله النفوس وترجوه للنفع والدفع ولا يصح أن يكون إله نفسه ولا إله ما يستحيل كونه ولا يصح أن تكون إلهاً لشيء لم يتعلق وجوده في تلك الحال بقدرته إما لنفسه وإما لمعنى يقوم به.

فإن قيل: قد كان إلهاً قبل وجود العالم. قيل: إنما كان إلهاً على معنى أنه بالصفة التي يوجده بها وأنه إذا وجد كان بقدرته وإرادته وعلمه. ويدل عليه أيضاً أن لفظ القديم لا يعدو في الدلالة على المذكور أحد أمرين: إما أن يدل على نفس بوصف, أو وجود على اختصاص. فإن يكن دليلا على نفس بوصف فهو الذي قلناه, إلا أن هذا الوصف لا يقتضي الإلهية على انفراده, وإن يكن دليلا على وجود على اختصاص لم يكن موجباً للمماثلة والإلهية من حيث أن اختصاص الوجود لا يعدو الأحوال والأوقات والأمكنة أو نفيها. وكل ما لا يفهم تخصيصاً في وصف النفس لا يقع به  [40و]  المماثلة, ويبطل بالصفات فإنها قديمة وليست بإله إلا أنهم يعتقدون نفيها.

وأما قوله "ولا خالق سواه" فلم يرد رحمه الله المقدر ولا المصور وإنما أراد المخترع للأشياء, فيعتقد أن لا خالق إلا الله ولا رازق غيره وهو الموصوف بالوصف الذي ذكرناه. وقد قالت المعتزلة بخالق سواه وهم العبيد الخالقون لأعمالهم. وقد تمدّح الله بالخلق فقال: "هل من خالق غير الله ".[125]  وقالت المجوس بذلك ولذلك شبهت القدرية بهم لسبقهم في الاعتقاد وتأخر القدرية. وقالت الثنوية بذلك وكل من زعم أن أحداً من المحدثات يخلق ويخترع فقد قال بخالق سوى الله. ودليل التوحيد بنفي الجميع وسيأتي في موضعه في الأدلة إن شاء الله تعالى.

والذي يليه من الفصول [الأعتقاد بأنه شيء واحد, وتحقيقه أنه لا يتبعض في الوهم ولا يتجزأ بالفعل[126] وهو تفسير الأحد والصمد] اعلم رحمنا الله وإياك أن اللفظ الواحد في اللغة مختلف فيه. فقيل: أنه اسم مشترك لمعان مختلفة. وقيل: إنما حدث الاشتراك فيه بالاصطلاح و إلا فهو موضوع في اللغة لما لا ينقسم حقيقة وما عدا ذلك مجاز, لأنهم يقولون في الخبر عن الشيء أنه خبر واحد. وهذا الذي ذكره القاضي رحمه الله فاعترض عليه أن العرب تقول: هذه دار واحدة وماء واحد وخفّ واحد وسماء واحدة وإن كان ينقسم. فأجاب عنه, أنه إنما قيل في هذه أنها واحدة وإن كانت جملا بالمعنى الذي قيل في الشيء الذي لا ينقسم أنه واحد, وأرادوا بذلك أن كل جملة منفردة باسم لا يشاركها في استحقاق الاسم كل بعض من أبعاضها بل تنفرد جملة الأبعاض بالاسم فصارت الجملة في استحقاق الاسم بمثابة الجوهر الفرد والعرض وكل شيء واحد لا بعض له.

وأما كونه مشتركاً من حيث الوضع فإنه يطلق على الواحد من حيث العدد الذي لا يثنى ولا يجمع. وقد يقال: واحد لما لا ينقسم لا بالقوة ولا بالفعل. وقد يقال: واحد لكل منفرد بصفة لا يشاركه فيها غيره من جنسه كما يقال: واحد العلماء وواحد الأجواد.

وأما كونه مشتركاً من حيث الاصطلاح فهو يطلق على معان الواحد بالاتصال كسرير واحد وماء واحد, إلا أن الماء فيه كثرة بالقوة والسرير فيه كثرة بالفعل. والواحد بالجنس كالحيوان والإنسان فإنه واحد في الحيوانية, والواحد بالنوع كالإنسان فإنه واحد في الإنسانية أعني جميع الأشخاص الإنسانية, والواحد بالعرض كالجصّ والكافور فإنه واحد في البياضية, والواحد بالنسبة كما يقال نسبة النفس إلى البدن ونسبة الملك إلى المدينة واحد, والواحد في الموضوع كما يقال في السكر أنه أبيض, بارد, حلو فيقال: الأبيض والبارد واحد أي في الموضوع. وليس وحدة  [40ظ] الباري بشيء من هذه الوجوه إلا قولنا أنه لا ينقسم لا بالقوة ولا بالفعل. وكذلك فسّره رضي الله عنه فقال: وتحقيقه أنه لا يتبعض في الأوهام ولا يتجزأ بالفعل.

وقال في الجلي: الواحد هو الذي لا تتسع ذاته للرفع والإبقاء. فإذا تقرر هذا فاعلم أن الواحد واحد لنفسه لا لمعنى. ولو كان لمعنى لوجب تعلق الواحد بآحاد لا نهاية لها. وقد يمكن أن يقال: أن وصفه بأنه واحد لا يعلل, لأنه لا حكم ولا حال لكونه واحداً, وإنما تعلل الأحكام والأحوال. ويجوز أن يقال: أن وصفه بالواحد عائد إلى النفي, لأن قولنا لا ينقسم ولا يتجزأ صفة نفي, وصفات النفي لا تعلل.

واختلف الناس في معنى وصفه تعالى بأنه واحد. فقال كثير منهم: أنه لا ينقسم لا قوة ولا وهماً ولا فعلا كما ذكرناه. وقال آخرون: أنه واحد بمعنى أنه لا مثل له ولا نظير. وقال آخرون: أنه لا شريك له في سلطانه وملكه. وقال كثير من الأوائل: أنه ليس بكثير ولا كثرة فيه بوجه. وقال آخرون: أنه واحد من طريق العدد وهو معدود مع غيره. وقال عباد بن[127] سليمان[128]: أنه واحد بمعنى أنه ممدوح بالقول أنه واحد وأنه لا يجري عليه ذلك من طريق العدد. وقال: أنه واحد لا لنفسه ولا لمعنى. وقال قوم: معنى كونه واحداً أنه شيء لا كالأشياء, قديم لا كالقدماء, واحد لا كالآحاد. وهو المحكي عن الصالحي. وقال بعض القائلين بالصفات أنه واحد بوحدانيته كما هو عالم بعلمه وقادر بقدرته. والحق من هذه الأقاويل أنه واحد بمعنى أنه لا ينقسم وواحد بمعنى أنه لا شريك له في ملكه وأنه ليس بكثير ولا كثرة, لأنه غير متجزئ ولا منقسم, وواحد بأنه لا مثل له وأنه شيء لا كالأشياء. وقول عباد خطأ لأنه لا بد أن يكون تحت هذا المدح معنى معقول لأجله وقع المدح. وقول من قال أن الوحدانية صفة معنى خطأ لأنه يؤدي إلى قيام المعنى بالمعنى ويؤدي إلى التسلسل, وقد تقدم نفي ذلك فإنه بمثابة القدم والبقاء والتوحيد على معنيين لغوي وعرفي. فاللغوي ما به يكون الواحد واحداً وهو التفريد كما أن التقدير والتكوين والتسويد ما به يكون المقدر مقدراً والمسود مسوداً. وليس هذا هو المراد بقولهم في الموحدين أنهم من أهل التوحيد, لأنهم لا يقولون أمراً به يصير القديم واحداً, فإنه واحد لنفسه لا لمعنى. والعرفي العلم بأن الله تعالى واحد لا ينقسم وإفراده بالاعتقاد عن الندّ والضد والمثل, وأنه حي, عالم, قادر, مريد, سميع, بصير, متكلم, موجد للعالم, علم ذلك وأخبر عنه وصف علمه وخبره أنه توحيد,  [41و]   والموحِّد هو العالم بما ذكرناه والموحَّد هو الله, وهل يكون العبد موحِّداً دون العلم. فيه خلاف قد تقدم.

                             [ فصل فيما يستحيل على الله تعالى ]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأنه لا يجوز عليه شيء مما جاز على المحدثات فدل على حدوثها. ومعناه أنه لا يجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ولا المحازاة ولا المقابلة ولا المماسة ولا المجاورة ] هذا فصل ما يستحيل على الله, ومعنى ذلك أن صفة المحدثين لما كانت على ضربين: ضرب منها لا يدل على حدوثها كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام من حيث هي حياة وعلم وقدرة وإرادة, ولو كان كذلك لما جاز وصف الإله بها, بل إنما تدل على حدوثها من حيث قارنها حكم الجواز. ولذلك قال الإمام أبو المعالي رحمه الله: كل صفة قارنها حكم الجواز ودل ثبوتها على مخصص يورثها ويريدها ولا يعقل ثبوتها دون ذلك فهي مستحيلة في حق الله,  فإنها لو ثبت لدلت على افتقارها إلى مخصص دلالتها في حق المخلوق. ثم قال في المدارك[129]: يستحيل على الباري سبحانه في وجوده وصفات وجوده كل جائز يقضي العقل بتجويز تقدير خلافه أو فرض وقوعه. وضرب يدل على الحدوث بنفس الوصف كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق والمحاذات والمقابلة كما فسره الأستاذ حيث قال رحمه الله: "كل ما جاز على المحدثات فدل على حدوثها" فاحترز بذلك عما ذكرناه من وصف الباري تعالى بالحياة والعلم والقدرة والإرادة, فإنها لا تدل على الحدوث من حيث هي حياة وعلم وقدرة كما ذكرناه.

 فأما الحركة فمن حيث هي حركة تفتقر إلى مقتض, إذ لا تتصور حركة قديمة بل لا بد وأن يتقدمها وجود سكون. وكذلك السكون من حيث هو سكون لأنه اختصاص بحيز. وكذلك الباقي مما ذكره على ما سنذكره. وقد قدمنا أنه لا يصح العلم بنفي شيء عن شيء ولا إثباته إلا بعد المعرفة بالمنفي في نفسه أو المثبت. فأما الحركة فاسم مشترك بحكم الاصطلاح لا بحكم الوضع اللغوي بين ستة معان, و إلا فهن في الوضع عبارة عن النقلة اثنان في الجوهر, وهما الكون والفساد. فالكون ككون الإنسان من نطفة, والفساد فساد النطفة مع كون الإنسان منها. فكون كل جوهر فساد جوهر آخر. وهذا محال على واجب الوجود إذ ليس بكائن ولا فساد, إذ لا يتصور الكون والفساد إلا على مادة مشتركة وعلة مقتضية لذلك. واثنان في الحكم وهما النشو من صغر إلى كبر, والبلاء من الكبر إلى الصغر. وهذا أيضاً محال في حق الله تعالى, فإنه يرجع إلى زيادة الأجزاء ونقصها وانحلالها, والباري تعالى ليس بذي أجزاء. ويفتقر ذلك أيضاً إلى مقتض, إذ لا يزيد  [41ظ]  الشيء بنفسه وينقص بنفسه. واثنان في الكيف التغير من حالة إلى حالة كالصحيح يصير مريضاً والمريض يصير صحيحاً والأبيض يصير أسود والأسود يصير أبيض. وهذا أيضاً محال في حق القديم إذ لا بد من مغير ومادة تقبل التغير والنقلة.

وهو المراد بالحركة عند المتكلمين وقد اختلفوا في العبارة عنها, أصح العبارة أنها عبارة عن كون الجوهر في مكان لم يكن قبله ولا بعده فيه مع وجوده, وهذه الحركة تسمى المكانية وهي إما مستقيمة من أسفل إلى فوق أو من فوق إلى أسفل أو يمنة أو يسيرة أو خلف أو قدام بحكم الجهات الستة, وإما بالانتقال من موضعه بالكلية كدوارة العجلة. وهذه الحركة أيضاً محال في حق الله تعالى لأنها من عوارض المتحيزات ولا تكون إلا حادثة.

وأما السكون فهو عبارة عن اختصاص الجوهر بحيز, يسمى لبثاً, وهو ضد الحركة, وهذا أيضاً محال مثل الأول. وهو عند الفلاسفة عبارة عن عدم الحركة وليس بضد إلا من حيث التقابل تقابل النفي والإثبات, وليس بمعنىً. وهو عند المتكلمين معنى من المعاني.

وأما الاجتماع فتارة يكون على جهة الاتصال فيكون معناه تلافي في الجوهرين والجسمين واتحاد نهاياتهما حساً, وتارة يكون على جهة المجاورة والمماسة كالثياب والجسد. والافتراق تباين الجوهرين. واختلف المتكلمون في الاجتماع الافتراق والمجاورة والمماسة. فمنهم من قال أنها أعراض زائدة على الحركة والسكون والموجودين في الجسم. ومعنى ذلك أنه إذا اجتمع جوهر مع جوهر أو جسم مع جسم وتماسا أحدث الله في كل جوهر عرضاً زائداً على الحركة التي في الجسم أو السكون يسمى اجتماعاً ومماسة. فإن اجتمع مع ستة جواهر حلت في الجواهر الذي في الوسط ستة مماسات يماس كل واحد بمماسة. وهي مختلفة إذ لو كانت متماثلة لما صح اجتماعها في جوهر واحد ولا تحله إلا مجاورة واحدة. وهي مغايرة لمماسته. والمتعاقبة من الجهة الواحدة متماثلة متضادة. والمباينة ضدها وهو الافتراق, ومعناه أنه متى باين جوهر جوهراً حلت فيه مباينة. وكذلك الثاني والثالث إلى ستة مباينات من غير تعيين.

ومنهم من قال أن المماسة هي المجاورة, والمباينة ضدها, والاجتماع عبارة عن المماسة, والافتراق عبارة عن المباينة. وهذا مذهب الأستاذ أبو إسحاق, والأول مذهب أبي الحسن رحمه الله. واستدلوا أعني ذلك باختلاف المنظرة على  [42و]  الجواهر, وهذا ليس بدليل.

ومنهم من قال: ليست بأعراض زائدة على الحركة والسكون. ومعنى ذلك أنه لا حكم للجوهر من الكون إلا اختصاصه بحيزه, فإذا انضم إليه جوهر آخر إما بحركتيهما جميعاً أو بحركة أحدهما إلى الآخر أو بخلق الله لأحدهما عند الثاني أو بخلقهما معاً, فيختص كل واحد بحيزه وكذلك ثالث ورابع إلى ست. فيسمى الكون الذي في الجوهر في حال انفراده حركة أو سكوناً, وفي حال اتصاله بغيره يسمى اجتماعاً ومماسة ومجاورة, وفي حال مباينته يسمى افتراقاً. والأكوان في المكان الأول من الكائن في حيزه متماثلة. ويخرج من مضمون هذه الطريقة أن الجوهر إذا أحاطت به ستة من الجواهر لا يقوم به إلا كون واحد كحاله في الانفراد. وهذا هو الحق ولا معنى لتماس الجوهرين إلا أنهما ثبتا في حيزين ليس بينهما موقع لجوهر ثالث.

والدليل على ذلك أن الجواهر لا يؤثر بعضها في بعض, لأنه لا يقوم بعضها ببعض. وكذلك الأعراض لا يؤثر بعضها في بعض لعدم قيام بعضها ببعض. فإذا انضم جوهر إلى جوهر لم يخل إما أن يتغير كل واحد منهما عن حاله الأولى ويتبدل, أو لا يتغير ولا يتبدل. فإن تبدل كان محالا, فإنا قد قدمنا أن الجواهر لا يؤثر بعضها في بعض, وعرض جوهر لا يوجب الحكم لجوهر آخر. وإن لم يتبدل ولم يتغير كل واحد منهما عن حقيقته فهل تجدد بالاجتماع أمر غير الاختصاص بالحيز مع نفي مكان لثالث. وكذلك بالافتراق غير تباعد الجوهرين أو لم يتجدد. فإن لم يتجدد أمر غير الاختصاص بالحيز فالموجب له الاختصاص في حال الانفراد مثل الموجب له الاختصاص في حال الاجتماع. وإن تجدد أمر فما الذي أوجب.

واختلاف الأعراض إنما يعلم باختلاف أحكامها. فإن زعم زاعم أن الجسم إذا ماس الجسم أحس المماسة. وذلك يخالف الاختصاص بالحيز. وهذا ليس بشيء, فإنه إنما يدرك حرارة أو برودة أو غير ذلك دون الكون الذي لم تجر العادة بإحساسه, وبإحساس أيضاً إدراك قائم به, وقد يماس الهواء الراكد على طول الدهر, ويخيل إليه أنه لا يماسه كيف. والعمدة في إثبات الحركة تبدل الأحياز, وما نحن فيه لم يتبدل.

وأما المحازات فقد تكون على المماسة وقد تكون على النسبة والتقدير كشخص يحازي شخصاً إما أن يحازيه من جهة اليمين أو من جهة اليسار أو من فوقه أو من تحته أو من أمامه أو من خلفه.

وأما المقابلة فهي[130]  أن يكون جسم قبالة جسم من غير مماسة, وقد يكون بمماسة إذا قدر لذلك الجوهر ما به يقابله كالإنسان يقابل بوجهه, وما لا وجه له لا تتصور فيه مقابلة. لأن المقابلة حدثت بالاصطلاح لما له وجه. وهذه كلها  [42ظ]   من عوارض الجسمية والجوهرية. ومن انتفت عنه الجوهرية والجسمية انتفت عنه عوارضها.

ثم قال: [ولا قيام شيء حادث به] ومعناه أنه لا يجوز أن يقوم به صفة حادثة لا إرادة ولا علم ولا سمع ولا بصر ولا قول, خلافاً[131]  للكرامية وقد تقدم, ولا لون ولا طعم ولا رائحة ولا لذة ولا ألم ولا شيء من الحوادث. ومحال قيام حادث بقديم لأنه يصدر من غير فمنع منه دليل التوحيد أو يصدر منه في ذاته كما يصدر الفعل من الجسم في ذاته فتكون ذاته قابلة للحوادث وهو نقض لكونه واجب الوجود. ويلزم منه وجود سائر الحوادث في ذاته في حالة واحدة, ولا يتصور أن يخصصها بإرادة.

 ثم لا يخلو إما أن تكون الحوادث لم تزل في ذاته كما أنه لم يزل, فالحادث لا يكون أزلا, فإن الأزلية تنافي الحدوث فذلك خلف, ويلزم منه حوادث لا أول لها وهو محال؛ وإما أن تكون حدثت له حيث يتصور الحدوث. فقبل حدوثها لم يخل من أن يكون موصوفاً بضدها أو بالانفكاك وعن ضدها. فإن كان موصوفاً بالانفكاك عنها وعن ضدها فيستحيل أن يقبلها, فإنه إنما انفك عنها لذاته, وإن كان موصوفاً بضدها فيستحيل اجتماع الضدين. وإن قدر عدمها كان محالا, فإن عدم القديم محال لأنه إن عدم لنفسه لم يصح وجوده, وإن انعدم بغيره فالذي يعدمه إما مثله فليس أحد المثلين أولى من الآخر, وإما ضده وليس أحد الضدين أولى من الآخر وليس الحادث بأن يعدم القديم بأولى من القديم أن يعدم الحادث. وأما خلافه وهو محال, فإنه إن كان يقوم به لم يوجب عدمه وإن كان لا يقوم به وهو فاعل مختار مثلا فالفاعل لا يفعل العدم.

ثم يمنع منه دليل التوحيد, وإن كان هو المعدم لصفاته كان محالا فإنه لم يفعلها, وإذا جاز أن يعدم صفاته جاز أن يعدم ذاته. وهذا من أمحل ما يتصور. ثم لا يخلو إما أن يكون محتاجاً إلى هذه الحوادث التي تقوم بذاته فيكون ناقصاً مكملا نفسه. ثم لا يصح وجودها منه, وقد تقدم هذا كله.

ثم قال: [ولا بطلان صفة أزلية عنه, ولا يصح العدم عليه] ومعناه أنه لا يجوز وجوده وعدم صفة من صفاته كعلمه وقدرته وإرادته وسائر صفاته, ولا عدمه مع وجود صفاته. فإن عدمه أو عدم صفاته يؤدي إلى نفينا, ونفينا مع وجودنا محال.

فإن قيل: نقدر عدمه وعدم الخلق. قلنا: لا يخلو عدمه المقدر بعد وجوب الوجود إما أن يكون واجباً أو جائزاً أو[132]  محالا. [43و]  فإن كان محالا صح ما قلناه. وإن كان واجباً كان محالا, إذ لا يمتنع تقدير بقائه مع وجود الاستمرار المتقدم. وإن كان جائزاً افتقر إلى مقتض ولا مقتض إلا ضد أو شرط أو فاعل, والكل محال كما تقدم.

                                  [ فصل في قيام الذات بنفسه ] 

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأنه قائم بنفسه مستغن عن مكان يقله أو جسم يحله] وحقيقة القائم بنفسه عند الأستاذ ما لا يتعلق في وصف وجوده بأكثر منه. وما لا يقوم بنفسه هو الذي لا يتوهم منفراً في وجوده. ولا يتحقق الوصف الأول إلا للقديم سبحانه, لأنه لم يتعلق وصف من أوصاف وجوده بفاعل ولا مكان ولا محل ولا شيء يقوم به. وقد أطلق الناس على الجوهر أنه يقوم بنفسه وعلى العرض أنه يقوم بغيره. ومعناه أنه يصح وجوده بلا مكان يقلّه ولا جسم يحله لكنه لا يصح حدوثه إلا بمحدث ولا بقائه إلا بفاعل, فهو مفتقر إلى من يوجد ذاته وإلى بقاء يقوم به وإلى صفات تكمل ذاته بها فلم يكن قائما بنفسه على الحقيقة. والعرض محتاج إلى من يوجد ذاته وإلى محل يقوم به.

ثم قال الأستاذ رحمه الله: " وتحقيق لفظ القائم بنفسه استغنائه بنفسه عن كل شيء أكثر منه واستقلاله بها عما سواه"[133]  والطريق الموصل إلى التفرقة بين ما قام بنفسه وبين ما لم يقم بنفسه أن يتوهم وجود القائم بنفسه وإن عدم القائم به أو بطلت صفاته لم تعدم نفسه, ولا يتوهم وجود القائم به إذا عدم هو في نفسه ولو جاز ذلك عليه لم يصح وجود ما قام به مع عدمه.

ثم قال الأستاذ رحمه الله: "وقد تتعلق أوصاف القائم بنفسه بأكثر منه إذا كانت زائدة على أوصاف الوجود"[134] فلا يكون ذلك مانعاً من القيام بالنفس, لأنه إنما يجب أن يكون قائماً بنفسه إذا استغنى في جميع أوصافه عما سواه وسائر الأوصاف لا تؤثر فيه كالعالم القدير الحي. فاعترض عليه بالجوهر فقيل له: أن الجوهر يستغني بأوصاف وجوده عن غيره. فقال: من أوصاف وجود الجوهر حدوثه وكونه موجداً في حالة وباقياً بعدها, وجميعه متعلق بغيره. والقائم بنفسه عند المعتزلة هو المستغني عن الفاعل والمحل والصفات المعنوية. وعند الفلاسفة كذلك وزيادة وهو أن يكون مستغنياً عن الصفات النفسية.

وقوله "مستغن عن مكان يقله" احترازاً من بعض الجواهر المفتقرة إلى المكان عادة كالماء وسائر المايعات والأحجار.

وقوله "عن جسم يحله" احترازاً من العرض. ولما كان بعض الأجسام في مجرى العادة لا يتماسك في الهواء مع أن الله قادر [43ظ]  على ذلك إلا بعلاقة أو دعامة.

قال: [ ليس له تحت فيكون تحته ما يسنده, ولا فوق فيكون فوقه ما يمسكه[135]   ولا جانب فيكون إلى جانبه ما يعضده أو يزاحمه] وذلك كالسقف والقناديل والحائط. وإنما ذكره على جهة البيان و إلا من انتفت عنه الجوهرية الجسمية انتفت عنه هذه العوارض.

                            

                              [ فصل في جواز رؤية الله تعالى ]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بجواز الرؤية عليه مع نفي هذه الأوصاف عنه] ومعنى ذلك أن الله سبحانه قادر عل أن يخلق لكل إنسان أراد أن يراه إدراكاً زائداً على العلم يكون كمالا للعلم, وهو عرض قائم بجزء من الحاسة, إما في الحاسة وإما في غيرها يرى به ذات الله تعالى من غير مقابلة ولا محاذات ولا اتصال أشعة ولا قرب مقدر ولا بعد متصور ولا مكان ولا محل ولا لون ولا شكل ولا صورة ولا مقدار ولا حد على نحو ما علمه عليه. وإن رؤيته تخالف رؤية المحدثات. وإن ذلك جائز عقلا وواجب سمعاً لقوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"[136], وابتهال الأمة  إلى الله أن يرزقهم النظر إلى ذاته, وقوله عليه السلام: "ترون ربكم عياناً  كما ترون القمر ليلة البدر"[137], وسؤال موسى عليه السلام "رب أرني أنظر إليك" وجواب الله تعالى له "لن تراني"[138] ولم يقل لست بمرئي.

وقد اتفق أهل الحق على جواز ذلك, واختلفوا في مستند الجواز في الرؤية. فمنهم من قال: العقل والسمع, ومنهم من قال: السمع خاصة, ومنهم من قال: العقل دون السمع, إذ السمع يحتمل التأويل البعيد, فيخرج عن القطع. فأما من قال بالسمع المحض فأقوى دليل عنده سؤال موسى عليه السلام, إذ يستحيل أن يبعث الله من لا يعرفه ولا يعرف ما يجب له ولا ما يجوز عليه ولا ما يستحيل. وأما من قال بالعقل, فاختلفوا في مستند الجواز العقلي. فمنهم من قال: مستنده السبر الحاصر والتقسيم. فقال متكلفاً للحصر لا يخلو جواز رؤية شيء إذا رأينا من أن يكون لجنسه أو لحدوثه أو لحدوث معنى فيه أو لوجوده. فأما جوازها لجنسه فمحال, إذ الرؤية غير مخصوصة بجنس دون جنس بل هي عامة, وهذا يدعي رؤية الجواهر والألوان. وفيه وقع النزاع. فمن الناس من يقول لا يرى إلا الألوان, ومنهم من يقول لا يرى إلا الجواهر, ومنهم من يقول ترى الجواهر والأعراض التي هي الألوان. ثم قال: وأما جوازها لحدوثه فمحال أيضاً لجواز رؤيته في زمن غير زمن حدوثه يعني في حال بقائه. وأما جوازها لحدوث معنى فيه فمحال أيضاً لجواز رؤية ما لا يقوم به المعنى, وهو اللون فلم يبق إلا أن يكون جوازها لوجوده. وفي كل مقدمة مما ذكرناه نزاع  [44و]  كثير. فإنه إذا نفي المفردات قد تكون الرؤية متعلقة بمركب. وعلى الجملة فلو سلم له جميع ما قال إلا الوجود لم يصح أن يكون الوجود علة ولا مصححاً, فإن الوجود إن كان حالا فلا يصح أن يكون علة ولا مصححاً عل مذهب أحد, إذ الحال ليس بموجود فكيف يكون مصححاً للوجود والرؤية ما ليس بموجود. وإن كان الوجود نفس الموجود فقد عللت الشيء بنفسه فكأنك قيل لك لم رئ الجوهر؟ قلت: لأنه جوهر, ولم رئ البياض؟ فقلت: لأنه بياض. ولا يلزم منه رؤية كل موجود لاختلاف الموجودات. ثم يكون كل موجود يصحح نفسه لأنه موجود. واتفق هؤلاء لا على جواز رؤية كل موجود. ويلزم منه تماثل كل رؤية كما تماثلا في المصحح, وهو الوجود. واتفق هؤلاء على استحالة رؤية المعدوم إلا السالمية, فإنهم قالوا برؤية المعدوم الذي يجوز أن يوجد.

وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتاب الوصف والصفة: اتفق أهل الحق على جواز رؤية كل موجود ومما امتنع أن يرى من حيث العادة, فإنما امتنع لمانع. وإن من رأى جسماً على بعد فقدره صغيراً كالشمس مثلا فقد رأى بعض أجزائه. وإن من رأى الهلال وما حوله وآخر لم يره ورأى ما حوله, فإن ذلك لاختلاف الرؤيتين لا للبعد واللطف. وإن المرئيات إذا كانت مختلفة أو متضادة كانت الرؤية متضادة. واتفقوا على أن الجوهر يجوز أن يرى دون لونه ودون كونه. واتفقوا على أن الظلمة لا تمنع ما ورائها وأنها ترى في نفسها وأن بعض الحيوانات يرى في الظلمة أكثر مما يرى في الضوء كالأسد, ومنها ما يرى في الظلمة والضوء كالهرة, ومنها ما لا يرى في الضوء القوي ولا في الظلمة القوية كالخفافيش, ومن الطيور ما لا يرى في الضوء كالبوم. وإن ذلك كله لاختلاف الرؤية. واتفقوا على أنه يستحيل من الرائي العاقل أن يدرك شيئاً ولا يعلم أنه أدركه, بل هو نوع من العلم وإن جاز أن يعلم أنه رآه بعلم سواه. واتفقوا أن الرائي لا يفعل لنفسه الرؤية بفتح أجفانه وإدارة وجهه نحو مرئيه. واتفقوا على أن الله سبحانه أجرى العادة بخلق الرؤية عند فتح الأجفان وخلق السمع عند الإصغاء إلى الشيء, وخلق ما ينافيهما عند الإطباق, وأنه يجوز أن يخلق جميعه فيه بكل حال. فهذا ما ذكره الأستاذ رحمه الله. وقد خالفه أصحابه في بعضه فقال عبد الله بن سعيد فيما حكي عنه: أن الرؤية تتعلق بما قام بنفسه ومنع تعلقها بالصفات, وقد روي عنه أيضاً تردد في ذلك. وخالفه الإمام والقاضي في تضاد الرؤيتين المختلفتين, وفي منعه اجتماع  [44ظ]  رؤيتين مختلفتين وجوزا[139] ذلك, وفي قضائه بتماثل الرؤيتين إذا تماثل متعلقهما ومنعا ذلك, وفي تعلق الرؤية بالوجود دون الأخص.

ثم عدنا إلى ما كنا فيه, ومنهم من قال:مستند الجواز العقلي شيئان جواز تعلق العلم بالإله ومنعه في القدرة والإرادة, وإثبات عدم تأثير الرؤية في المرئي. فإن العلم قد صح بالاتفاق تعلقه بالباري تعالى لعدم تأثيره لا لحدوثه ولا لوجوده, بل من حيث أنه صفة تكشف المعلومات. فقد إذاً جواز تعلق الحادث بالقديم ووقع الاتفاق على أن القدرة والإرادة لا يتعلقان به, وذلك للتأثير الحاصل منها. والرؤية كشف يخالف كشف العلم لا تؤثر في المرئي ولا يتأثر منها. فصح إذاً تعلقها بالقديم كالعلم وهذا هو المعتمد والشأن في إثبات نفي التأثير والتأثر.

والدليل عليه لا يصح إلا بعد إثبات الإدراك. والدليل على إثبات الإدراك أنه قد ثبت بالضرورة كون الإنسان يجد من نفسه كونه مدركاً في حال الإدراك, وغير مدرك في حال امتناعه. وهذه التفرقة لا بد لها من سبب كما يجد من نفسه العلم وعدمه. ومحال أن ترجع التفرقة إلى كونه حياً, فإنه يكون حياً ولا يدرك ولا إلى كونه عالماً أو مريداً وجميع صفات الحي سوى الرؤية, فإنه يصح وجودها مع عدم الإدراك ولا يدرك, ويصح وجود الإدراك فيدرك مع عدم سائر الصفات سوى الحياة.

فإن قيل: يرجع الإدراك إلى كونه حياً لا آفة به كما قال أبو هاشم. قلنا: هذا باطل, فإن النفي لا يؤثر في إيجاب الحكم. ولو كان المصحح انتفاء الآفة لوجب أن يدرك اللطيف كما يدرك الكثيف, ويدرك البعيد كما يدرك القريب. ويلزم منه نفي العلم وسائر الصفات سوى كونه حياً لا آفة به. ثم لا يخلو إما أن يكون مدركاً بكونه حياً, وهو باطل. إذ يلزم منه أن يدرك الأعمى وكل حي ما يدركه البصير, أو يكون مدركاً لكونه لا آفة به, وهو محال. إذ يلزم منه أن يدرك الجماد ويرتفع التعليل بالحياة أو يكون مدركاً بهما, وهو محال, لأن ما لا يؤثر على الانفراد لا يؤثر على الاجتماع.

 فإذا صح إثبات الإدراك, فهل يفتقر إلى شرط؟ فعند أهل الحق لا يفتقر إلى شرط كالعلم سوى المحل والحياة. وشرطت المعتزلة بنية مخصوصة, وهو باطل. فإن الإدراك الواحد لا يقوم إلا بالجوهر والواحد, فلا أثر للجواهر المحيطة به. وقد قدمنا الدليل على ذلك في باب الأعراض. وشرطوا الأشعة, وهو باطل. لأنه يرى السماء والكواكب, ويستحيل اتصال الشعاع بها. وكذلك من المحال الظاهر أن يكون في أجزاء العين مع صغر جرمها  [45و]  أجسام تنبسط على جبل فكيف نصف إلا كرة, والقول بتولد الأجسام محال. وكذلك يرى ما وراء الزجاج والبلور والماء, ويرى الألوان. ويستحيل اتصال الشعاع بذلك. وشرطوا نفي البعد المفرط وهو محال, فإنه يرى الكواكب وهي في غاية البعد. وشرطوا المقابلة, وهو محال. فإن الإنسان يرى نفسه بمقابلة المرآة, وليس في مقابلة نفسه. ويرى أضعاف نفسه في حالة واحدة مع القطع بأنه لا يقابله إلا مقداره. وشرطوا الهواء الصافي, وهو باطل برؤية ما وراء الماء. وشرطوا الضياء, وهو باطل برؤية النار.

 فإذا بطلت هذه الوجوه فالدليل على أنها لا تؤثر ولا تقتضي حدوث معنى في المرئي أنها تتعلق باللون وهو عرض, ويستحيل قيام المعنى بالمعنى, وتتعلق بالسماء والشمس والقمر وسائر الموجودات مع القطع بأنها لا تؤثر فيها.

والذي صارت إليه الفلاسفة والمعتزلة والزيدية والخوارج أنه يستحيل من ذي الحاسة أن يرى الله تعالى, وتستحيل الرؤية من غير حاسة. وزادت الفلاسفة فقالوا: ولا ترى العقول ولا النفوس. واتفقوا على امتناع رؤية كل موجود سوى الألوان. واختلفت المعتزلة في رؤية الباري تعالى لنا ولنفسه فقال حذاقهم: لا يرى نفسه, فإن الرؤية لا تكون إلا بحاسة ومقابلة ولا يرى غيره. وقالت طائفة: يرى نفسه ولا يرانا لأنه لا يرى نفسه بحاسة, وإنما يمتنع رؤيته على ذي الحاسة. وقالت طائفة: أنه سبحانه يرى من الكائنات مع يصح رؤيته منها. وقال أهل الحق: يرانا ويرى نفسه كما يعلمنا ويعلم نفسه.

 وسبب هذا الاختلاف, الاختلاف في الإدراك. وسبب الاختلاف في الإدراك البناء على ما شوهد عادة من غير التفات إلى دليل. فأما الفلاسفة فإنهم قالوا: الإدراك الحاصل بالبصر إنما هو عبارة عن انطباع صورة مثل صورة المرئي في الرطوبة والجليدية من العين التي تشبه البرد إذا قابلها متلون. وتلك الصورة تفيض من واهب الصور وهو العقل الفعال, فتدركه القوة المودعة فيها. وقد يكون ما ينطبع نفس الإدراك وقد يكون غيره. وقالت المعتزلة سوى أبي هاشم فإنه الذي نفى كون المدرك مدركاً بإدراك وقال: حقيقة المدرك الحي الذي لا آفة به كما تقدم, المدرك لا يدرك إلا بإدراك, ولكن لا بد أن ينبعث شعاع من ناظر الرائي ويتصل بالمرئي, ولا بد من نفي الحجاب والبعد المفرط والقرب المفرط, ولا بد من الهواء الصافي والمقابلة والضياء. فالحجاب يرد الأشعة, والبعد المفرط  [45ظ]  يبددها, والقرب المفرط يمنع من انبعاثها, والهواء المظلم تكرر الأشعة, والظلمة تحول بين الأشعة والمرئي. فبنى كل واحد نفي رؤية الباري على أصله, ولقد صدقوا فأن الرائي إذا كان لا يرى إلا بعد تحقق هذه الشروط استحال رؤية الباري تعالى. وقد أبطلناها, فإن الوجود على خلافها.

                            [ فصل في تنزيه الله عن الشرك ]  

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد باستحالة الأزواج والأولاد والشركاء والمماثلين[140] له] أما الزوجة فلا تتصور إلا في حق منفصلين يتصل أحدهما بالآخر, والباري تعالى ليس بمتصل ولا منفصل بل هو أزلي ليس له حد ولا نهاية. والزوجة تقتضي سيق الشهوة وحدوث الألم واللذة, والله تعالى متعال عن ذلك خلافاً للنصارى. ثم الزوجة إن كانت قديمة فهي إله مثله وإن كانت حادثة لم تخل أن تكون متحيزة أو غير متحيزة. فإن كانت متحيزة كانت من قبيل الجواهر, واستحال اتصالها به, وإن كانت غير متحيزة لم يصح كونها زوجة, ولا يصح قيامها بنفسها.

وأما الولد فإنه يقتضي الانفصال أي انفصال جزء من جزء, والباري ليس بذي أجزاء. وإن كانت الزوجة والولد من حيث الإضافة الفعلية فالكل فعل الله, وإن كانت[141]  من حيث التسمية منع منه الشرع.

وأما الشركة فإنها تكون في الألفاظ أعني التسمية أو الأسماء, وتكون في المعاني. فإن كانت في الألفاظ لم توجب حكماً, لأن الاسم المشترك هو المتفق في اللفظ المختلف في المعنى كالموجود فالباري تعالى يسمى موجوداً والعالم موجوداً, وهذا موجود لا فاعل له وهذا موجود له فاعل, وهذا موجود مضمن بالحيز أو القائم بالمتحيز, والباري تعالى لا متحيز ولا قائم بمتحيز. وكذلك سائر الأسماء والصفات التي وقعت فيها المشاركة. وقد منع الباطنية من مشاركة الباري الحوادث في الوجود والأسماء والصفات من حيث اللفظ. فإذا قيل لهم: الباري موجود قالوا: ليس بمعدوم. ولو ارتفع الشركة في اللفظ لما عرف موجود باسم ولا بوصف أبداً. وإن كانت في المعاني لم تخل إما أن تكون في والوجود فيؤدي إلى قديمين أو حادثين, وإما أن تكون في الصفات فيؤدي إلى المماثلة أو النقص. والمماثلة أيضاً في الصفات تؤدي إلى تناهي كل واحدة من الصفات. والتناهي في الصفات يوجب التناهي في الذات. فإنا إذا قدرنا قادرين متساويين في القدرة صارت كل واحدة من القدرتين نقص للأخرى. وإما أن تكون في الأفعال وهو المقصود بالنفي فيفعل كل واحد فعلا غير ما يفعله الآخر فيتعاونان كالبناء النجار. وفيه قصور قدرة كل واحد منهما أو بفعل كل واحد منهما مثل ما يفعل الآخر  [46و]  ففيه نفي الفعل ونفي معرفة كونهما شريكين, وصار كل واحد منهما نقصاً للآخر. وسنذكر بيان ذلك في الأدلة إن شاء الله. وإما أن تكون في الأموال, وهو المعروف من الشركة. وهو محال, فإن الشركة في الأموال مترتبة على الملك, الملك مترتب على الكسب. وإذا كان الملك مترتب على الكسب مع عدم تأثير القدرة فالمخترع أولى باسم المالك. وله الملك وكيف ما تصرفت الأملاك فهي ملك الله تعالى, فإنهم ما ملكوها بجهة الاستحقاق وإنما ملكوها بتمليك الله لهم إياها. واعلم أن المعتزلة قد صاروا إلى حقيقة الشركة من حيث لا يعلمون, فإنهم قالوا: الله تعالى يخلق جسم الإنسان وألوانه وقدره وحياته, ويخلق العبد طاعته وإيمانه وقد تقدم ذلك.

                           [ فصل في استحالة الآفات على الله تعالى ]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد باستحالة الآفات عليه] والآفات عند أهل الحق عبارة عن أضداد الإدراكات كلها وأضداد العلم والحياة وكل شيء يمنع من الإدراك. ومنها ما يشترك فيه الجماد والحيوان, ومنها ما يختص به الحي. فآفة إدراك البصر العمى وهو معنى قائم بمحل الإدراك. ومنهم من جعله معان, والعمى عند المعتزلة اختلال الحاسة. وآفة السمع الصمم, وآفة الكلام الخرص, وآفة الإرادة الكراهية, وآفة الحياة الموت والمواتية, وآفة العلم الغفلة والنسيان والشك والجهل والاعتقاد.

وهل يحس الحي موانعه؟ فيه خلاف فقال الإمام: يحس موانعه ولا يدركها. ومنع من ذلك الأستاذ أبو إسحاق والقاضي. ولا يصح قيام الآفة به تعالى لأنها إن صدرت من غيره كان محالا, يمنع منه دليل التوحيد, وإن صدرت منه ودّي إلى نفي ما به يفعل, ونفي ما به يفعل محال لأنه إن كان قديماً استحال عدمه وإن كان حادثاً استحال وجود الفعل من الحادث. وإن قدرت الآفة قديمة امتنع وجودنا, ونفينا مع وجودنا محال. والآفات عند المعتزلة ليست من قبيل الأعراض وإنما ترجع إلى اختلال البنية حتى لا تقبل أو إلى حائل يحول بين الحاس والمحسوس. ولا يسمون الأضداد آفات كأضداد العلوم والقدر والإرادات. فقد تكون الآفة راجعة إلى المحل نفسه كالعمى والعشى وجميع أمراض العين, وقد تكون الآفة راجعة إلى أمر خارج عن المحل كالجدار والظلمة والبعد المفرط وغيره. والإدراكات لا ضد لها عند بعضهم. والأضداد عندهم على ثلاثة أضرب: منها ما يتضاد على المحل كاللون والطعم والحركة وغير ذلك. ومنها ما يتضاد على الجملة كالعلم والجهل والحياة. ومنها ما يتضاد على غير محل كالإرادة والكراهة والفناء والجواهر.            

 

                               [ فصل في الإماتة والإعادة ]  

           [46ظ] والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأنه قادر على إماتة كل حي سواه] ومعنى ذلك أن الموت عرض من الأعراض يخلقه الله في كل حي سواه. وقد اتفق أهل الحق والمعتزلة على أنه لا خالق للحياة غيره وكذلك الموت. ومن قدر على الشيء قدر على ضده إذا كان مخترعاً. أما الموت في بعض الأحياء فهو مشاهد ولا بد له من فاعل, ولا فاعل إلا الله. وقالت الفلاسفة لا يصح من الله خلق الموت في كل حي, فإن العقول والنفوس عندهم حية لنفسها, يستحيل عليها الموت. وكذلك الملائكة والكواكب لا يجوز عليها الموت. وإنما يجوز الموت على الأجسام المركبة من الطبائع الأربعة بغلبة بعضها على بعض, فينحل تركيبها وتعود إلى البسائط كما كانت. وليس الموت بمعنى عندهم, وإنما هو عبارة عن عدم الروح التي بها تكون الحياة. وعدمها هو انحلال تركيبها فتقبل من واهب الصور صورة غير صورة الحس والحركة. وهذا كله مبني على أصلهم في أن العالم قديم, فإن ما كان قديماً يستحيل عدمه. وليت شِعري كيف جاز عليه الانحلال ولم يجز عليه الموت ولا العدم. وهؤلاء لا فاعل عندهم فكيف يوصف بالقدرة على الموت والحياة من لا يفعل شيئاً. وإنما نسبوا بعض الأشياء إلى بعض, إلى العقل الأول تحكم محض. وما دل على إثبات الأعراض دل على أن الموت عرض, إذ لا يخلو المحل من الشيء وضده.

ولما كان الفناء لا يصح بالقدرة عند أهل الحق, قال رضي الله عنه: [ويجوز منه إفناء كل شيء غيره] ومعنى ذلك عند أهل الحق أن الأعراض لا يصح بقائها زمانين متواليين. وأما الجواهر فإنها تبقى بتجدد الأعراض فيها. فإذا أراد الله إعدامها قطع مادة الأعراض عنها فانعدمت جملة وآحاداً.

وعدم الجواهر محال عند الفلاسفة. وصدقوا فأن من كان قديماً استحال عدمه. ويجوز عدم الجواهر والأعراض عند المعتزلة. أما الأعراض فمنها ما ينعدم بنفسه كالحركة والأصوات والإرادات والفناء على مذهبهم, ومنها ما ينعدم بضده كالألوان والطعوم والروائح والحياة والموت. وأما الجواهر فانعدامها يكون بعرض يخلقه الله تعالى لا في محل يضاد الجواهر, ويعدمها جملة لا آحاداً. واختلفوا في العرض الذي هو الفناء بما ذا ينعدم؟ فقال قوم وهم الأكثر: ينعدم بنفسه. وقال آخرون: ينعدم بجسم يضاده. وعلى هذا لا يجوز أن تنعدم الجواهر كلها أو الأعراض كلها. ولا يوصف الله بالقدرة عليه لأنه يؤدي إلى التسلسل, إذ لا يفني العرض الذي هو الفناء إلا بضده, وهو الجسم. ولا يفنى الجسم إلا بفنائها, كذا أبدأ, ومنهم من أوجب للفناء محلا فقال: يحل الفناء بالجسم  [47و] فيفنى به هو وأعراضه, وليس الفناء ضداً للأعراض.

وقال الأستاذ في الجامع الخفي: ما ذكروه في الفناء مما لا يعقل من وجوه: منها أن المضادة إنما تعقل في المعاني القائمة بالمحل, والفناء لا في المحل, والجوهر لا في المحل فكيف تضاداً. ومنها أن العرض الذي لا حجم له كيف ينافي الجوهر الذي له حجم. ومنها إن[142]  نافاها من حيث الوجود, استحال وجوده ووجود القديم ووجود الجوهر, ولم يكن أحدها أولى من الآخر, وإن نافاها من حيث العرضية استحال قيام عرض بجوهر, وإن نافاها من حيث الحقيقة استحال قيام حقيقة بجوهر, وإن نافاها أنه لا في محل فليكن على هذا وجود الله منافياً للجواهر.

ثم قال رضي الله عنه: [وإعادة الأجسام بعد فنائها[143]] وهذا يكون بالقدرة وقد ورد به الشرع, ومن جحده فهو كافر. وأنكرته الفلاسفة. وقالت المعتزلة بوجوب الإعادة عقلا. وقال أهل الحق بها عقلا من حيث الجواز ووجوباً من حيث الشرع. ومعناه عند أهل الحق أن الله قادر على رد عين الجواهر المعدومة أو مثلها, فإن ما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر. ومعنى إعادة العين إن الموجود قد تكون له حقيقة يتميز بها عن سائر الموجودات ويغايرها بها, فيعود إلى تلك الحقيقة التي كانت وعرفت أمس مثلا, ولو دامت ولم تعدم كانت هي هذه فإذا عدمت ثم وجدت فهي هذه أيضاً, فتخلل العدم لا يخرجها عن أن تكون هذه التي كانت موجودة وسواء كانت جوهراً أو عدماً.

 ومعنى إعادة المثل اختراع ذات لم يتقدم لها وجود, ولا يتصور إعادة ما عدم إلا في الحال الثالث وهو أن يكون موجوداً في الزمن الأول, ثم يعدم في الثاني.

وزعم ابراهيم النظام أن الإعادة لا تحتاج إلى توسط عدم, فالزم على ذلك الزامات لا محيص له عنها إلا بترك المذهب. منها خلق شخص في الطرق العالم ثم يعاد في الزمن الثاني من خلقه في الطرف الآخر. ومنها خلقه في بيت من حديد ثم خلقه في الزمن الثاني خارجاً منه. وذهب بعض الكرامية إلى جواز الإعادة ثم رجع حاصل كلامهم إلى نفيها، فإنهم قالوا لا تعدم الجواهر ولكنها تتبدد ثم يعاد تركيبها. وأما المعتزلة فقد أوجبوا إعادة الجواهر كما قدمنا, وأنكروا إعادة ما لا يبقى من الأعراض سواء كان من فعل الرب أو من فعل العبد.

 ومن أهل الحق من أنكر إعادة عين الأعراض كلها, لأنها لا تبقى زمانين. ولهم شبه دعتهم إلى ذلك: منها أن الأعراض مختصة بأوقات في علم الله. فلو جوّزنا إعادتها لبطل اختصاصها. وهذه دعوى لا برهان عليها. وسبيل الأعراض في الوقوع [47ظ]  سبيل الجواهر في الوجود التي لا تتخصص بأوقاتها وجوباً. ثم نقول مسلّم أنها اختصت بأوقاتها، ولكن من أين علمتم أن المعلوم عند الله أن العرض الموجود في وقت لا يوجد في وقت سواه إعادة. ومنها أن العرض من صفة نفسه أن لا يبقى زمانين، فلو أعيد لبقي زمانين مع تخلل العدم. وهذه الدعوى أضعف من الأولى، فإن العرض إذا وجود ثم عدم ثم أعيد ثم عدم ثم وجدها كذا أبدا لا يتصف بكونه باقياً مع تخلل العدم، وإنما تخيل كون العرض لا يبقى زمانين متواليين من غير تخلل عدم، فإن الباقي لا يكون باقياً إلا في الزمن الثاني.

 والدليل عليه أن المعاد بعد النشأة الأولى ليس موجوداً بغير حدوث، والقدرة تتعلق به ولا تتعلق بالباقي في الزمن الثاني، ومنها أن المعاد لمعنى، فلو أعيد العرض لقام به معنى. وهذا ليس بصحيح فإن الإعادة بمثابة النشأة الأولى ومن جوز إعادة الأعراض جوز إعادتها في محلها وفي غير محلها.

 وأنكروا إعادة ما يبقى من الأعراض إذا كانت من فعل العبد لا من العبد ولا من الله. وأجازوا إعادة ما يبقى من الأعراض إذا كانت من فعل الله. والذي دعاهم إلى منع ذلك في حق الرب أن مقدور العبد يستحيل من الرب أن يفعله، وقد تقدم إبطال ذلك. والذي دعاهم إلى منع ذلك من العبد أنهم قالوا: لا يخلوا إما أن يقدر عليه بقدرة أخرى فيؤدي إلى تعلق مقدور واحد بقدرتين وهو محال, أو بالقدرة الأولي وهو محال. فإنها لو قدرت علي إعادته لقدرت علي مثله، وذلك يوجب أن تصلح القدرة الحادثة لإيقاع مثلين في محل واحد, وما ذكروه مع تسليمه باطل. أما بطلان الأول فهو أنه إنما امتنع تعلق وجود المقدور الواحد بقدرتين، لأن الفعل الواحد لا تصح فيه الشركة، ولا بد لكل قدرة من أثر، وليس أحد القدرتين أولي من الأخري به، وذلك بشرط وجود القدرتين وإتحاد الزمن. وأما إذا تعلقت به قدرة مثلا ثم عدم وعدمت القدرة ثم أعبد وتعلقت به قدرة أخري مثلها لم يكن ذلك محالا، إذ لا تعلق للقدرة الأخرى به، وتعلقها الأول لا يبقي حكمه إلا مع تخلل العدم، كما لا يبقي في حال البقاء. وأما بطلان الثاني فما من قدرة إذا فرضت مخترعة إلا وهي صالحة لمثل الأول، و إلا فلا تكون صالحة للأول. ولذلك نمنع كون قدرة العبد مخترعة، فإنها لو صلحت لإيجاد موجود ما لصلحت لمثله. وإنما امتنع إيقاع مثلين في محل واحد لامتناع إرادتهما، لأن في إرادتهما مجتمعين إبطال حكمهما، إذ ليس أحدهما أولي من الآخر في إيجاب الحكم، أو إبطال أحدهما، أو إيجاب حكم واحد  [48و]  لعلتين.

 ثم قال رضي الله عنه: [وخلق أمثالها من غير قصر علي حد] ومعنى ذلك أن الله قادر علي خلق الأجسام من غير حد يقف عنده العقل. وهو داخل تحت عموم القدرة في تعلقها بالممكنات. وإنما ذكره في هذا الموضع لمنع بعض المعتزلة من زيادة أجسام أخر لم تعمل قط شيئا فتعذب أو تنعم. وقد ورد الخبر بزيادة أجسام أهل النار وأهل الجنة، وبنوه علي أصلهم. وهو أنه قبيح في المعقول أن يعذب من لم يفعل ما يستوجب به العذاب. وكذلك أن ينعم من لم يعمل قط حسنة.

ثم قال: [وأحياء ما يعيده, ويخلقه إن شاء إذا شاء متي شاء كما شاء] ومعني ذلك أن الإعادة لما لم تكن واجبة عليه، وكذلك الإحياء ليس بواجب عليه خلافا للمعتزلة, ولا وجودها في وقت مخصوص واجب ولا علي شكل مخصوص، بل له أن يعيدها وله أن لا يعيدها، وإذا أعادها فله أن يحييها وله أن لا يحييها، وإذا أحياها فله أن يحييها في أي وقت شاء علي أي شكل شاء. وكانت هذه الوجوه كلها داخلة تحت الإرادة. فقال: وأحيى ما يعيده ويخلقه إن شاء إحياؤه، إذا شاء إعادته، متي شاء إعادته, وأحياؤه كما شاء على أي شكل و أي كيفية شاء.

ومنعت المعتزلة جميع ذلك فقالوا لا يعيدها إلا كما كانت في وقت مخصوص، وواجب عليه إحياؤها، حتى تتوصل إلي الثواب أو العقاب. وسيأتي الكلام عليه، وبيانه في فصل استحالة الوجوب علي الله تعالي إن شاء الله.

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأنه قادر علي كل شيء يتوهم علي الإنفراد حدوثه] وهذا فصل داخل تحت عموم القدرة. وإنما ذكره لأن من الأشياء ما إذا توهم علي الجمع كان محالا، إما عقلا وإما عادة، وإما لأنه يؤدي إلي الكذب وخلاف المعدوم. وبيان ذلك أنا لا نعلم ما سبق كونه في معلومه من مقدوره، فما سبق في معلومه حدوثه في وقت مخصوص, استحال في تلك الحالة عدمه. وما تقدم فيه عدمه استحال فيه كونه. فإذا سئلنا عن قيام القيامة اليوم، هل هو مقدور أو غير مقدور؟ كان الجواب أنه مقدور علي معني أنه لو تعلق العلم والإرادة بكونه لكان مقدوراً بالقدرة أو بالنظر إلي ذاته من غير نظر إلي تعلق, وغير مقدور بالنظر إلي تعلق الإرادة والعلم بأنه لا يكون، فإنه لو كان مقدوراً في تلك الحال التي أخبر أنه لا يكون فيها لكان ما لا يريد، وكان الخبر علي خلاف المخبر. ولو سئلنا عن حدوث موت لذيذ في حال حياته، هل هو مقدور أم لا؟ كان الجواب أنه غير مقدور وهو محال عقلا، وكذلك خلق حركة له في حال سكونه. ولو قدر علي الإنفراد لكان مقدوراً علي معني  [48ظ] عدم الموت وخلق الحياة أو عدم الحياة وخلق الموت. وكذلك كل ضد هذا حكمه يكون خلقه محالا في حال الاجتماع, وجائزا في حال الإنفراد. وكذلك لو سئلنا عن خلق الحر والشمس في برج الجَدْي أو خلق البرد والشمس في برج الأسد، هل هو مقدور أو غير مقدور؟ وكذلك انقلاب الجبال ذهباً والبحر زيتاً، كان ذلك كله بالنظر إلي العادة محالا غير مقدور، وبالنظر إلي ذاته وخرق العادة جائز مقدور. ولو سئلنا هل يجوز أن يخلق الله مثل نفسه؟ وهل يجوز أن يقلب الله الذوات فيجعل الجوهر عرضاً والعرض جوهراً، والسواد بياضاً والعلم جهلا؟. كان الجواب أن ذلك محال من غير نظر إلي شيء.

                              [ فصل في جواز بعثة الرسل ]

 ثم قال رضي الله عنه: [الاعتقاد بأنه يجوز منه بعثة الرسل] ومعني ذلك أنه يجوز من الله سبحانه أن يصطفي من خلقه من شاء، إما ملكاً وإما إنساناً، فيبعثه رسولا إلي من شاء من خلقه فيأمرهم وينهاهم. ويجوز أن لا يبعثه. ويجوز إذا بعثه أن لا يأمرهم بأمر ولا ينهاهم عن شي سوي معرفة كونه رسولا، ومعرفة من أرسله مع غير إيجاب. ويجوز أن يتركهم مهملين لا بأمرهم بشيء ولا ينهاهم عن شيء. ويجوز أن يأمرهم وينهاهم ولا يعاقبهم. ويجوز أن يعاقبهم ويثيبهم من غير أمر.

 وقالت المعتزلة والشيعة: واجب أن يبعث الله رسولا إلي خلقه ولا يتركهم مهملين من جهة اللطف. وذلك أن القبائح عندهم منقسمة, وأضدادها إلي ما يدرك عقلا وإلي ما يدرك سمعا, علي معني أن الشرع مبين لها. ثم اختلفوا بعد الاتفاق علي الوجوب فقالت طائفة: إذا علم الله أن الأمة تؤمن كان الإرسال واجباً. وإذا علم أنها لا تؤمن بل تكفر كان الإرسال إليهم غير واجب, ولكنه يحسن من غير وجوب. وأما أبو هاشم فلا تحسن عنده بعثة الرسل إلا بعد ارتباط البعثة بأمور شرعية لا تدرك عقلا. وبيانها يتضمن لطفاً في الواجبات العقلية واجتناب المحرمات العقلية. وقال الجبائي في واحد أجوبته: لا بد من اشتمال البعثة علي ما لا يدرك بمجرد العقل، ولكن يجوز أن لا يكون لطفاً في الواجبات العقلية، بل الغرض مما اشتملت عليه الرسالة مما لا يدرك عقلا التعرض للثواب، وأسنى الدرجات وأظهر أجوبته أنه يجوز أن يبعث الله رسولا ويأمره بذكر الواجبات العقلية بلا مزيد. وهذا كله باطل باستحالة الوجوب علي الله.

 والمنكرون للنبوات أصلا الفلاسفة وبعض البراهمة والصابئون. وأنكروها من حيث العقل. وما منهم طائفة ادعت أن استحالتها تعلم ضرورة. أما الفلاسفة فإنهم أنكروها من وجهين: أحدهما من حيث أنه تعالي لا يعلم الجزئيات فيتميز له من يرسل عن غيره. 

[49و]  والوجه الثاني أنه ليس للبارئ تعالي عندهم كلام قائم به، ولا معني للرسول إلا المبلغ الكلام، ويبطل الوجه الذي أحالوا من أجله الرسالة بما قدمناه من إثبات الكلام وإثبات كونه عالماً بكل معلوم.

 وأما البراهمة فافترقوا ثلاث فرق: منهم من أنكر النبوات كلها بالكلية، وزعموا أن الله تعالي ما بعث رسولا قط. ومنهم من أقر بنبوة آدم وحده. ومنهم من أقر بنبوة إبراهيم خاصة وهؤلاء محجوجون بما أقروا به. فأما الطائفة الأولي فأنكروا النبوات من جهة التحسين والتقبيح, فقالوا: تفضيل بعض البشر علي غيره من جنسه محال في العقل، ويبطل بتفضيل العقلاء علمائهم وأشياخهم، وهم مثلهم في الجنسية.

 وقالوا أيضاً: بعث الرسل لا يخلوا إما أن يكون إلي من علم الله أنه لا يؤمن فلا فائدة في بعثهم، أو إلي من علم أنهم يؤمنون فلا فائدة أيضا في بعثهم. قلنا مع تسليم الفوائد في أفعال الله تعالي نقول: علم الله تعالي أنهم لا يؤمنون إلا يمجيء الرسل إليهم فأرسلهم.

 وقالوا أيضا: إن جاءت الرسل بما يوافق العقول ففي العقول غنية عنهم، وإن جائت بما يخالف العقول فلا يقبل. قلنا: جاءت بما يوافق العقول، ولكن العقول لا تستقل بدركه وتفصيله. ثم قد جوزوا تأكيد الأدلة العقلية، فما المانع أن تكون الرسل تأكيداً لما أدكته العقول.

 وسموا براهمة لمعنيين[144]: أحدهما أنهم قالوا: إن إبراهيم استدرك ما قلناه بالفعل ولم يزد عليه شيئا بالشرع. والثاني: أنهم قالوا لا رسول إلا وقد دعاهم لمقدار ما يجب عليهم لمجرد العقول فلا يحتاج إلي صاحب المعجزة، ولم يزدد به النمرود عقاباً علي ما كان يستحقه، لو لم يدعه إبراهيم لما دعاه إليه.

 وأما الصابئون فاختلف الناس في مذاهبهم. وكل من يدعي لهم مذهباً يغلطه الآخرون، وليس في شيء من ذلك غلط. وإنما ذلك اسم لفريق فيهم، ضروب من الإلحاد كالنصارى واليهود. وهؤلاء أنكروا النبوة من حيث زعموا أنه لا دليل يدل عليها. وبيان ذلك عندهم أنهم قالوا: أن النبي قد شاركنا في الجنسية، فبم يعرف صدقه؟ أبنفس دعواه ص قد علم أن الخبر يحتمل الصدق والكذب, أم بدليل أخر يقترن به. وذلك الدليل إن كان مقدوراً له فهو مقدور لنا، وإن لم يكن مقدوراً له بل هو مقدور بقدرة الله فلا يخلوا إما أن يكون معتاداً فلا يدل، أو غير معتاد فمن أي وجه يدل، ولا وجه يدل إلا اقترانه بدعواه. وللاقتران أسباب كثيرة محتملة عقلا. وإذا صح الاحتمال عقلا لم تتعين جهة الدلالة. وهذا يبطل بوجه دلالة المعجزة.

  [49ظ] وسبيل تعريف النبوة كسبيل تعريف الإلهية بالأفعال. وقد اختلف المتكلمون في مستند الجواز، أعني جواز إرسال الرسل. فقال قوم: دليل الجواز الوجود، فإذا صح وجود الرسل قرن بعد قرن انتفت الاستحالة. ومنهم من قال: مستند الجواز إثبات كون الرسل متكلماً، وإثبات كونه قادراً علي أن يدل كلام النفس.

 وقال الأستاذ رضي الله عنه: مستند الجواز العصمة والدعوى. فالعصمة ترجع إلي خلق الله للنبي الطاعاة فيكتسبها، أو القدرة عليها ويزيح عنه الشبهات والشهوات الموقعة في المهالك، وذلك ممكن في حق كل شخص. والدعوة ترجع إلي تعريفه بأمر الدعوة "قم فأنذر"[145]  وذلك راجع إلي خلق علم له لما أمره به. وذلك أيضاً ممكن في حق كل شخص، وصدقه فيما يخبر عنه أيضاً ممكن بما يظهره علي يديه من فعل علي شروط سنذكرها إن شاء الله. فليست النبوة إذاً راجعة إلي جسم النبي ولا إلي صفة من صفاته ولا إلي استعداده، وإنما هي راجعة إلي قول الله تعالي لمن يريد أن يرسله من خلقه أنت رسولي، كما يقول الملِك لبعض عبيده أنت رسولي. فهي رحمة ونعمة من الله تعالي يمن بها علي من يشاء من خلقه.

وكيفية الإرسال من الله تعالي للنبي لا يعدو أحد ثلاثة أوجه: إما أن يخلق له إدراكاً فيسمع به كلامه تعالي القائم بنفسه الذي ليس بحرف ولا صوت، ويخلق له علوما ضرورية بالكلام وبالمتكلم وبالمقصود من الكلام، أو يظهر له آية تدل علي أن الله هو الذي كلمه، فهذا وجه. والوجه الثاني أن يخلق في قلبه علوماً ضرورية بأنه رسول، وأن الله هو المرسل له، وبمقتضي أوامره ونواهيه إليه وإلي خلق الله. والوجه الثالث أن يبعث الله إليه ملكاً يخاطبه فيكون بينه وبين الله واسطة. ولا بد من علوم ضرورية بأن الله هو الذي أرسله، وبكونه ملكاً وبمفهوم لغته، أو ينطق بلغة البشر. وقد يكون حال الملك كحال النبي من غير واسطة، وقد تكون ثم وسائط، وحكم الوسائط في الأخذ والمعرفة لا يعدو ما ذكرناه. فهذا معني النبوة والنبي وكيفية الإرسال.

وأما صفة النبي فإنه يجب أن يكون مؤمناً في الظاهر والباطن، ويكون إيمانه عن علم لا عن تقليد، ويكون مقطوعاً علي طهارة سريرته، ويجب أن يكون أفضل أهل عصره ممن ليس بنبي من المؤمنين، ويكون معصوماً من الله تعالي عن الكذب علي الله، والكتمان فيما يؤديه، ومعصوماً من الغلط والسهو فيه، ويكون منزهاً عن موافقة الكفر بالله بعد الإرسال، وعن كل ما أجمع المسلمون علي أنه لا يقع عنه من القاذورات والذنوب الموبقات، نحو القتل بغير [50و] حق والزنا والسرقة وجميع الكبائر. وكذلك الصغائر المسقطة للقدر. فأما ما سوي ذلك فهو فيه كغيره من البشر في جواز السهو والغلط عليه فيما ليس طريقة البلاغ عن الله, وجواز إصابة بعض الذنوب في غير الأداء، وجواز ابتداء بعثة مع مساوات غيره في ذلك، وجواز المزاح عليه بما لا يثلم المروة والدين، وجواز تأخير ما كلف ببيانه إلي وقت الحاجة، وجواز تعبده بالاجتهاد فيما لم ينص له عليه، وجواز خطابه للأمة بالعام والمجمل وتأخير بيان ذلك إلي وقت الحاجة، وجواز مخالفة فرائضه وعباداته عبادات الأمة، وجواز كونه غير عالم بأعيان المسائل التي يتفرعها الفقهاء والمتكلمون التي لا يخلوا عدم العلم بها معرفة التوحيد، وجواز كونه غير عالم بلغات كل من بعث إليه، وإن كان لا بد أن يكون عالما بلغة منها، وهي لغة قومه، ولا يجب أن يكون عارفاً بالحرف والصنائع وجميع مصالح الدنيا ومفاسدها.

                                 [فصل في جواز تنزيل الكتب]

ثم قال رضي الله عنه: [وتنزيل الكتب] ومعني ذلك أنه يجوز من الله تعالي إذا أرسل رسولا إلي خلقه أن ينزل عليهم كتاباً تكون فيه أحكامهم ويتناوبوا علي تلاوته.

 وقالت المعتزلة ذلك واجب. ومعناه عندهم أن يخلق كلاماً في جماد فيسمعه النبي. ومن أحال جواز بعث الرسل من الفرق أحال تنزيل الكتب. والكتب مئة كتاب وأربعة, كذلك ورد الخبر. منها ما أنزل علي شيت، ومنها ما أنزل علي إبراهيم عليهما السلام، ومنها التوراة علي موسي وفيها الأحكام، والإنجيل علي عيسي وهو قصص وأخبار، والزبور علي داوود عليه السلام، والقرآن علي محمد صلي الله عليه وسلم. ومستند الجواز في تنزيل الكتب إثبات الكلام لله تعالي وقد أثبتناه، وإثبات القدرة علي تعريفنا معاني كلامه.

 وأما كيفية تنزيل الكتب فلا يعدو أحد ثلاثة أشياء أيضاً: أحدها أن يخلق الله رقوماً وأحرفاً تدل علي معاني كلامه في جسم من الأجسام، وتكون الكتابة مخلوقة علي نحو الاصطلاح أهل ذلك الزمان، إما عبرانية وإما سريانية وإما عربية، كما قال تعالي: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"[146]. ويخلقها مثلا والجسم الذي تكون فيه في السماء ويأمر جبريل عليه السلام، أو أحد الأملاك بالنزول بها فيكون التنزيل علي هذا التأويل مضاف إليها حقيقة من حيث كونها في جسم, ومن حيث أن الرقوم والأشكال جسم ولا يكون عين الكلام منزهاً، فإن النزول مضاف إلي الأجسام حقيقة، وإلي الصفات مجازاً ولا يتصور  [50ظ]  النزول في الصفات، فإنه يؤدي إلي إبطال حقيقتها حادثة كانت أو قديمة.

 والوجه الثاني أن يخلق الله تعالي ما ذكرناه في قلب النبي فيحفظه، أو في قلب ملك فيخبر به النبي، أو في جسم من الأجسام في الأرض فيقرؤه النبي علي ما هو عليه إذا كان عارفا بالقراءة والكتابة، ويكون إضافة النزول إليه علي هذا الوجه علي معنى الظهور؟ كما قال: "أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"[147] أي أظهر، و إلا فما نزل من السماء جمال ولا بقر. و علي الجملة النزول مضاف إلي المخلوق, فإن كان جسماً كان حقيقة، وإن كان عرضاً كان مجازاً.

 والوجه الثالث أن يخلق الله تعالي للنبي إدراكاً يسمع به كلامه علي نحو ما ذكرنا، ثم يعبر النبي عما فهمه بعبارته، ويكون النزول هاهنا بمعنى البيان مضاف إلي خلق الإدراك وخلق الفهم حتى عبر عنه لا اين عين الكلام انتقل إليه، فإنه محال، وكذلك في خلق الملك الموصل إلي النبي كما تقدم.

ثم قال رضي الله عنه: [وإقامة الحجج]  والحجج جمع حجة، والحجة في اللغة القصد إلي البينة، والمراد به هاهنا أنه جائز أن يبعث الله الرسل وينزل الكتب حجة علي خلقه لا حجة عليه وقالت المعتزلة: حجة عليه وعلي خلقه، فلو لم يبعثه الله رسولا وأراد تعذيب بعض الخلق لكان للعبد الذي تعذيبه أن يقول له لم تعذبني وما أنفذت إلي رسولا ولا أنزلت إلي كتاباً. قال أهل الحق: وإنما كانت الحجة لله علي خلقه لأنهم ملكه وله أن يتصرف في ملكه كيف شاء.

 ثم قال رضي الله عنه: [وتعبد الخلق, والثواب, والعقاب]  ومعناه أن لله أن يأمر خلقه وينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم, وله أن لا يتعبدهم فلا يأمرهم ولا ينهاهم ويثيبهم ويعاقبهم. ولا نفع له سبحانه في شيء من عبادة العباد كلها، ولا ضرر عليه في تركها. وحقيقة العبادة الإخلاص لله في الطاعة، ومعناه أن يطيعه علي أن وجوبها عليه من جهته.

 وقالت المعتزلة: واجب علي الله وجوب الحكمة أن يتعبد الخلق فيأمرهم وينهاهم، وإن وجوب العبادة لعظم النعمة. وتحقيق العبادة عندهم الخضوع علي المبالغة، وذلك فاسد. ويدل علي فساده أن استحقاق العبادة لو كان للنعمة لكان إذاً خلق الله عبداً وأكمل عقله ولم يمكنه من شيء يتلذذ به لم يجز تكليفه حقيقة, فإن النعمة عندهم التمكين مما تقع به اللذة، وهو خلاف الإجماع. وأما التذلل والخضوع علي ما ذكروه, فباطل بما لو خضع الإنسان وتذلل للرسل والوالدين والسادة فإنه لا يكون عبادة لهم. وأما الثواب والعقاب, فهو فعل يحدثه الله فيمن شاء من عبيده من غير استحقاق ولا وجوب. وذلك [51و]  أنه يجوز من الله تعالي، لو لا ورود الخبر بخلاف ذلك, أن يدخل الكفار الجنة والمؤمنين والأنبياء النار. فليس من شرط الثواب حصول الطاعة، ولا من شرط العقاب حصول المعصية، بل ما حصل من الثواب فهو فضل من الله، وما حصل من العقاب فهو عدل.

والثواب علي الفعل نوعان: يستحق أحدهما علي الأمر بنفس الفعل، ويستحق الآخر بخبر الأمر ويعلم ذلك باختلاف أوصاف المأمور. فإذا تعلق وجوب الفعل باختيار الفاعل استحق ما اشترط عليه من الثواب، وإذا تعلق باختيار الموجب لم يجب الثواب إلا بالخبر. مثال الأول الحر يخدم غيره باختياره علي شيء، ومثال الثاني العبد يخدم مولاه.

 والعقاب علي الفعل نوعان: إذا كان معصية يستحق أحدهما، ولا يستحق الآخر. يختص الأول بمن له المنع منه والإيجاب، ويختص الثاني بمن ليس له ذلك كالظلمة والمتغلبين، والأول كالسادة والعبد. وزعمت القدرية أن الثواب حتم علي الله في حق كل من أطاعه ولا يجوز إسقاطه، والعقاب أيضاً كذلك في حق كل من فعل كبيرة ولم يتب منها. وإن كل من أطاع غيره استحق ثوابا علي فعله، وأن العذاب علي غير فعل ظلم يوجب نسبته إلي الله الكفر. ويدل علي فساد ما قالوه أن الثواب لو وجب علي القديم سبحانه بطاعة العبد له لكان فعله لدفع اللوم عن نفسه، وليس بإله من وصف بصفة الرفع، أعني رفع اللوم عن نفسه. ويدل عليه أن الثواب لو استحق علي الفعل لتقدر ذلك علي الطاعة. وكذلك العقاب، و لاستحال أن يكون علي التأبيد، فإنه ظلم علي مذهبهم. وقد أقروا أنه علي التأبيد، ولا يخرجهم من ذلك قولهم أنه علم أنه لو أبقاهم أبداً لعصوا أبداً. فإنه فاسد، ووجه فساده أنه لو وجبت الزيادة في العقاب والثواب لأجل العلم لوجب تعذيب العصاة قبل الفعل، إذا علم أنهم يفعلون، وتنعيم من علم منه وإثابته قبل حصول الإيمان منه، وهذا مما يأبونه.

                 [فصل في "لا اعتراض ولا حجر ولا إلزام على الله تعالى"]

 ثم قال رضي الله عنه: [لا اعتراض عليه في فعله ولا حجر عليه في مقدوره ولا يستحق عليه شيء ولا يلزمه فعل]  ومعني ذلك أن جميع ما يقدر عليه الباري سبحانه من أفعاله فله فعله، ولا يخرج بشيء منه لو فعله عن الحكمة، لأنه سبحانه انتفت عنه الأعراض، وطلب الحظوظ، لأن ذلك من صفات المخلوقين. والاعتراض أن يقال لمن فعل شيئاً علي غير الاستقامة لم فعلت كذا دون كذا؟ ولا يكون الاعتراض إلا ممن كان أعلم بعواقب الأمور. وكيف يتصور أن يعترض العبد علي الرب وهو لا يدري عواقب الأمور, يفعل شيئا يظنه  [51ظ]  خيراً فيجده شراً وبالعكس. والحجر هو المنع ولا يكون إلا علي سفيه لا يعرف ما يفعل, فيمنع من الفعل لأجل جهله بعواقب الأمور، والله متعال عن ذلك. والاستحقاق لا يكون إلا بتقدم فعل من المستحق علي المستحق عليه، وذلك يقتضي النقص والضر والنفع تعالي الله عن ذلك, والإلزام كذلك.

 وزعمت المعتزلة أن الله تعالي إذا ألم شيئاً من الحيوان كان مما يعقل أو مما لا يعقل وجب عليه أن يعوضه علي ألمه، واستحق ذلك عليه، ولو لم يفعله لكان له الاعتراض عليه بأن يقول: إنك ظلمتني في الإيلام، إذ لم تعوضني عليه. والدليل علي فساد ما قالوه إنه لو لم يكن سبحانه موصوفاً بالقدرة علي أن يعذبهم بدلا عما يجب عليه من إنعامه لهم لكان موصوفاً بالقدرة علي أن يخرج نفسه من وصف الإلهية لاستحالة كون الإله ظالماً, وكان له وصفاً له بالقدرة علي أن يكون مخلوقاً محدثاً. ومن وصف القدرة علي إقامة الدلالة بأنه محدث كان محدثاً وجد دليله أو لم يوجد. نعوذ بالله من مذهب يؤدي إليه.

                                   [فصل في المعجزة]

ثم قال رضي الله عنه: [وأن الأدلة[148]  علي صدق الرسل المعجزات ولا يجوز إظهارها علي يد الكاذبين] ولا يتبين ما ذكره إلا بعد بيان المعجزات ما هي. فأقول قال الأستاذ أبو إسحاق في كتاب الوصف والصفة:المعجزة وجود ما لم تجر به العادة أو عدمه علي يد نبي مقترن بدعواه الرسالة دالة علي صدقه. وهي علي أربعة أضرب: ضرب يستحيل دخوله تحت مقدور البشر كإحياء الموتى وقلب العصا حية، وفلق البحر، وتلين الحديد وغير ذلك مما هو من جنسه. وضرب يدخل تحت مقدور البشر كالمشي علي الماء والطيران في الهواء، والكلام علي وصف لم يتقرر مثله في الوجود كنظم القرآن. وهذا الذي ذكره في هذا القسم. لا يصح إلا إذا قلنا أن نفس المشي ونفس الطيران ونفس الكلام معجزة من حيث أنه خرق للعادة؟ و إلا إذا قلنا أن المعجزة خلق القدرة علي المشي والطيران دخل في القسم الأول، وهو أنه غير مقدور للنبي ولا لأحد من الخلق. والثالث: المنع من المعتاد كمنع أهل الأقاليم مثلا عن الكلام المعتاد بينهم، أو الحركة أو السكون. وقد اختلف في هذا القسم هل المعجزة المنع وهو سلب القدرة علي الحركة أو القعود؟ والأصح أن القعود مع محاولة القيام وإن كان معتاداً من قوم لا يعدّون كثرة هو المعجزة. والقسم الرابع: عدم الموجود وهو أن يقول النبي: آيتي أنكم لا تجدون غداً هذا الحبل في هذا الموضع فيأتون فيجدون الأمر علي ما قال 

[52و]   واعلم إنما سميت دلالات صدق الأنبياء معجزات تجوز وتوسع في الكلام، فإن المعجز علي الحقيقة خالق العجز، لكن لما كان يظهر بها أن من ليس نبياً يعجز عن الإتيان مثلها سميت بذلك. وبيان ما ذكرناه أن المعجزة فعل الله، أو كف عن فعل ولا يتصور العجز عن أفعال الله تعالي، فإن الإنسان إنما يتصور أن يعجز عن ما هو من مقدوره.

 وللعجز عشر شروط: منها أن تكون فعلا أو في معني الفعل، فلا تكون المعجزة صفة قديمة لله تعالي والعلم بها، فإن الصفة الأزلية لا اختصاص لها ببعض الخلائق. والمعجزة حقها أن تكون مختصة بمن يدعي النبوة، ومتعلقة به قولا أو فعلا. فلو قال مدعي النبوة: آيتي علم الله أو قدرته أو العلم به لم يكن ذلك آية، فإنه لا يخصص علم الله صادقاً عن كاذب، والعلم به يشاركه فيه الغير، ثم لعله كذب في قوله أنا أعلمها.

والشرط الثاني: أن يدعيها الرسول، لأنه مهما ظهرت أية من الذي ذكرناه ولم يدعيها ثم قال: هذه معجزتي كان دعواه ودعوى غيره فيها سِيّان.

 والشرط الثالث: أن تكون موافقة لدعواه، لأنه مهما ظهرت علي خلاف دعواه لم تكن معجزة. مثال ذلك أن يقول: الدليل علي صدقي أن ينطق الله تعالي يدي فتنطق يده وتقول كذب، أو يقول: آيتي أن أحيي هذا الموت فيقوم ويصدقني فقام الميت فكذبه فذلك ليست معجزة. فأما من قال: آيتي أن يحيي الله هذا الميت فأحياه الله به، فقال الميت كذب ليس برسول، فالمعجزة صحيحة وسواء قال ذلك في الحال أو بعد ساعة. وقد منع القاضي الأول وهو أن يقوم فيكذبه، وتردد في الثاني وهو أن يبقي ساعة. وأجاز ذلك الإمام في الوجهين جميعاً. والفرق بين هذه الصورة و الصورة التي تقدمت؟ أن في الصورة الأولي ادعاء أنه يصدقه فكذبه، وفي الصورة الثانية لم يدع إلا إحياه فقط، وكلامه ليس بمعجز، بل هو من مقدور الميت، وقد يكون كافراً كما قال تعالي: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه"[149]  وهذا هو الفرق بين كلام اليد بالتكذيب وكلام الميت به، فإن كلام اليد خارق للعادة، والكلام في حق الميت بعد إحيائه ليس بخارق للعادة.

والشرط الرابع: أن تكون مقارنة لدعواه لا تتقدم، فإنها مهما تقدمت بطل الاختصاص. واختلف في التأخر ولا معني للخلاف فيه، فإنه إن ضرب لذلك أجلا، وتأخرت عنه فليس بمعجزة وإن حصلت في الوقت الذي قال فهي معجزة. وإن قال: معجزتي تأتي بعد موتي بشهر، عينه لم يلزم قوله، وإن شرع الأحكام وعلقها بظهور الآية وظهرت كما قال  [52ظ] صح كونه رسولا.

 والشرط الخامس: أن تكون خارقة للعادة، لأنها مهما كانت معتادة لم تكن معجزة، ويدل عليه ثلاثة أمور: أحدها أن المعجزة إنما تدل لتمييز النبي بها، ولا يتميز بالمعتاد. الثاني أنه لا يمتنع وقوع المعتاد من الكاذب. الثالث نزولها منزلة التصديق بالقول، والتصديق بالمعتاد لا يصح. وشرط هذا الشرط أن يرقي عن مسالك الظنون وينتهي إلي مبلغ تنحسم فيه التقديرات. وهذا الشرط للشرط إنما جعل احترازاً من الخواص التي يطلع عليها بعض الناس، كحجر المغناطيس وخواص الأدوية والرقى والشعوذة والسحر.وقد اختلف في هذا الشرط الخامس، هل يكون نقضاً لعادات من بعث إليهم، أو يكون نقضاً لعادات البشر؟ فقال: الأستاذ نقضاً لعادة من بعث إليهم النبي. وقال غيره: بل نقضاً لعادات البشر كلهم. وهل تكون في زمن مخصوص حتى لا يأتي بها إلا نبي واحد ، أو يجوز أن يأتي بها أنبياء عدة فتخرج عن كونها خارقة للعادة؟ وقد منع القاضي رحمه الله من هذا القسم الأخير, وقال: إذا توالت خرجت عن كونها معتادة. وقال غيره: يجوز أن تتوالا ويأتي عدد من الأنبياء بآية واحدة. مثاله إحياء الموتى ويخبر كل واحد بصدق الآخر، فإنه قد استقر أن هذه الآية لا تظهر إلا علي يد نبي وهذا نبي، وإنما تكون غير خارجة عن العادة أن لو ظهرت دون دعوى نبي وتوالت.

 والشرط السادس: أن تكون من فعل الله فإنها إن كانت مما يقدر عليه البشر لم تكن معجزة، لأن المشاركة تمنع من التمييز، وكما لا يجوز أن يكون نبياً صادقا بتصديق بعض الناس، كذلك لا يصح أن يكون الله مصدقاً له بقوله أو فعله. أعني قول من ادعي النبوة أو فعله.

 والشرط السابع: أن لا يتصور وجودها من غيره، لأن ما وجد علي يد غيره لا يكون معجزة له.

 والشرط الثامن: أن يتحدى بها ويطالب الناس بالإتيان بمثلها، لأنه إذا لم يتحد بها لم تكن معجزة.

 والشرط التاسع: عدم المعارضة فإنها إذا عورض فيها لم تكن معجزة، وهل تكون المعارضة بمثل ما جاء به؟ اختلف في ذلك فقيل لا تكون المعارضة إلا بمثل ماجاء به المعارض وهو المشهور في العرف. وقال القاضي إن أطلق التحدي من غير تنصيص علي جنس من الآيات، وقال في تحديه لا يأتي أحد من الخلق بآية غيري إلا نبي، وأتي احد بآية صحت المعارضة، وإن كانت الآية مخالفة لما جاء به، إذا وقعت من غير نبي ولم تصح، إذا وقعت ممن يدعي النبوة وإن لم  [53و]  يطلق، بل قال: آيتي إني أقلب العصا حية وقد خصصت بذلك، ولا يأتي أحد من الخلق بمثل ما جئت به، فلا يصح الإتيان بمثلها، لا من نبي ولا من غيره، لأن التحدي كذلك وقع. وعلي الجملة الغرض بالمعجزة ثبت صدق من ظهرت علي يديه، وفي تجويز المعارضة تجويز الكذب, ومهما وجدت المعارضة لم يكن الظاهر آية.

وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتاب الوصف والصفة: اتفق أهل الحق علي أن من المعجزات ما يورده الرسول ولا يحتاج فيه إلي الغرض والتحدي، وثبتت به الحجة علي من وفق عليه كالآيات التي تقدمت للرسل ولم يمكّن الله أحداً من معارضتها في زمانهم وبعده. وقد كان إيمان أبي بكر رضي الله عنه لآيات وأعلام شهدها وحصل له العلم بها إنها لا تكون إلا  للرسل، فلم يكن إيمانه إلا عن بصيرة. ثم قال: واتفقوا علي أن المعجزة إذا ظهرت لا تصير حجة إلا بالانتشار والجد في المعارضة من المعارضين له وقصورهم عنها مع الثبوت علي العداوة. واتفقوا علي أنه إذا أظهرها للخلق بحيث يقع لهم العلم بها وشاهدوها فقد تمت لهم الحجة، ولا يجب عليه تكرارها بعده علي الآحاد ومن ناء عنه في الأقطار. وأنه إذا عجز أهل البصيرة عن المعارضة ثبتت الحجة علي من لا بصيرة له ممن ليس هو من أهل تلك الصنعة.

 والشرط العاشر: مختلف فيه وهو أن تكون المعجزة من جنس المضرب الذي به يصولون وعليه يعوّلون، وذلك مثل ما ورد به موسي عليه السلام، فإنه ورد علي قوم قد بلغوا النهاية في السحر فتحداهم بما هو من جنسه من قلب العصا حية. وورد عيسي عليه السلام علي قوم قد بلغوا النهاية في الطب فتحداهم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. وورد محمد عليه السلام علي قوم قد بلغوا النهاية في معرفة أوزان الكلام فتحداهم بالقرآن، وهذا الشرط استقراء ولا يلزم ذلك.

 واختلف المتكلمون في وجه دلالة المعجزة بعد كمال شروطها. فقالت المعتزلة: إنها تدل من حيث ثبت عقلا وجوب إصلاح الله تعالي عبيده، وثبت أن الآيات من فعل الله تعالي. فلو ظهرت علي يد الكاذبين كما تظهر علي يد الصادقين لفسدت الأدلة، وبفساد الأدلة يفسد الخلق للإيهام الحاصل في تصديق الكاذبين، وفيه رفع الصلاح.

وذهب كثير من مشايخنا إلي أن وجه دلالتها استحالة تعجيز الإله سبحانه عن نصب دليل علي يد صادق، فإن صدقهم ما يتوهم العلم به اضطراراً واستدلالا، ثم لا طريق يدل علي صدق مدعي النبوة إلا المعجزة، لأن القديم لا يكون دليلا  [53ظ]  علي صدقه. والحادث إما مقدور للعبد فلا يدل، وإما مقدور للرب فإن كان معتاداً لم يدل، وإن كان غير معتاد دل علي الشروط المتقدم ذكرها. والأدلة العقلية لا تدل علي صدقه فانحصرت الدلالة في المعجزة، فلو ظهرت علي يد الكاذبين ظهورها علي يد الصادقين، لأفضى ذلك إلي امتناع نصب الدلالة علي صدقهم فيجب أن يكون الرب قادراً علي تعريف الصادق من طريق الاستدلال. وتمييزه عن الكاذب من حيث وجب وصفه بالاقتدار علي الهداية و الإضلال وتمييز الحق من الباطل, فهذا ما اعتمده الأستاذ أبو إسحاق والأستاذ ابن فورك[150]  وغيرهم من المشايخ، وهذا معني قول الأستاذ "وأن الأدلة علي صدق الرسل المعجزات ولا يجوز إظهارها علي يد الكاذبين".

 والذي عول عليه القاضي والإمام أبو المعالي أن وجه دلالتها ليس كوجه دلالة الأدلة العقلية، فإن الدلالة العقلية تدل لما هي عليه ولذاتها, والمعجزة إنما تدل دلالة الأدلة الوضعية وهو كونها تتنزل منزلة التصديق بالقول. وبيان ذلك أنه لا بد من تقدير المواضعة فيها. والمواضعة قد تكون صريحاً، وهو أن يقول القائل لمن يخاطبه: إذا رأيت فلاناً طلب مني القيام في الوقت الفلاني الذي لم تجر به عادتي تصديقا لقوله إنه رسول وفعلته عند دعواه فأعلم إني قصدت به تصديقه في دعواه. وليس المعجزات من هذا القبيل، فإن الله لم يخاطبنا بذلك. وقد تكون المواضعة ضمناً وهي المقدرة في المعجزات وهي معلومة قطعاً من المعجزات، فإنه إذا علم أن هذا الفعل من فعل الله، وأنه خارق للعادة، وأنه مفعول عند دعوى النبي الرسالة والطلب، أعني طلب الفعل من الأفعال مخصوص به دلالة علي صدقه وأن القديم سبحانه سامع لدعواه النبوة ولطلب المعجزة منه عالم بما في مواضعة أهل لغة الرسول, ثم فعل ما يدعيه علم أنه قصد تصديقه فيتقدر الشروط كلها الموجودة في المعجزة كأنه مصرح بها في المواضعة فتحصل المواضعة ضمناً.

وتحرير القول فيها أن يقال الأدلة علي ضربين: عقلية ووضعية. وليست[151]  المعجزات من العقلية. والوضعية ضربان: سمعية وعرفية. وليست المعجزات من السمعية، إذ السمعية ضربان: شرعية ولغوية. والعرفية ضربان: صريح وضمناً. والمعجزة من القسم الأخير.

 وحكي الإمام أبو القاسم عن الشيخ أبي القاسم رحمه الله أنه قال: المعجزة تدل علي الصدق لعينها، وقال: وله قول آخر إنها لا تدل  [54و]  لعينها حتى يجوز ظهورها علي يد كاذب. قال: والحق هو الأول. ومعني أنها تدل علي الصدق لعينها أن عينها علي تلك الأوصاف لا تكون قط إلا دالة علي الصدق، كما أن الفعل المحكم وإن كان له أوصاف في كونه دلالة علي العلم، لا يكون قط إلا وهو دال علي العلم. وظهور المعجزة علي يد كذاب لا تكون إلا مع انخرام وصف من أوصافها.

 فإن قيل: هل تجوزون في المقدور وقوع المعجزة علي حسب دعوى الكاذب؟ فاعلم أن الأئمة اختلفوا في ذلك. فمنهم من قال: ذلك غير ممكن، لأن المعجزة تتضمن تصديقاً, وتصديق الكاذب محال. والقاضي يرى أنه مقدور ولكنه لا يقع كخلاف المعلوم. وقال الأستاذ: مهما ظهرت معجزة علي يد كاذب ظهر مثلها علي يد غيره حتى يعارضه، ومن شرط كون المعجزة دليلا أن تسلم عن المعارضة. والوجه المعول عليه أن المعجزة تتضمن العلم بصدق من ظهرت علي يديه. والعلم يتعلق بالمعلوم علي ما هو به. والعلم بصدق الكاذب محال، فإنه يؤدي إلي أحد محالين، إما كون الشخص صادقاً كاذباً، وإما تعلق العلم بالمعلوم علي خلاف ما هو به.

                         [فصل في عدم التكليف قبل مجيء الرسل]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأنه لا واجب علي أحد من الخلق قبل مجيء الرسل. ومن فعل شيئا قبله[152]  لم يقطع له بثواب ولم يجزم عليه بعقاب] أما هذا الفصل فقد شرحه الأستاذ في الجامع الجلي فقال: وتفسير قولنا إنه لا واجب علي أحد من الخلق قبل مجيء الرسل، أن كل من فعل شيئاً قبل ورودهم، أو اعتقد مذهباً أو أخذ مالا أو قتل نفساً فلا يقطع له بثواب ولا عقاب من عند الله غداً في الآخرة. وكذلك من استدل علي التوحيد وشكر المنعم واعتقد وجوبه لم يجب له ثواب من جهة القديم سبحانه،. وكل من قال بوجوب الشكر أو حظر الأشياء أو إباحتها أو بالوقوف فيها علي معني أن لا دليل علي ثواب أو عقاب من الله في خطاه أو صوابه, أو قال بوجوب شيء علي الله أو بنفي جواز فعل منه مع كونه مقدوراً له فلا عقاب عليه ولا ثواب له نحكم به عليه، لا علي أنا ننفيه قطعاً في الآخرة، بل أمرهم إلي الله إن شاء عذب وإن شاء تركهم وإن شاء أثابهم، فإنه يجوز أن يعذبهم ويجوز أن لا يعذبهم ويجوز أن يهملهم فلا يأمرهم ولا ينهاهم. والواجب الشرعي ما يذم تاركه ويلام شرعاً أو ما يخاف العقاب بتركه أو ما يستحق العقاب بتركه.

 وقسمت المعتزلة الأفعال المقدر أنها واجبة علي قسمين فقالوا: منها ما يجب بالعقل قبل ورود الرسل وهو معرفة المنعم وشكره، ومعرفة الرسول وتعظيمه.  [54ظ]  ومنها ما يعلم وجوبه شرعاً كالصلوات والزكاة وغير ذلك من العبادات . وإنما علم وجوبها بالشرع لكونها متميزة بألطاف لا يستقل بدركها العقل، لكن الشرع ينبهه عليها، فمن لم ينظر ويعرف المنعم ولم يشكر استحق العقاب أبداً خالداً في النار. وعلي الجملة كل من فعل ما يدرك قبحه ضرورة أو نظراً وجب عليه العقاب علي ما فعل من الله، أو من غيره. ومن نظر وشكر وأطاع وجب له الثواب. وإن ورد الرسول وجب عقلا معرفته والنظر في معجزته التي جاء بها وإن لم يأمر الرسول أحداً بالنظر فيها, مع أن هذا التقدير محال علي مذهبهم. فإنهم منعوا جواز أن لا يبعث الله رسولا وقبحوه غاية القبح، فكيف يقدروا ما لا يجيزونه. والذي دعاهم إلي ذلك اتفاق العقلاء علي وجوب الاحتراز عما يخاف العاقل منه التلف, وتوهمهم أن الأفعال كلها إذا صدرت من الفاعل أي فاعل كان قديماً أو حادثاً، عاقلا أو غير عاقل لا بد أن تكون في نفسها علي وصف يتميز به بعضها عن بعض. وذلك الوصف عند بعضهم صفة نفسية تلزم في العدم والوجود. وعند بعضهم صفة تابعة للحدوث لازمة له بعده وجوده.

 ومنهم من قال: أن أفعال البهائم والمجانين والصبيان ليس لها وصف لا نفسي ولا تابع، وذلك الوصف تارة يعود به ضرر علي الفاعل إذا كان حادثاً, وسفه ولوم إذا كان قديماً ويسمي ذلك الوصف عند العقلاء قبيحاً، وتارة يعود به نفع علي الفاعل إذا كان حادثاً, وثناء وحكمة إذا كان قديماً ويسمي ذلك الوصف حسناً وهي معان معقولة.

فمنها ما يدرك بضرورة العقل حسنه كإنقاذ الغرقاء والهلكاء وشكر المنعم ومعرفته والصدق.  ومنها ما يدرك بضرورة العقل قبحه كقبح الكفر وإيلام البري عن الجناية والكذب الذي لا غرض فيه. ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر، وقبح الكذب الذي فيه نفع. ووجه النظر فيه عندهم أن العاقل إذا تصدى له غرض يحصل بخبر صدق ويحصل بخبر كذب فيؤثر العاقل الصدق ويتجنب الكذب, ولا وجه في حمله علي ذلك إلا كون الكذب كذباً قبيحاً، فيعلم بذلك أنه يقبح من حيث أنه كذب. وهذا المعني موجود في الكذب الذي فيه نفع فيرده إلي أصله وهو أنه قبيح والمنفعة العارضة لا تخرجه عن وصفه، وكذلك الصدق. والصورة الأولي لا يحتاج فيها إلي تفكر، بل يحتاج إلي تصور المعني في الذهن فقط.

 ومنه ما يدرك بالسمع  [55و] كحسن الصلوات والزكاة وجميع العبادات. وهذا الوهم انغرس في نفوسهم منذ الصباء من الآباء والمعلمين وأهل البلد، و إلا فلو قدرنا رجلا بلغ ولم يعاشر أحداً وعرض عليه كون الاثنين أكثر من الواحد لما بادر إلي إنكاره. ولو عرض عليه الكذب وقيل له: ماذا يحكم فيه لتوقف فيه ولعله لا يعرف ما هو الحسن والقبح في نفسه, كيف وقد اختلف الناس في التعبير عن الحسن والقبح. فمنهم من عبر به عن الموافقة والمخالفة، فما وافق فهو حسن وما خالف فهو قبيح. ويختلف ذلك بالصفات والزمن والمكان. ومنهم من عبر به عن كل ما لفاعله أن يفعله. وقال أهل الحق: الحسن ما حسنه الشرع بالثناء علي فاعله، والقبيح ما قبحه الشرع بذم فاعله، وليس ذلك راجعاً إلي نفس الشيء ولا إلي صفة متعلقة به، بل هو عبارة عن ورود الثناء والذم فقط اختياراً. وهذا المعني كلها أوصاف إضافية لا نفسية ولا معنوية ولا تابعة للحدوث . وشاركهم في ذلك الكرامية والتناسخية والفلاسفة إلا أن الفلاسفة خصوا القبح والحسن بجنس العلم والجهل.

                                             تنبيه

إعلم أنه ما من حكم من الأحكام إلا والعقل يدرك ما هو به, وإن كنا نقول: أن العقل لا يحسن ولا يقبح إلا أنه لا تجب معرفته بالعقل، بل بإيجاب الله تعالي علي لسان رسوله، ولو لا صحة المعرفة بالعقل لما عرف من الرسول ما دعوا إليه.

فإن قيل: فهل يعرف بالعقل ما الواجب وما الحسن وما القبح؟ قلنا: نعم يعرف معاني هذه الألفاظ من أهل اللسان, فإنها أسامي موضوعة بالاصطلاح لمعان معقولة إضافية، إلا أن ما وضعوها له لا يجب أن يكون كذلك في حق الله تعالي وفي حكمه لنا أو علينا، فإن لله أن يغير ما حكموا بحسنه إلي القبح، وما حكموا بقبحه إلي الحسن.

والذي يبطل ما ذكروه في الحسن والقبح رأساً أنا نفرض الكلام في حركة من الحركات ونقول: الحركة عرض وكون وموجودة وقائمة بمحل وموجبة لمحلها حكم النقلة ويتبعها إذا كانت في ملك الغير إنها قبيحة، وإذا كانت في ملكه إنها حسنة. فلا يخلوا إما أن تكون حسنة لكونها موجودة فيلزم منه حسن كل موجود وهو محال، وإما أن تكون حسنة لكونها عرضاً فيلزم منه حسن كل عرض وهو محال, وإما أن تكون حسنة لكونها قائمة بالمحل ويلزم منه حسن كل قائم بالمحل, وإما أن تكون حركة أو كوناً فيلزم منه حسن كل حركة وكون، وإما أن تكون حسنة لكونها في ملكه فكونها في ملكه لا يرجع إلي نفس الحركة من حيث أنها  [55ظ]   حركة، بل من حيث أن ملك الغير مباح له التصرف فيه. وهذا ما نقوله بشرط أن يكون ثم مبيح فإنه لا مالك علي الحقيقة إلا الله وتستحيل عليه الحركة وله أن يجعل الحركة في ملك الإنسان قبيحة بأن ينهاه ألا يتحرك, ويجعل الحركة في ملك الغير حسنة بأن يأمره أن يتحرك في ملك الغير وكذلك في جميع الصفات. ولنرجع إلي ما كنا فيه من أمر الوجوب ولهم شبهتان: الأولي قولهم قد تقرر بين العقلاء وجوب الفعل الذي لا يؤمن العقاب معه علي تركه ولا موجب لذلك إلا العقل.

 قلنا: صدقتم في قولكم أن كل فعل يخاف معه الضرر واجب تركه، وأخطأتم في قولكم أن العقل يوجب ذلك، فإن العقل علم أو غريزة، مثلا يتعلق بالشيء علي ما هو به، فكيف يوجب والإيجاب ترجيح أحد الفعلين علي الآخر بعقاب أو ذم. وإنما العقل معرف للوجوب فيما علم فيه الوجوب، والمعرفة التي يوجبها إذا سلمنا ذلك لا تخلوا إما أن تكون ضرورية أو نظرية. فإن كانت ضرورية, كما قاله بعضكم, ارتفع التكليف واستغني عن الوجوب فإنه كيف يوجب علي غيره أن يفعل له ما يثيبه عليه وهو فاعله؟ وهذا عندهم قبيح. وإن كانت نظرية فما سببها؟ قالوا: سببها أن العاقل يخطر له خاطران أحدهما أنه لا يؤمن أن يكون له رب أنعم عليه وأراد منه الشكر وأنه إن نظر أثيب. والثاني أنه إن لم ينظر عوقب، فالعقل يقضي بإثبات النجاة وتحبب الهلكات، ويوجب ذلك لإسقاط العقاب المتوهم.

قلنا: بقي لكم قسم آخر من الجواز فلم ينحصر ما قسمتموه, وهو أن يخطر له أنه يجوز أن يكون المنعم الذي ذكرتموه عني عن فعله وأنه خلقه ليترفه، وأنه إن نظروا تعب نفسه بالنظر عاقبه. ومن خاف التلف من شيئين علي البدل وجب عليه التوقف. وإنما غرهم في ذلك اعتقادهم أن الخير لا بد أن يكون مراداً لله، والشر لا يكون مراداً له, وقد أبطلناه. وقد يريد الله ما إذا وجد عذب عليه فاعله. ولو علمنا بدليل قاطع كونه مريداً له لم يتعين علينا الوجوب لجواز أن يكون القديم مريداً للشيء علي وجه الندب فلا يعذب علي تركه. ويدل علي فساد ما قالوه أنه لو وجبت الطاعة بفعل المراد ووجبت المعصية بترك المراد لكان يكون البارئ مطيعاً إذا فعل ما أردناه، وعاصياً إذا فعل ما لا نريده وهو محال. ويدل علي فساد ما قالوه أن وجوب الاستدلال لا يخلو من أن يكون لطلب الثواب أو دفع عقاب. فإن كان لطلب ثواب جاز تركه مع الرغبة عنه، وإن كان لدفع عقاب لم يقطع علي الله سبحانه  [56و]  بكونه لجواز أن يكون السابق في معلومة تركه.

الشبهة الثانية أنهم قالوا: لو لم يكن شكر المنعم فالاستدلال عليه واجباً في العقول لم يعرف صحة ما هو له الرسول. فانه لا يعلم إلا بالاستدلال عليه، والاستدلال عليه لا يجب إلا بقول الرسول، والرسول لا يجب إتباع قوله ما لم يعلم اَنه رسول, ولا يعلم أنه رسول إلا بالنظر، والنظر لا يجب إلا بقوله, وقوله لا يثبت إلا بالنظر, بطلت الرسالة. وهذا هو البرهان الدوري الذي لا يصح.

 والجواب: الحق أن الرسول ليس بموجب, والموجب هو الله، والرسول هو المبلغ المبين, والعقل هو المعرف ما قاله الإله علي لسان رسوله, والطبع المجبول علي الحذر مما يخافه الإنسان إذا علمه أو ظنه أو توهمه هو الذي استحث علي البقور مما يولم. والمعجزة نوع دليل يتمكن العاقل بالنظر فيه من معرفة صدق من دعاه. وليس من شرط الإيجاب أن يكون الموجب عليه عالماً بوجوده، ولا بوجوبه ولا مريداً له لعدم الدلالة الموصلة إليه، إذ لا دلالة إلا المعجزة أو يخلق الله له علماً ضرورياً فيبطل التكلف, بل شرطه ثبوت السمع الدال عليه مع تمكن المكلف من الوصول إلي العلم بالصدق. وهو بمثابة الخاطرين, أعني قول الرسول. ولا يتصور أن يكن الإنسان عالماً بوجوب النظر إلا بعد أن ينظر، ولذلك لا يصح أن يكون العبد مقترباً إلي الله بأول نظر،  لأنه لم يقصد به التقرب. والحق الواضح أنه لو لم يكن هو الموجب لما جاز له التعذيب، ثم يلزمهم أن من سهى وغفل عن الخاطرين لا يكون عالما بوجوب النظر, فلا يجب عليه النظر. ثم الخاطرين إن كانت من فعل العبد فهو محال، وان كانت من فعل الله فهو شك في التوحيد، والباري عندهم لا يفعل الشك. وان كانت من الملك كما زعم بعضهم فالملائكة لا تفعل الشك عندهم وعندنا. فقال بعضهم يتكل به الملك في أذنه, وهذا محال. فان القي ما يشكك كفعل الشك، ثم ما ذكروه من الكلام في الأذن من الخرافات. ولذلك قال يعضهم: المعارف كلها ضرورية. وقال بعضهم بوجوب الشك ورآه حسناً. وقال بعضهم بالتخيير في ابتداء النظر. وهذه كلها مذاهب دكيكة لا تفيد علماً.

                      [فصل في وقوع بعث الرسل وتنزيل الكتب]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأنه بعث الرسل وأنزل الكتب] وقد ذكرنا كيفية ذلك في اعتقاد جواز بعثة الرسل. وأراد هاهنا الوقوع. وذلك معلوم بالتواتر علي الجملة. ومنهم من علم بالتعين كآدم ونوح وإبراهيم وموسي وسليمان  [56ظ] وداود وعيسي وأيوب ومحمد عليهم السلام وكل من اخبر الله تعالي عنه في كتابه أنه رسول. وورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: "خلق الله مئة ألف نبي وأربعة وعشرين ألفاً المرسلون منهم ثلاثمائة وأربعة عشر"[153].

 وكذلك قوله [أمر ونهى ووعد وأوعد] معلوم بالتواتر أن الله أمر عبيده بالطاعة ولا يجوز أن يأمرهم بالكفر ولا بالشك ولا بالشريك ولا بنفي جواز الرؤية ونفي خلق الأعمال, وعلي الجملة وكل صفة لو جازت عليه لم يكن إلهاً مع تلك الصفة ولا بإهانة الأنبياء وسبهم، لأن ذلك متناقض. والأمر قسم من أقسام الكلام وهو القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به، فذكر القول يميزه عما عدا الكلام، وذكر المقتضي يميزه عما عدا الأمر من أقسام الكلام. وقولنا بنفسه يميزه عن العبارة فإنها لا تقتضي بنفسها شيئا، وإنما تقتضي بالوضع والاصطلاح. والنهي هو القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بترك المنهي عنه. وصيغة الأمر "افعل" والنهي "لا تفعل" إذا اقترنت بهما قرينة تدل علي العقاب. ولا معني لقول من قال: إنه لا صيغة للأمر والنهي عند أهل الحق من حيث أن الكلام الحقيقي هو القائم بالنفس، فإنه وهم. فإنه لو قال الشارع أمرتكم بكذا، أو أنتم مأمورون، أو قال: أوجبت عليكم أو فرضت عليكم وأنتم معاقبون علي تركه، فكل ذلك يدل علي الوجوب و الأمر. وإنما الخلاف في "افعل" هل تدل بمجرده علي الأمر؟ وهذا كله مذكور في أصول الفقه. والمقصود منه أنا نعتقد أن الله أمر عباده ونهاهم، والقرآن يصرح بذلك، والوعد والوعيد خبران عن الثواب والعقاب. فالوعد خبر عن ثواب من أطاع، والوعيد عن عقاب من لم يطع. ومنه قوله تعالي: "فأما من طغي وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى"[154]  فهذا وعيد، "وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"[155]  وهذا وعد.

 ثم قال: [وما أمر به الرسل فهو حق] يعني أن ما أمر به الرسل بأمر الله فهو ثابت علي ما هو عليه، ووصفه بأنه حق لأنه لا يدخله الصدق فيوصف به ولا الكذب. ولما كان الخبر يوصف بالصدق أو الكذب قال: [وما أخبروا عنه فهو[156] صدق]  فإنه لا أمر إلا لله، وأمر الله هو كلامه القائم بذاته، ويستحيل أن يقوم به كلام علي خلاف ما علم، فإنه لو قام به كلام علي خلاف ما علم لاستحال منه أن يخبر عما علم وذلك يؤدي إلي محالين: أحدهما رفع ما علم جوازه من تعريف الله خلقه خبره, والثاني أنا نعلم بالضرورة أن العالم بالشيء علي ما هو عليه يستحيل أن يتصف  [57و]  مع علمه به بصفة يستحيل معها كلام النفس المتعلق بمعلومه علي حسب تعلق العلم به, فيؤدي إلي نفي ما علم ضرورة، وأيضا فإن الأمر أمر لذاته فلا صدق فيه ولا كذب. ويدل علي صحة ما قلناه أن الرسول إذا صح كونه رسولا وعلم ذلك وتستحال عليه الكذب، وأخبر أن الله تعالي صادق في قوله، وأن أمره حق ثبت ذلك بقوله وإن لم يدل عليه دليل عقلا لثبوت صدقه واستحالة الكذب عليه ولا يثبت ذلك إلا عقلا.

 فإن قيل: نحن لا ننازعكم في أن الذي جاء به الرسول حق لا من أمر ولا من نهي ولا من خبر لقيام الدلالة علي صدقهم، ولا كنا نقول أنتم تجوزون الإضلال علي الله, وأن له أن يضل من يشاء ويهدي من يشاء. فما المانع أن يكون النبي ما سمع كلام الله وخلق الله له حروفاً علم منها الأمر والنهي إلي قوم مخصوصين، وتلك الحروف لا تدل علي كلام الله تعالي، وإنما تدل علي خلافه وأراد الله تعالي بذلك إضلالنا.

 قلنا: هذا محال من وجوه: أحدها أنه تجهيل للنبي وتكذيب له في قوله أنه حق. والثاني خلق دليل ولا دلالة أنه محال. والثالث أنه لا يجوز منه أن يخبر بالشيء علي ما علمه، إذ لا دلالة عليه. والرابع أنه وصف له بالقدرة علي إخراج نفسه من الإلهية. والخامس أن الحروف لا بد لها من مدلول، ولا يخلوا مدلولها إما أن يكون مقدراً، والتقدير في حق الله محال، أو محققاً فلا بد أن يرجع إلي الكلام أو إلي الإرادة، فإن رجع إلي الإرادة كان محالا, لأنه لا تتلقى التكاليف من الإرادة, فإنه قد يأمر بما لا يريد. وإن رجع إلي كلام فيفه اجتماع كلامين أحدهما صدق والآخر كذب. والحق أنه لا يأتي النبي بأمر ولا نهي ولا خبر إلا وقد علم حقيقته، وقد علم صدقه بالمعجزة.

 ثم قال رضي الله عنه: [ولا يجوز العدول عنه ولا الخروج منه علي ما رتبوه في الشرائع] ومعني ذلك أن من عدل عما قرروه، أو خرج منه لا يخلوا إما أن يكون جاحداً فيكون كافراً، أو مقراً فيكون عاصياً. والقسم الأول فيما تواتر من الشريعة والقسم الثاني فيما تواتر وفيما صح من أخبار الآحاد.

                          [فصل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم]

 والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأن محمداً صلي الله عليه وسلم رسول رب العزة] اعلم أنه رضي الله عنه إنما خصص هذا الفصل بالذكر وإن كان داخلا تحت الفصل الأول لطوائف أقروا بالأنبياء وأنكروا نبوته علي الخصوص وهم النصارى واليهود لعنهم الله.

 وافترقت اليهود علي أربع فرق. فالفرقة الأولي تعرف بالشمعية وهم الذين يقولون بجواز نسخ الشريعة وإرسال النبي بعد موسي [57ظ]  من طريق العقل إلا أنهم يمنعونه من جهة التوقيف الذي لم يرد به، ويدعون أنه ورد بالمنع من كل نبي.

 والفرقة الثانية تعرف بالعنانية وهم الذين يحيلون النسخ من جهة العقل وتأكيد السمع له. ويزعمون أن نسخ الشيء قبل امتثاله وحضور وقته بداً ودلالة علي الجهل، إلا أن فرقاً منهم أجازوا نسخ العبادة بما هو أغلط وأشق علي المكلف عقوبة له.

والفرقة الثالثة تعرف بالعيسوية[157]  وهم أصحاب أبي عيسي الاصبهاني وهم الذين يقولون بنبوة عيسي ومحمد عليهما السلام، ولكنهم يقولون أنهم لم يرسلا إلا إلي قومهما خاصة، ولم يؤمرا بنسخ شريعة موسي عليه السلام.

 والفرقة الرابعة تعرف بالسامرية، وهم طائفتان: طائفة وهم الأكثرون يقرون بنبوة موسي وهارون ويوشع إبن النون، وينكرون نبوة من عداهم من النبيين. وطائفة وهم الأقل، يقرون بنبوة كل من ظهرت الأعلام علي يديه بعد موسي، وينكرون نبوة عيسي ومحمد عليهما السلام. ويزعمون أن ما ظهر علي أيديهما من الإعلام إنما كان ضرباً من الحيل، ونوعا من المخاريق. وزعموا أن عيسي بن مريم لم يبعث فيما مضي، وإنما يبعث في المستقبل.

 فأما النصارى فقد أنكروا بنبوة نبينا صلي الله عليه وسلم لا من حيث النسخ ولا من حيث تأبيد الشريعة، بل من حيث أن المعجزة ينبغي أن تكون من جنس ما جاء به عيسي عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص حتى لا يقع فيها ريب لأحد. ويقولون: وما ذكرتموه من المعجزات في حق نبيكم مما يتصور أن يقدر عليه البشر. وقد بينا المعجزات وشروطها، وجميع تلك الشروط موجودة في معجرة نبينا عليه السلام علي ما سيأتي بيانه إن شاء الله. وكل ما يقدرونه طعناً بعد ثبوت الشروط هو لازم لهم في معجرات عيسي, كيف وقد قال عيسي عليه السلام "ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"[158]  وهو في الإنجيل إني سأذهب ويأتي بعدي الفراقليط وهو يشهد لي كما شهدت له فأنا أحييكم بالأمثال، وهو يحييكم بالتأويل فآمنوا به واتبعوه. والمراد بالفراقليط في لغتهم الحمد، فكأنه قال يأتي بعدي أحمد أو محمد. وفي الإنجيل أيضاً محمد عبدي ورسولي المتوكل المختار لا فظ ولا غليظاً و لا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، و لكن يعفو ويصفح يفتح الله به قلوباً غلفاً وأعيناً عمعياً، آذاناً صماً، ولن يقبضه الله حتى يقم به الملة المعوجة, مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام، و أمته الحامدون يحمدون الله في السراء والضراء، ويكبرون علي كل شرف.

 [58و]  وفي التوراة جاء وحي الله من ساغير وأشرق من سيناء، وظهر من جبال فاران يريد بساغير مبدأ النار التي رأي موسي عليه السلام. وقيل: إنه جبل بالشام وكان فيه عيسي عليه السلام. ويريد بقوله أشرق من سيناء كلام الله من الجبل، وجبال فاران جبال مكة التي ظهر منها محمد صلي الله عليه وسلم. وفيها أيضاً إني أقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم مثلك اجعل كلامي علي لسانه, يريد بإخوة بني إسرائيل نيل ولد إسماعيل. ويريد بالنبي رسول الله صلي الله عليه وسلم، إذ لو أراد غيره من بني إسرائيل لقال من أنفسهم، ولم يرد بالإخوة بني العيص، لأنه لم يبعث منهم. وغير ذلك كثير في كتب الأنبياء، لكنهم غيروه وبدلوه.

 ومنهم من آمن به وإذا أخبر من ثبت صدقه بمعجزة عن نبي أنه يأتي ثبت صدق النبي الآتي بقول الأول، وإن لم يظهر الثاني معجزة, ويجوز أن يبعث الله أنبياء عدة، ويظهر الله المعجزة علي يد بعضهم، ويكون من ظهرت علي يديه مصدقاً لمن لم تظهر له.

 وأما وجه فساد قول الفرقة الأولي من اليهود فظاهر، وذلك أنهم لقنوا في هذا الزمن لقنهم بعض المبتدعة أن يقولوا إن موسي قال هذه الشريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض، لا نسخ لها ولا تبديل، و إلا لو كان هذا في التورية كما زعموا لاحتج به اليهود علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وما ذكروه قط.

 وفساد قولهم من وجوه: أحدها ما ذكرناه. والثاني أنه لم ينقل متواتراً كما نقلت أعلام النبوة أعني أعلام نبوة موسي. ولو كان كذلك لحصل لنا العلم الضروري بذلك، كما حصل لنا العلم بقلب العصا حية وفلق البحر، ووجود موسي عليه السلام. والثالث أنه يحتمل التأويل إن صح ويكون معناه ما لم تظهر معجزة علي يد نبي يدعوا إلي نسخها. الرابع أنه لو كان الأمر علي ما قالوه لما ظهرت معجزة علي يد عيسي ولا غيره ممن أتي بعد موسي عليه السلام، لأن ظهورها يؤدي إلي محالين، إما تكذيب موسي عليه السلام، وإما أن يكون الذي أتي بها كاذباً.  والخامس إن الذين آمنوا من اليهود أكثر من الذين بقوا، فكيف جاز عليهم التواطؤ علي ترك ما صح عندهم. فإن قالوا: أنهم مرتدون كما يرتد بعضهم عن الإسلام. قلنا: ليس دعواكم عليهم بأنهم مرتدون مع كثرتهم بأولى من دعواهم بأنكم مرتدون مع قلتكم.

وأما وجه فساد قول الفرقة الثانية الذين أحالوا النسخ من جهة العقل فظاهر أيضاً، وذلك لا يبين إلا بعد ذكر شبهتهم. وشبهتهم أنهم يزعمون أن الأمر بالشيء يقتضي كونه مصلحة، والنهي عنه يقتضي كونه مفسدة، ولو جاز أن ينهى  [58ظ]  القديم سبحانه عما أمر به لجاز أن يكون سفيهاً، إما في أمره بالفساد، أو في نهيه عن الصلاح، إذ ما نهي عنه بعد أمره لا بد أن يكون صلاحاً أو فساداً. ولما استحال كونه سفيهاً لم يجز أن ينهي عما أمر به.

 وبيان فساد قولهم من وجوه: أحدها أنه قد ثبت أن الباري تعالي حي, عالم, قادر, مريد ويستحيل تغير صفاته، فإنه يؤدي إلي حدوثه. والنسخ لا يناقض صفة من صفاته، ولا يدل علي التغير، فإنه اللفظ الدال علي انتفاء شروط دوام الحكم الأول فكان اللفظ بظاهره يقتضي الدوام وهو عند الله إنما يقتضيه إلي مدة معلومة فبين اللفظ الوارد المدة وانقطاع التكليف بعدها، كما يتبين ذلك بالموت. فليس إذاً محالا لذاته ولا يؤدي إلي محال. وإنما يؤدي إلي محال أن لو قال: افعلوا لا تفعلوا. والنهي عن الشيء في غير وقته لا يكون نهياً عنه في وقته. وما المانع إن تختلف المصالح باختلاف الأوقات إذا قلناً بها، وقد يكون الشيء طاعة في وقت كالصلوات في الأوقات المأمور بها معصية في وقت كالصلاة في الأوقات المنهي عنها. وقد تختلف المصالح بالأحوال وبالأزمان وبالأمم وبالأشخاص، فقد يكون المعلوم عند الله أن الأصلح للعبد أن يعتقد دوام الحكم ويكون المعلوم أنه لا يدوم ثم يبين له بعد ذلك، أو يكون المعلوم إن الأصلح للعبد أن يعتقد أنه واجب عليه أن يفعل وقد علم الله أنه لا يفعل، ويكون ذلك قبل الوقت أو بعده. وإنما[159]  يكون متناقضاً أن لو كان الأمر متعلقاً علي جهة خبرية، أو يكون متعلقاً علي وفق الإرادة في كل الأوقات، و إلا فالمراد في وقت غير المكروه في وقت أخر، كما أن المراد من الأكل مع الجوع غير المكروه مع الشبع فلا يجوز تغيره. فما المانع أن تكون شريعة اليهود مصلحة لهم في زمن موسي عليه السلام مفسدة لهم في زمن محمد صلي الله عليه السلام. وذلك فيما يتعلق بالتفريع لا فيما يتعلق بالعقائد، فإنه لا يتصور نسخها كالأكل في رمضان في زمن الحيض مصلحة, طاعة في حق الحائض والنفساء والمريض الذي لا يقدر علي الصوم, ولو صام لهلك مفسدة في حق غيرهم. وكذلك الجماع في غير الحج في المحللات مصلحة وطاعة يثاب عليه، ومفسدة في الحج في المحرمات يعاب.

الثاني أنه لو صح ما قالوه لم يرد نبي يغير ما ورد به الآخر. الثالث أنه لو صح ما قالوه لما جاز تحريم السبت، لأنه لم يكن محرما علي من تقدم، ولا جاز تحريم نكاح الأخوات ولا العمات، فإنه لم كن محرماً في زمن آدم عليه السلام.  [59و] الرابع أنه لو كان نسخ الشيء يؤدي إلي البداء كما زعموا لما جاز إماتة جسم بعد حياته ولا مرض جسم بعد صحته ولا إيلام أحد بعد لذاته.

فإن قالوا: هذا ليس طريقه البداء وإنما هو علي طريق الجزاء والانتقام. قلنا: ينتقض بالبهائم والصبيان. فإن قالوا: تغير حالات هؤلاء ليس علي سبيل الجزاء وإنما هو علي سبيل المالح. قلنا والأمر بالشيء وقت والنهي عن مثله في وقت أخر مثله، ثم يقال لمه: هل تفريق القديم الجسم بعد تأليفه وتربيعه بعد تسديسه وترطيبه بعد تيبيسه وتحريكه بعد تسكينه وغير ذلك من تغير أوصافه وأحواله بداء منه واستدراك علم غير ما علم. فإن قالوا: ليس ببداء. قيل لهم: وكذلك أمره بالشيء في وقت ونهيه عن مثله في وقت آخر ليس ببداء.

وأما فساد قول الطائفة الثالثة فأبين مما تقدم فإن من أقر بالنبوة وادعى التخصيص كان متناقضاً في دعواه، فإن النبي لا يكذب. وقد تواتر عمن خصصا نبوتهما ببعض الخلق أنهما قالا بعثنا إلي الناس كافة. وقد نقل ذلك عنهما كما نقل أعلامهما فهم بين أمرين متناقضين، إما أن يكذبوهما، فالنبي لا يكذب وذلك أيضا مما يبطل نبوتهما، ونبوة من هما متمسكين به، وقد قرروا بها، وإما أن يصدقوهما فيلزم اتباعهما، وإما أن يكذبوا النقلة عنهما فيما نقلوه من تعميم الشريعة فيبطل التواتر رأساً، ويبطل ما نقلوه من أعلام نبوتهما فتبطل النبوة وقد أقروا بها.

وأما الفرقة الرابعة فيطالبون بالدليل علي نبوة من أقروا به فلا يبدون وجهاً إلا ويلزمهم مثله في نبوة من أنكروه، فإن ادعوا المعجزات عورضوا بمثلها، وإن ادعوا التواتر عورضوا بمثله.

ثم قال رضي الله عنه: [معجزته القرآن] ولم يرد رضي الله عنه القرآن الذي هو كلام الله القديم القائم بذاته. فإنا قد بينا أن ذلك محال، وإن المعجزة لا بد أن تكون فعلا أو كفاً عن فعل. وإنما إرادة العبارة فإن القرآن اسم مشترك يطلق علي المقروء الذي هو كلام الله وهذا ليس بمعجز. ويطلق علي القراءة وهو من هذا الوجه معجز. وللقرآن وجوه كثيرة من الإعجاز ولكل وجوه وجوه من التقديرات فيجوز أن يقال التلاوة من حيث هي تلاوة معجزة. وتقدير الإعجاز فيها من وجهين: أحدها أن يخلق الله هذه الحروف المركبة والكلمات المنظومة في لسان التالي من غير أن يكون قادراً عليها، ومحركاً لسانه بقدرته واستطاعته، وتتمحض فعلا لله تعالي، ويظهر إعجازه في نظمه المخصوص ويجوز أن يخلق الله تعالي في نفس النبي كلاماً [59ظ]  منظوماً فيترجم عنه بلسانه، ويكون تحريك اللسان مقدوراً له لكن الكلام المعجز ما اشتمل عليه الضمير، ونفث في الصدور، كما قال تعالي: "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه"[160]  ويجوز أن يخلق الله ذلك الكلام في قلب الملك أو في لسانه فيلقيه وحياً للنبي، ويعبر عنه النبي بلسانه، كما قال تعالي: "إنه لقول رسول كريم"[161] أي تنزيلا ووحياً. ويجوز أن يكون قد خلق الله هذه العبارات المنظومة بعينها في اللوح المحفوظ فيقرأ جبريل منه، ويقرأ علي النبي ويسمع منه كما يسمع الواحد منا، وتكون المعجزة هو الكلام المنظوم، وجبريل مظهر والنبي مظهر.

 واعلم إنا إذا روينا شعراً وحفظناه أحسّنا من أنفسنا قدرة علي التلفظ به، ولا نحس من أنفسنا قدرة علي النظم الحاصل فيه، فكذلك القرآن القائم بذات الله تعالي لا إعجاز فيه. والنظم المرتب المخصوص بالدلالة عليه هو المعجز وهو فعل الله فيكون المسموع والمحفوظ من حيث أنه سمعه وحفظه مقدوراً للعبد. ومن حيث النظم المرتب في المسموع والمحفوظ غير مقدور له، بل هو مقدور لله. ومن حيث صفة الأزلية القائمة بالله غير مقدور لا لله ولا لغيره، تعالي الله أن تكون له صفة مقدورة، وقد تقدم بيان ذلك في الصفات.

 وقد اختلف الناس في إعجاز القرآن ولا خلاف في ظهوره من النبي، ومن ابدأ في ذلك مرا فقد كابر نفسه إلا أن يكون بحيث لم يتواتر إليه. فذهب بعض المعتزلة إلي أن الإعجاز في النظم المحض. وذهب آخرون إلي أنه في الفصاحة. وذهب آخرون إلي أنه في البلاغة دون النظم وصار صائرون إلي أنه لا إعجاز في القرآن، وإنما الإعجاز في صرف الله دواعي العرب عن معارضته. وقال النظام: لا إعجاز في نفس القرآن لأنه كان معتاداً عندهم التكلم بمثله غير أنه لما بعث الرسول صرفوا عن ذلك. وقال بعضهم: أن إعجاز القرآن في عدم اختلافه وتناقضه مع امتداده وطوله. وقال بعضهم: أن إعجاز القرآن في موافقته لقضايا العقول. وقال بعضهم أن إعجاز القرآن في الأنباء عن الغيوب. والحق أن القرآن معجز من حيث الكل. وبيان ذلك أن النظم عبارة عن ترتيب الأقوال بعضها علي بعض، ثم الحسن فيه يتقدر بتعدد تناسب الكلمات في أوزانها وتقاربها في الدلالة علي المعني. وذلك أوصاف كثيرة وأنواع مختلفة. وقد اختص القرآن بنظم خرج به عن سائر النظوم المحصورة من شعر وزجر ومخمس ومشطر ومزدوج وسجع وخطب. وخلوه  [60و]   من وجود نظم من هذه النظوم فيه دل علي أن نظمه يخالفهما.

 والفصاحة عبارة عن دلالة اللفظ علي المعني بشرط فصاح المعني. والجزالة دلالة اللفظ علي المعني بشرط قلة الحروف واختصارها وتناسب مخارجها، وربما يجتمع المعنيان فيكون اللفظ فصيحاً جزلا، فتجتمع معان كثيرة في الألفاظ يسيرة. كما قال تعالي: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"[162]  وكما قال: "فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا"[163]  فانظر كيف أنبأ بآية واحدة عن قصص الأولين والآخرين علي وجوه مختلفة، وأجوال مختلفة.

 والبلاغة عبارة عن اجتماع هذه المعاني الثلاثة الفصاحة والجزالة، والنظم الصحيح الحسن بشرط أن يكون المعني مبيناً.

 وقال الإمام: القرآن معجز باجتماع هذه المعاني الثلاثة، وقد تحداهم بالإتيان بمثله فعجزوا، وقالوا مفتراً. ثم قال: "قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات"[164]  فعجزوا وانتقلوا إلي محاربته و مشاقته لما انجسمت علائق أطماعهم في معارضته، و ليس في مقتضي العادة العدول عن الأسهل إلي الأصعب، إلا عن فرط العجز وضعف القدرة. وذلك دليل علي اختصاصه بصفة يعتذر الإتيان بمثلها علي مثلهم، كما يتعذر عليهم ما لا يدخل تحت قدرتهم من إحياء جسم أو حدوثه، فجرى ذلك في الإعجاز مجري قلب العصا حياً وإحياء الموتى.

 فإن قيل: ما يمنع أن يكون العرب لم تأت بمثله بديهاً ولو فكرت لأتت بمثله؟ قيل: يمنع من ذلك أنه ما تحداهم به علي الفور فيلزم السؤال، وإنما تحداهم علي التراخي. وقد أقام القرآن ينزل عليهم[165]  نيف وعشرون سنة، وهو يطالبهم فلم يأتوا بشيء.

 فإن قيل: إنما تركوا معارضته تهاونا. قلنا: هذا باطل، فإنه إنما يقع التهاون في الأمر لا يؤدي إلي الهلاك. وقد اصطلمهم بالسيف وسباذرا ربهم، واستعانوا بغيرهم في تطفئة ناره. فكيف تركوا المعارضة التي هي الأخف تهاوناً ويرضوا بالأشد؟ هذا محال عادة. كيف وقد قالوا "إن هذا إلا سحر يؤثر"[166]، وما يقال إنه سحر فهو غاية.

 فإن قيل: ما يمنع أن يكون القرآن قد عورض وكتمه من وافق النبي. قلنا: هذا محال، فإن الذين خالفوا أكثر من الذين وافقوا، فلو كتمه الأولياء لأظهره الأعداء. ثم القرآن حاضر، وقد مات المعارض والمؤالف والدست قائم، فهات من يعارض.

فإن قيل: إذا كان النظم معجوزاً عنه، فكيف يجوز أن يتحداهم بما يعجزون عنه؟  [60ظ]  قلنا: إنما جاز ذلك علي طريق الاحتجاج عليهم والتقريع لهم بالعجز عن الإتيان بسورة من مثله لا علي طريق الأمر الحقيقي. والدليل علي ذلك قوله تعالي: "وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين"[167]  

فإن قيل: كيف جاز أن يتحداهم بمثل القرآن ولا مثل له؟ والجواب: من وجهين: أحدهما أن التحدي إنما وقع بالعبارة ليأتوا بمثلها مبتدين لا محتدين، وهم مع ذلك غير قادرين. والثاني أن التحدي وقع بعد زعم من زعم أنه أساطير الأولين، وأنه اختلاق وأنه سحر يؤثر. فقيل لهم: فأتوا به علي ما زعمتم علي وجه التعجيز. وأما وجه كونه معجزاً من حيث صرف الدواعي فهو اقطع للشعب، وأوضح وأبين في العذر. فإن من منع عن مثل مقدوره مع سلامة حاسته أحس بالعجز من نفسه ضرورة، وكان أبلغ في حقه من خرق العوائد بالأفعال العجيبة, فإنه قد يتطرق الوهم إليها بشيء وهاهنا لا وصف بالمنع من المعتاد إلا رب الأرباب وزيادة أنه في خلق لا يحصون كثرة، وفي زمن ممتد وهو خمسمائة عام وأكثر. وقد مات المتوهم منه المنع علي جهة السحر، فإن السحر لا يبقي بعد موت الساحر. وهذا مما خص به القرآن وهو من أعظم الآيات. وأما كونه معجزاً من حيث تضمنه للأخبار عن الغيوب مثل قوله تعالي: "الم غلبت الروم"[168]  وقوله: "سيهزم الجمع ويولون الدبر"[169] وقوله: "لتدخلن المسجد الحرام"[170] الآية وغير ذلك في القرآن كثير، وقصص الأنبياء وأخبارهم من رجل ما مارس علماً قط ولا كتب. وقد بينا وجه الإعجاز في باب المعجزات. وأما كونه معجزاً من حيث عدم اختلال له وتناقضه وموافقته العقول، فهو أيضاً من أعظم الآيات, إما لكونه تعالي قد حفظه عن ذلك بصرف الدواعي عنه أن توقع فيه شيئاً, وأما لكون الله قد أجري العادة أن كلام المخلوقين أو ما يفعلونه لا بد فيه من خلل فيعلم أن الله قد فعله, وأما لكونه قد دل علي الصفات القديمة ولا يتصور تناقض الدليل، لأنه يؤدي إلي تناقض المدلول. وقد قال جماعة من العقلاء: يعرف صدق النبي صلي الله عليه وسلم من القرآن لا من حيث النظم والعبارة، كما بيرف صدق واضع الحساب من الحساب.

                                               تنبيه

أعلم رحمنا الله وإياك أن القرآن الذي هو عبارة عن كلام الله تعالي القائم بذاته لا يجوز عليه اختلاف  [61و]  اللغات، ولا تباين العبارات لقدمه. وإنما يجوز ذلك علي قراءته لحدوثها، فإذا قرئ بالعربية قيل له قرآن، وإذا قرئ بالعبرانية قيل له تورية، وإذا قرئ بالسريانية قيل له زبور وإنجيل. فالتورية والإنجيل والزبور والفرقان اسم[171]  للقراءة في الحقيقة لا للمقروء، و إلا علي التوسع والمجاز. فالمقروء بالعبرانية هو المقروء بالسريانية، والمقروء بالسريانية هو المقروء بالعربية. فصفات القراءة مختلفة ولغاتها متفاوتة، وعباراتها متغايرة. وصفة المقروء متفقة واحدة وهذا تطير ذكر الله سبحانه بالأذكار المختلفة بأصناف اللغات من فارسية وسريانية وعبرانية وعربية، والمذكور واحد ليس بواحد منها.

 وكذلك كلام الله واحد لا يجوز عليه التغاير ولا الاختلاف، وهو مع ذلك محيط بسائر معاني الكلام التي هي الخبر والاستخبار والأمر والنهي، والوعد والوعيد والنداء وغير ذلك. وليس هذا الاختلاف عائداً عليه وإنما هو عائد علي سامعه. فإذا خلق الله الفهم بأنه خبر كان خبراً، وإذا خلق له الفهم بأنه استخبار كان استخباراً، وكذلك الأمر والنهي. فلم يحدث لله معني من هذه المعاني، وإنما حدثت الرسوم التي يوقف بها علي كلامه بأن تتلى أو تكتب. وليس حدث الرسوم مما يقتضى حدث المرسوم, كما أن حدث الدلالة لا يقتضي حدث المدلول. وإن القرآن يوصف بكونه منزلا ومعجزاً، وقد بينا حقيقة ذلك، ويوصف بكونه مقروءاً, متلواً, مكتوباً, محفوظاً, مسموعا، ولم يكن يوصف بذلك إن لا إلا السمع خاصة فإنه مسموع له بسمعه تعالي، وما عدا ذلك من الأوصاف فهي أوصاف إضافية لا توجب تغيراً في الذات كما أنه سبحانه لم يكن معبوداً ولا مذكوراً للخلق أزلا. ولما عبد وذكر لم يوجب ذلك تغير حاله سبحانه، وكذلك الكلام. وهذه الأوصاف حدثت بحدوث التالين والقارئين، فعاد ما حدث عليهم لا علي القديم كالخلق والرزق. ومعني كونه مقروءاً بقراءتنا أن قراءتنا هي حروفنا وأصواتنا المكتسبة لنا وهي دالة علي المقروء. والقراءة حادثة والمقروء قديم وليس المقروء هو نفس الحروف، فإنه يجب منه أحد أمرين: إما أن يكون المقروء حادثاً، وإما أن تكون الحروف قديمة، ولا قائل به إلا من لا عقل له من الحنابلة والحشوية، فإنه لا يقوم حادث بقديم. ومعني كونه مكتوباً أن كتابتنا حركات أبداننا التي تقع عندها رسوم الخط التي لا يفهم بها معناه،  [61ظ]  وهي مكتسبة لنا أيضاً. ولا يقوم الكلام بحركات اليد، فإنه لا تقوم صفة بصفة، ولا بالرسوم الموجودة في اللوح، فإنه يلزم منه محالين، قيام الحديث بالحادث وتعدد القديم بتعدد الحروف. ومعني كونه محفوظاً في صدورنا إن حفظنا له تعاهدنا درس تلاوته علي الترتيب الصحيح وهو مكتسب لنا أيضاً، ولا يحل بقلوبنا ولا بألسنتنا فيلزم منه قيام القديم بالحوادث وتعدد القديم بتعدد القلوب والألسن، أو كون الشيء الواحد في محل عدة. ومعني كونه مسموعاً بأسماعنا إن سمعنا الذي هو الإدراك المخلوق في آذاننا متعلق به، وكذلك هو مفهوم بفهمنا، وفهمنا الإدراك المخلوق في قلوبنا.

 وقد اختلف المتكلمون في المسموع عند قراءة القاري. فذهب قوم إلي أن المسموع عين كلام الله تعالي بواسطة قراءة القاري، واستدلوا بظاهر قوله تعالي: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"[172]  وزعموا أن المسموع شيئان: أحدها مقروء قديم. والثاني قراءة محدثة، وهذا خطأ فإن السمع لا يتعلق بشيئين[173]  إلا ولا بد من مغايرة بينهما، ولا يدرك الإنسان تغايراً عند سماع القراءة لكلام الله تعالي. وأيضاً أن هذه صفة اختص بها بعض الأنبياء، فلو كان السماع واحداً لذهب التخصيص والتشريف بقوله: "يا موسي إني اصطفيتك علي الناس برسالاتي وبكلامي"[174]  وأيضاً إن كل صفة من المحدثين لها تعلق، فلا تتعلق إلا بشيء واحد.

وذهب آخرون إلي أن المسموع قراءة القاري وهو الحق. والمراد بتسمية كلام الله مسموعاً كونه مفهوماً, معلوماً من أصوات مسموعة مدركة، ولو كتب رجل إلي رجل كتاباً ففتحه وقرأه لم يحسن منه أن يقول: سمعت عين كلام فلان، فإنه محال. وإنما يحسن منه أن يقول: سمعت كلامه إذا سمعه مشافهة. هذا إذا قلنا: أن الكلام اسم مشترك بين كلام النفس وبين الحروف والأصوات، و إلا إذا قلنا: أن الكلام الحقيقي هو القائم بالنفس لم يكن سامعاً له إذا مع الحروف والأصوات. وإنما يكون سامعاً له إذا خلق الله له سمعاً لكلامه القائم بنفسه.

 واعلم أن كلام الله لا يكون مسموعاً عند الأستاذ بجنس السمع الذي تسمع به الحروف والأصوات، فإن السمع يختلف باختلاف المسموع كالرؤية، ولا يصح أن يكون عين كلام الله مسموعاً بواسطة إلا من حيث الفهم. والسماع اسم  [62و]  مشترك يطلق علي الإدراك. ومنه سمعت صوت فلان بمعني أدركته. ويطلق علي الفهم والإحاطة كما قال تعالي إخباراً عن الكفار: "وكانوا لا يستطيعون سمعاً"[175]  ولم يرد اختلال حواسهم. ويطلق على الانقياد والطاعة، إذ يقال في اللغة العربية ما فلان إلا سامع لفلان، ويراد به أنه منقاد له مطيع، فالقراءة عرض حالة في الألسن والكتابة التي هي الرقوم والأجسام حالة في المصحف والتي حركات الكاتب عرض حالة يبدأ الكاتب. والحفظ والفهم حالان في الصدور وهي أعراض، والسماع حال في الأسماع. والمقروء والمكتوب والمحفوظ والمفهوم والمسموع غير حال في شيء من ذلك، لأن القديم ليس بعرض فيحل في الأجسام، ولا جسم فيحاورها. ولو حلت صفة القديم في المحدث لحل القديم نفسه في المحدث، لأن الصفة لا تفارق الموصوف، ثم يلزم منه تعدد بتعدد المحدثين، أو كون الواحد في محلين، بل في محال عدة. ثم إذا قطع القاري القراءة انقطع عنه وعدم، وإذا عاد عاد. ولو كانت القراءة هي المقروء لكان من قال النار احترق فاه. ومن قال ألف دينار استغني عنه، ومن ذكر السماء حلت بلسانه، وكذلك البحر وجميع الأشياء إذا ذكرها.

 والدليل علي أن القراءة غير المقروء والتلاوة غير المتلو، والكتابة غير المكتوب علي الجملة استحالة اتفاقهما في جواز العدم والوجود والنقص والزيادة، والقلة والكثرة، واللحن والغلط، والزمان والمكان وهذه وجوه الغيرية. ثم التلاوة في نفسها متغايرة، وكذلك الكتابة والقراءة.

ثم قال رضي الله عنه: [ودينه الإسلام] يريد بطريق العرف، فإن الدين في اللغة مأخوذ من التدين وهو قريب من الإسلام في المعني، ولكن صار في عرف استعمال الأمة منصرفاً إلي دين الإسلام. فمن جمع بين خصال الإسلام فهو متدين. وقال عن من قائل: "إن الدين عند الله الإسلام"[176] وأراد به الدين الحق كقوله: "ورضيت لكم الإسلام ديناً"[177] والإيمان خصلة من خصائل الإسلام والدين. و ليس هو جميع الإسلام والدين، لأن الإسلام في الأصل يفيد التسليم، يقال سلم فلان إلي فلان المال، وقول إبراهيم عليه السلام "وأنا من المسلمين"[178]  يريد تسليم نفسه إلي الله والتزام الطاعة والانقياد له. وقد أثبت الله للمنافقين المنقادين للأمر فرقاً من السيف اسم الإسلام ونفي عنهم الإيمان فقال: "قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا"[179]  فالإسلام هو الاستسلام لله تعالي [62ظ]  بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر. والإيمان أعظم خصائل الإسلام، لأنه لا يصح التقرب بفعل طاعة دونه.

                      [فصل في الحشر وعذاب القبر والثواب والعقاب]

 ثم قال رحمه الله: [أخبر صلي الله عليه وسلم بالحشر والنشر وعذاب القبر وثواب أهل الطاعة، وعقاب أهل المعصية] فاعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم إذا أخبر عن شيء وقد ثبت صدقه بالمعجزة, فلا يخلو ما أخبر به إما أن نسمعه منه، فيكون علمنا به ضرورة، أو لا نسمعه منه ولكن أخبرنا به مخبر. فإن أخبرنا به مخبر فلا يخلو المخبرون إما أن يكونوا أهل تواتر وقد حصلت فيهم الشروط المذكورة في العلم بالتواتر فيحصل لنا العلم أيضاً بقوله ضرورة، لكن بواسطة المخبرين, وتجب العمل بمقتضاه، وإما أن يكونوا ليسوا بعدد التواتر فإن كانوا أنقياء فضلاء أصحاب عدالة، وجب علينا العمل بقولهم, ولم يحصل لنا العلم بصدقهم، ووجوب العمل بالإجماع لا بنفس قولهم عند قولهم. ثم لا يخلو نفس ما أخبروا به إما أن يكون مما يحيله العقل، أو يجيزه ، أو يتوقف فيه. فإن أحكام العقل إنما هي الوجوب والجواز والاستحالة. ولا يدرك العقل الأخبار عن الغيوب، ولا تفصيل الطاعات، فإنه لو أدرك ذلك لما احتاج إلي شرع. فإن كان مما يجيزه العقل لزم التصديق به إن كان ضرورياً متواتراً، أو تسليمه وترك الاعتراض عليه, والعمل بمقتضاه إن كان صورة أمرية، ويكون تصديقه في التواتر عن علم، وفي الآحاد عن ظن. وإن كان مما يتوقف فيه فلم يقض فيه بقطع استحالة ولا بقطع جواز لزمه التصديق بالظاهر علي وجه لا يؤدي إلي الاستحالة, ووكل علم الباطن إلي الله تعالي وإلي رسوله وإلي من هو أعلم به منه. وإن كان مما يحيله العقل وكان بين الاستحالة لا يحتمل لفظه التأويل وعرف وجه استحالته وقطع بها رده، وأحال الخطأ علي الناقل، إذ لا يرد الرسول بما تحيله العقول. وهذا لا يتصور في قسم التواتر، وإن كان يحتمل التأويل وهو قاطع في سنده، وليس هو ظاهر الاستحالة من كل وجه، أوله وجه صحيح، فإن النبي صلي الله عليه وسلم لا يقرر المستحيل.

وقوله أخبر صلي الله عليه وسلم بحشر الأجساد ونشرها أن أراد به إحياءها وإعادتها. فقد تكلمنا عليه في فصل الإعادة. وأن أراد به جميع الخلائق في صعيد واحد ونشرها من  [63و]  قبورها، فذلك أيضاً ممكن وقد ورد به الخبر في مواضع عدة، منها قوله تعالي رداً علي الكفار في قولهم: "أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو أباؤنا الأولون"[180] "قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلي ميقات يوم معلوم"[181] وهذا نص صريح في الجمع ولو لم يحشرهم لكان الخبر علي خلاف المخبر، ثم من أنشأ الموجودات من غير شيء ولم تنعدم قدرته كان قادراً علي ردهم كما كانوا وجمعهم. وقد أخبر بذلك فلا بد مما أخبر ولم ينكر حشر الأجساد إلا من أنكر حدوث العالم كما ذكرنا.

وأما عذاب القبر فهو حق. قال الله تعالي: "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"[182]  فهذا دليل علي عذاب القبور وتواترت الأخبار باستعاذة رسول الله صلي الله عليه وسلم بربه من عذاب القبر. وأنكرت المعتزلة عذاب القبر واختلفوا في طريقه فقال بعضهم: إنما أنكرناه لا من جهة القدرة، بل لأن الأخبار الدالة علي ذلك آحاد، وقد دلت أيضاً أخبار علي نفيه. وقال بعضهم: إنما أنكرناه، لأن الحياة إنما تفتقر إلي بنية مخصوصة، وكذلك صفات الحي من العلم والإرادة والفهم. وقال بضهم: إنما أنكرناه، لأنه مناكرة للحس، لأن الحس والعقل يشهد بنفي العذاب وأنتم تدعون أنه يعذب.

ووجه بيان إمكانه من غير مناكرة للحس أن يخلق الله الحياة في جزء منه أعني من الإنسان ويخلق فيه العقل والفهم والكلام النفسي، ويخلق له إدراكاً لرؤية الملكين، وسمعاً لسماع كلامهم فيرد الجواب من غير حرف وصوت، ويخلق للملكين فهماً وعلماً بجوابه، لأنه سؤال يتضمن العقد والجواب بالعقد، فلا يشترط فيه إلا رد الأجزاء الفاهمة فقط.

ومن غرق في البحر أو أكلته الطيور والوحش كان حكمه كذلك، ولا استحالة فيه. وشاهد ذلك روية النبي صلي الله عليه وسلم للملائكة والصحابة حضور، وروية النائم لأشياء وأهوال والجسم لا يتحرك والسؤال يقع في حق العقلاء يثبت الله الذين أمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وأما إخباره بالثواب والعقاب فقد قال تعالي: "فأما من طغي وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى"[183]  والجحيم هي النار وهي مخلوقة ولا استحالة في خلقها قبل يوم العقاب، لأن النفوس إلي الموجود أميل مع أن أفعال الله تعالي لا يطلب لها علة. وقد أخبر الشرع بخلقها فقال تعالي: "النار يعرضون عليها"[184]  ولا يكون  [63ظ]  المعروض عليه معدوماً.

وأنكر بعض المعتزلة خلق الجنة والنار قبل يوم الثواب والعقاب. وقالوا لا فائدة في خلقهما قبل يوم الثواب والعقاب وقد قال تعالي: "وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوي فإن الجنة هي المأوي"[185]  وقال: "وجنة عرضها السموات والأرض أعدت"[186]  والإعداد مصرح بثبوت الشيء وتحققه. ثم ما المانع أن يكون الله قد علم أن في خلقهما لطفاً لأهل الأرض ولطفاً لأهل السماء؟

ثم نقول: الفائدة فيهما أن من مات اطلع علي منزله فيتلذذ أو يتحسر، ويلزم عليه أن كل من مات خلق الله له جنة أو ناراً، ولا يوم يخلو العالم عن موت.

 ثم قال رحمه الله: [وأن من مات علي الإيمان كانت عاقبته الجنة, إما بالتوبة وإما بالشفاعة] فاعلم أنا لو رددنا إلي المعقول ولم يبلغنا وعد الله ولا وعيده لقطعنا بأن الله أن يفعل ما يشاء، وإذ قد بلغنا وعده ووعيده. فوعده حق وقوله صدق، ويقع مخبره وجوباً تفضلا بحكم الوعد لا بحكم العقل. ونحن نذكر جملة مما حكم الله سبحانه في ذلك والذي حكم به ضمانه الثواب علي الإيمان إن وافى به المرء, وعقابه إن لم يثبت عليه وكفر. وكذلك حكم بالعقاب علي الكفر إن وافى به الكافر ولم يثبت منه، وأثابته إن تاب منه. ووافى بالإيمان وحكم سبحانه بإحباط كل ذنب، وغفرانه بالتوبة تفضلا منه. وكان له العقاب مع التوبة، وحكم سبحانه أيضاً بأنه يثبت علي الطاعة الواقعة من المؤمنين وإن أصابوا معها الفسق، ويعاقب علي المعصية وإن قارفوا الكثير من الطاعة. ومرادنا بذلك أنه حكم بالاستحقاق التواب علي الطاعة، والعقاب علي المعصية وإن اجتمعا. وليس المراد به أنه لا بد أن يفعل، بل تجوز الغفران والعفو. ومما يجب الوقوف عليه أن تعلم أن من اصل أهل الحق أنه ليس بين الطاعة والمعصية محابطة بأنفسهما، ولا بالثواب والعقاب المضمون عليهما، فإنه ليس في معاصي الله صغير يجب وقوعه مكفراً، أو غير مستحق عليه العقاب، لأجل عظم ما يقارنه من الطاعات. وقد حكم سبحانه بأنه لا يثبت أحداً علي طاعته ثم يعاقبه بناره علي ذنبه، بل إن أراد الانتقام ممن أصاب الذنب، فإنه يبدأ بعقابه ثم يوفر عليه ما ضمنه له من الثواب، ولا بد من حصوله له بحكم الوعد لا بالعقل. وقد حكم بتخليد أهل الثواب في جنته وتخليد الكافر في النار. ولم يحكم بتخليد أحد ممن عصاه مع الإيمان في النار بفسقه، وأن الخلود في الجنة تفضل، وهو واجب الوقوع بحكم الوعد لا بالعقل. وقد حكم بدوام استحقاق العقاب علي الكفر عدلا منه وهو  [64و]  واجب الوقوع بخبر الصادق بذلك، وأنه لم يجعله دائماً علي شيء من المعاصي دون الكفر.

 وزعمت القدرية أن الثواب والعقاب مستحقان علي الطاعات والمعاصي من جهة العقل، وأن المستحق من ذلك دائم غير منقطع. وزعموا إنما يجب علي الله إثابة المطيعين إذا لم يقارن طاعتهم ما يحبط ثوابها. ولا يجوز في قضايا العقول صرف الثواب عن المطيعين، وهكذا أقوالهم في العقاب الذي تستحقه الطغاة والعصاة إن لم تكن توبة.

واعلم أن الله قد وعد علي جميع طاعاته بالثواب، وأعظم ما يطاع به الإيمان، فإنه لا يصح التكليف بفعل طاعة دونه، ولا مخلص له دون فعله، ثم الوعد عليه بالثواب شرط موافات المؤمن به وأن يختم به علمه، ولو وقع في معلوم الله أنه لا يوافي به لم يكن موعوداً عليه بثواب أصلا، وكذلك جميع طاعاته. ولا نقول أنه استحق الثواب ثم أحبط.

 وأما التوبة فإنه موعود بها زوال العقاب بشرط مشيئة الله ولا يقطع به لأن قبولها غير واجب عليه وهي في نفسها طاعة لكونها واجبة، وصاحبها مضمون له الثواب أذيل بها عقاب ما هي توبة منه أو لم يزل. وأما المتوعد عليه بالعقاب فالكفر بالله سبحانه، وكذلك ما عداه من المعاصي الكبيرة والصغيرة بالإضافة إلي ما هو أكبر منه، ولم يتوعد علي الكفر ولا علي ما يقارنه من العصيان مما هو دونه بالعقاب، إلا بشرط الموافاة به علي نحو ما قلناه في الإيمان. ولم يتوعد عليه ولا علي شيء مما قاربه من الذنوب، إذا كان في المعلوم أن الفاعل له يوافي بالإيمان ويختم به عمله. وأما المعاصي المؤمن فمتوعد عليها بالعقاب ولا يزيله إلا أمران: أحدهما عفو الله وغفرانه بفضله، أو بشفاعة نبي أو ملك، أو مؤمن كما ورد بذلك الخبر، إذ قال عليه السلام: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"[187]  وأنكرت المعتزلة الشفاعة للمذنبين. وقال بعضهم هي للمطيعين زيادة في الدرجات. والثاني التوبة منه.

فإن قيل: مقتضي كلامكم ومضمونه يشعر بأن من يوافي بالإيمان في معلوم الله ليس من أهل الوعيد أصلا وهذا خلاف الإجماع. قلنا: الوعد والوعيد حث وترغيب وزجر وتحذير من العقاب لجميع المكلفين من فعل منهم ما علق به الوعد والعيد, ومن لم يفعله ومن المعلوم من حاله أنه يوافي بالإيمان ويوافي بالكفر, ومن ليس في المعلوم ذلك من حاله، ولذلك صار الكل مرغبين ومزجورين، ولا يجوز أن يقال: أنه وعيد لمن في المعلوم أنه لا يعاقب، ووعد  [64ظ]   لمن في المعلوم أنه لا يثاب، علي معني أنهما خبران عن وقوع الثواب والعقاب، وإنما يقال ذلك فيهما علي أنهما زجر وترغيب فيمن لا يعاقب ولا يثاب.

                                    فصل [في الميزان والصراط]

وقد ورد الخبر بالميزان ولا بد من الإيمان به وحقيقته ما به تعرف الزيادة والنقصان في الأعمال والموزون الصحف، لا ما اشتملت عليه الصحف، فإنه عرض، والعرض لا يوصف بالوزن. ويخلق الله فيها وزناً إما خفة أو ثقلا كما أراد. وكذلك الصراط وهي قناطر علي جهنم تعبر أحد من السيف، وأرق من الشعر ولا استحالة فيه، فإن الله موصوف بالقدرة علي خلق القدرة للعبد علي المشي عليه، كما يوصف بالقدرة علي خلق القدرة علي المشي في الهواء وعلي الماء، وانظر إلي الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله.

                                    [فصل في إجماع الأمة]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأن ما أجمعت أمته علي صحته[188]  فهو حق، وما أجمعت علي بطلانه فهو فاسد] اعلم أن معني الإجماع في اللغة الإزماع، والمراد به اتفاق أمة محمد خاصة دون غيره من الأمم. العقلاء البالغين, العلماء المجتهدين, أهل الحل والعقد في مسلة اشتهرت بينهم وانتشرت فأفتي كل واحد فيها بمثل ما أفتي الآخر، فهذا الإجماع, يحرم مخالفته. ولا يعد خلاف العامي، وقيل يعد. واحتج من قال لا بد من إجماع العامي بأنه يحتمل أن يكون سمع من عالم شيئاً في المسلة خلاف ما قيل فيها. وهذا ليس بشيء، فإنه قد لا يعي قوله, فلا يتحقق نقله. ولا يعد خلاف من لم يكمل تلك الصنعة، وإن كان بالغاً في غيرها كالمتكلم خالف الفقيه في مسلة فقهية، وليس المتكلم بفقيه. وكذلك النحوي يخالف الفقيه. ولا إجماع في العقليات، فإن المطلوب فيها القطع، وإنما يقع الإجماع في المظنون.

 قال الأستاذ رحمه الله: الإجماع علي ضربين: أحدهما ما تجتمع عليه العامة و الخاصة كاتفاقهم علي عدد الصلوات ووجوبها، ووجوب الزكاة والحج والصيام والشهادة. والثاني ما تجتمع عليه الخاصة وهم أهل الحل والعقد.

 ثم قال: واختلف أصحابنا فيمن وقع بهم الاعتبار. فقال قائلون: أن الاعتبار في ثبوته بأهل المعرفة. وقال آخرون: أن الاعتبار بالكافة، ويدخل فيه الخاصة والعامة. وفائدة خلافهم في الضرب الثاني التكفير أو التفسيق في المخالفة في النوعين. فأما إجماع الكافة فمن جحده فهو كافر. وأما الإجماع الثاني وهو إجماع الخاصة وهم أهل الحل والعقد، فمن جحده فهو فاسق. وقد قيل: فاسق في النوعين، وقيل: كافر في النوعين.

ثم قال: رحمه الله والإجماع تختلف أوصافه، والكل معتبر داخل تحت حده. [65و]  فمنه ما يكون قولا وفعلا، أو رضاً من جميعهم، ومنه ما يكون قولا وفعلا من بعضهم وإمساكاً عن الاعتراض من باقيهم علي من وجد منهم القول أو الفعل، وهذا القسم فيه الخلاف. والأول لا خلاف فيه بين من أقر بالإجماع, فهذه صورة الإجماع. وأما دليله فنذكره في الأدلة، وأما تفاصيله فهي مذكورة في أصول الفقه فلتطلب هناك.

 ثم قال رحمه الله: [وأن العبادات الخمس هي أصول الإسلام, وهي الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج] وهو كما قال لقوله عليه السلام: "بني الإسلام علي خمس"[189]  وقد تواتر كونها أصول الإسلام، وأراد بذلك في الاعتقاد لا في العمل. ومعناه أن من جحدها، أو جحد وجوب واحدة منها كان كافراً فكانت أصلا لذلك، ومن تركها وهو يعلم أنها حق واجبة، فللعلماء في ذلك تفصيل. فمنهم من يري التكفير بها كلها، ومنهم من يري التكفير بالصلاة دون غيرها، ومنهم من لا يري التكفير بالصلاة ولا بترك واحدة منها مع الإقرار بها، ومنهم من يرا القتل، ومنهم من لا يراه. وذلك مذكور في الفروع ولم يرد رضي الله عنه هاهنا إلا الاعتقاد خاصة.

                               [فصل في المراجعة إلى العلماء]

والذي يليه من الفصول [الاعتقاد بأن ما أشكل عليه من أمر دينه فيما بعد[190] فواجب[191] عليه الرجوع[192] إلي أعلم من عنده في دينه وأورعهم في فعله ممن بلغ مبلغ المجتهدين والمسلة عما نزل به والعمل بما يفتيه فيما رفع إليه] اعلم أن هذه الفصل يختص بالعوام وذلك أن الناس قسمان: علاماء وعوام، فالعالم المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره. وقيل: يجوز أن يقلد الأعلم وهو ضعيف. والعامي فرضه أن يقلد العلماء في فروع الشريعة علي قول من أوجب الدليل علي العامي في الاعتقاد، وفي أصولها أيضا علي قول من لم يوجب عليه سوى الاعتقاد. والتقليد إلزام قول الغير مع الجهل بدليله. فإذا حدثت للعامي مسلة من طلاق أو نكاح أو صلاة أو حج أو غير ذلك، أو من العقائد علي قول من لم يوجب الدليل وجب عليه أن يسأل أعلم أهل زمانه إذا كان عدلا. فإن كان في زمانه جملة من العلماء وقد استوى في العلم والعدالة سأل الأورع منهم. فإن استوي وتخير فما أفتاه به من اختاره وجب عليه قبوله والعمل بمقتضاه. واختلفوا بأي شيء يعلم أنه أعلم، فقال الأستاذ أبو إسحاق رضي الله عنه بالخبر المتواتر. وقال بعض الناس: يكفي أن يعدله عنده رجلان عادلان. وقال بعض الناس: يكفي بقوله إذا قال له أنا عالم. والصحيح أنه يكفيه الاشتهار ولا يبلغ إلي حد التواتر، أعني أن يشتهر عنه أنه عالم، وهل يجب عليه إذا طرت له مثل تلك المسلة التي قد أفتاه فيها أن يراجعه؟ اختلف فيه فقيل: يجب، وقيل: لا يجب. والصحيح وجوب التكرار، لأنه يمكن أن يتغير اجتهاده ولا يلزمه أن يقول: للناس تغير اجتهادي.

ثم قال رحمه الله: [ثم الإقرار بجميعه علي الإمكان والأمن] ومعني ذلك أن جميع ما [65ظ] ذكره من الاعتقاد كما وجب اعتقاده لصحة الإيمان، وجب أيضاً الإقرار به باللسان لصحة المعاملة. وقوله مع الإمكان يريد إذا كان قادراً علي النطق بالعبارة لا آفة به. وقوله مع الأمن يريد إذا لم يخف علي نفسه إن نطق بها الهلاك من أعدائه في الدين، بحيث أن يكون في بلاد قوم يخالفونه في هذه الاعتقادات, فيخاف علي نفسه إن نطق بها أن يقتلوه، أو يأخذوا ماله، أو يهلكوا جريمة فيسقط عنه وجوب النطق بها. قال الله تعالي: "إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان"[193]  

ثم قال رحمه الله: [فهذا ما لا بد منه عند الجميع] يعني جميع أهل الحق من أوجب الدليل ومن لم يوجبه.

ثم قال رحمه الله: [فإذا[194] اعتقد ذلك قال أصحاب[195] الظاهر: أنه استحق اسم الإيمان, وصار من أهل الشفاعة, كانت عاقبته الجنة. وقال أهل التحقيق: لا يكون كذلك حتى يصير اعتقاده بما وصفناه معرفة على ما رتبناه فيكون من جملة العارفين ويخرج من جملة المقلدين, وإن جاز فيه التقليد فإنما لا[196] يجوز ذلك عند أهل التحقيق وقد اتفقوا على المنع منه, والذي يحتاج إليه في ذلك أن يعرف كل ذلك مما ذكرناه بدليل, ولكل منه بينة[197] من الكتاب والسنة على تحقيق العقول والأدلة] وقد قدمنا شرح ذلك وصورة الخلاف فيه. وقدمنا أن من الناس من أوجب الدليل علي الإطالق علي كل واحد. ومنهم من منع من الوجوب علي الإطلاق مع الاعتراف بأن من عرف الله بالدليل أفضل ممن حصل له الاعتقاد بالتقليد وهؤلاء يمنعون أن تكون معرفة النبي تقليداً. ومنهم من أوجب الدليل مع وجوب الشك والشبهة ومنعه مع تصميم الاعتقاد. وسبب الاختلاف، هل المطلوب نفس المعرفة فلا تصح إلا بالدليل أو المطلوب تصميم الاعتقاد ومطابقته فيصح مع نفي الشبهة والشك؟ وقد تقدم هذا في أول الكتاب في قوله "ولما وقع الخلاف".

 وأما قوله: :ولكل منه بينة من الكتاب والسنة" يريد أن ما من اعتقاد من هذه الاعتقادات المذكورة في هذه العقيدة، إلا وله دليل يشهد له من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم علي تحقيق مايقتضيه دليل العقل لئلا يزعم زاعم أن ابتدى عنا ما لا بعقولنا يشهد له دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله نعوذ بالله من ذلك. فمن ذلك اعتقاد حدوث العالم. دليله: "ألله الذي خلقكم ثم رزقكم"[198] "الله خالق كل شيء"[199]. ودليل نفي التشبيه: "ليس كمثله شيء"[200]. وتتبع ذلك يطول ومن تتبعه وجده "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"[201] "ألا يعلم من خلق"[202] "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"[203] "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"[204] "إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلي بعضهم علي بعض"[205]  "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه"[206].

 وقوله "علي تحقيق العقول والأدلة" أراد رحمه الله علي النوع الذي توجبه العقول إن كان مما يجب، أو تجيزه إن كان جائزاً، أو تحيله إن كان مستحيلا. وعلي ترتيب الأدلة العقلية من غير خلاف. مثال ذلك قوله تعالي: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"[207].  تمامه [66و] ومعلوم أنهما لم يفسدا فيلزم أنه ليس فيهما آلهة غير الله. وأراد بالفساد اختلافهما في الإرادة وكأنه أمر لا بد منه بين موجودين مريدين، ومن الاختلاف في الإرادة يقع الفساد في العالم.

                                  [فصل في أسماء الله تعالى]

وأما قوله [وجميعه مستنبط من أسامي الرب جل وعز وهو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة[208] يريد من علمها دخل الجنة على العاقبة إما بالشفاعة وإما بالتوبة] أراد رحمه ا لله أن جميع ما ذكره من الاعتقادات مستخرج من أسامي الرب جل وعلا. فكل اعتقاد يدل عليه اسم، وذلك أن صفات الله تعالي التي يوصف بها إما أن ترجع إلي ذاته من غير زائد فتسمي صفة نفس كما قدمنا, وإما أن ترجع إلي أمر زائد علي ذاته لا يفارقه فتسمي صفة معنى, وأما أن ترجع إلي ما يصدر عنه من الأفعال فتسمي صفة فعل ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه.

وكذلك أسماء الله تعالي منها ما يرجع إلي ذاته، ومنها ما يرجع إلي صفاته، ومنها ما يرجع إلي أفعاله. والمراد بالاسم عند أهل الحق المفهوم من التسمية، والمراد بالتسمية اللفظ الدال علي الاسم، والاسم هو المسمي علي هذا التقدير. وإنما الجاهم إلي ذلك خوف أن يقولوا الاسم هو اللفظ الدال علي المسمي، كما قالت المعتزلة فيلزمهم أن تكون أسماء الله محدثة ولا يكون لله اسم في الأزل. وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمي وغير التسمية. وأرادوا به أن التسمية وضع اللفظ، واللفظ هو الاسم والمسمي المفهوم من اللفظ، والله سبحانه كانت له معاني الأسماء ولم تكن الأسماء، لأن الأسماء حادثة. وقال بعض أهل الحق: الاسم هو المسمي في كل الأسماء. وأراد به أن اسم الخالق يرجع إلي الذات علي وصف، وكذلك العليم والقدير.

فأما ما يرجع إلي الذات من الأسماء فثمانية وعشرون اسماً. منها الله جل جلاله وتختص بأوصاف منها أنه القادر علي الخلق والاختراع, ومنها أنه الغالب الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يقهر، ومنها أنه لا يكون إلا ما يريد، ومنها أنه لا يحدث إلا ما يخلق، ومنها لا تجوز العبادة إلا له، ومنها أنه لا يصح التكليف إلا منه، ومنها أنه لا ترتفع الرغبة إلا إليه ولا تصير الرهبة إلا منه، ومنها أن المبدأ منه والمنتهي إليه.

والملك, ويختص بأوصاف: منها أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الإذلال، ومنها أن الملك السالب الممكن المانع، ومنها أنه يولي ويعزل ولا يتوجه عليه العزل والسلب، ومنها أنه المنفرد بالعز والسلطان لا يشاركه أحد في معناه، ومنها أنه القاضي بين الخصوم ولا يقتضي عليه، ومنها أن الأرزاق إليه ولا يرزق، ومنها  أنه يطعم ولا يطعم، ومنها أنه يولم ولا يولم، ومنها أنه يضر وينفع ولا يتوجه عليه الضر والنفع، ومنها [66ظ]   أن العرض عليه, والثواب والعقاب إليه والعفو والانتقام لديه.

 والقدوس, ويختص بأوصاف: منها أنه البريء من المعايب والشركاء والأمداد والأنداد، ومنها أن له الكمال على وصف يختص به علي الإطلاق، ومنها أن تطهير غيره من العيوب إليه، ومنها أن الأوهام لا تدركه بالتحديد، ومنها أن الأبصار والعقول لا تدركه بالتصوير.

 والسلام, ويختص بأوصاف: منها أن السلامة به ومنه، ومنها أن من أطاعه سلم، ومنها أنه سليم من النقائص، ومنها أنه يسلم لمن عبده علي التحقيق المراد، ومنها أن التحية لأهل الطاعة منه.

والمؤمن, ويختص بأوصاف منها أن الهدى والأمان إليه، ومنها أن التصديق والتكذيب به، ومنها أن الحقائق تنكشف لديه، ومنها أن الأمن يوجد منه، ومنها أن القول قوله لا خلاف فيه.

والمهيمن, وهو من أوصاف الكمال يجمع أوصاف الفضل وينفي أوصاف النقص، كأنه للكمال الذي لا يصح عليه الزوال، ويدخل فيه الشهادة والحفظ والعطاء والمنع والاختصاص به عن الغير.

والعزيز, ويختص بأوصاف: منها أنه لا يرام، ومنها أنه لا يخالف في المراد، ومنها أنه لا يخوف بالتهديد، ومنها أنه لا مخلص منه، ومنها أنه يعذب من يريد، ومنها أنه ملجأ الهاربين، ومنها أن إليه مطالب المريدين، ومنها أن عليه طريق المارقين، ومنها أنه لا يوجد له مثل، ومنها أنه لا يوصف بحد ولا يصح عليه نقص، ومنها أنه يصعب الوصول إليه ويكثر نفعه.

والجبار, ويختص بأوصاف: منها أنه لا يحن عند التعذيب ولا يسفق عند البذل، فإذا أعطى أعطى عن سعة، وإذا منع منع عن قدرة، ومنها أنه لا يكترث بالناكثين ولا يفرح بالمخلصين، ومنها أنه لا يتمني ما لا يكون ولا يتلهف علي ما لم يكن، ومنها أنه لا يؤثر فيه الكون والفساد والعدم والوجود، ومنها أنه لا يناقش في الفعل ولا يطالب بالعلة تنبه خلف المعتزلة ولا يحجر عليه في مقدوره، ومنها أنه لا يتوجه عليه الطلب بالإلزام ولا يجب عليه الفعل تنبه خلف المعتزلة, ومنها أنه لا يخاف الغلبة ولا تتوجه عليه الذلة، ومنها أنه يذل عند عزته إلا عزا ويشرف عند تقريبه إلا ذلا.

والمتكبر, ويختص بأوصاف: منها أنه لا مقدار لشيء عنده إلا ما وصفه له، ومنها أنه لا يؤثر فيه اللوم ولا يصح عليه العقاب، ومنها لا يهاب العواقب، ومنها أنه لا يخلق للنفع ولا يخترع للدفع، ومنها أنه لا يتوجه عليه المنة بالطاعة ولا يلزمه الثواب علي المتابعة تنبه خلف المعتزلة، ومنها أنه لا يشرف بالإتباع ولا ينحط بالاعتداء، ومنها أنه لا يأمر لفائدة ولا ينهي [67و]  لفائدة.

 والعلي, ويختص بأوصاف: منها أنه علا عن المالك والآمر والناهي والحد والرسم والحجر والمنع والإيجاب والحاجة إلى الخلق, تنبه خلاف للمعتزلة والكرامية والحشوية، و منها أنه تستحيل عليه المساواة، ومنها أنه يستحيل من العبد إدراكه علي الكمال، ومنها أن به العلوم والانحطاط، ومنها أنه لا يسأل عما يفعل.

والعظيم, ويختص بأوصاف منها أنه يستحيل عليه التحديد والمساحة والكثافة والرقة، ومنها وجوب التذلل والخضوع عند الطاعة له، ومنه أنه فخر المفتخرين، ومنها أنه المتمكن من المراد.

والجليل, ويختص بأوصاف منها أنه يجل عن أن يجوز عليه ما دل علي الحدوث، ومنها أنه يجل أن يدرك ما له من القدر، ومنها أنه يجب الانقياد له، ومنها أن المقدرات يقع بطاعته، ومنه أنه لا يجل إلا من رفعه.

 والكبير, ويخص بأوصاف منها أنه لا يقع عليه المقدار والتقدير لا في الزمن ولا في الذات، ومنها أنه لا يرد عليه في التدبير، ومنها أنه لا يخالفه أحد في الأمور.

والمجيد, ويختص بأوصاف: منها أنه لا يساوي فيما له من أوصاف المدح، ومنها أنه المنفرد بالجلال والكبرياء والعزة والبقاء، ومنها أن الذي يقع من أوصاف المدح لغيره لا يكون إلا به.

والحق, ويختص بأوصاف: منها أنه لا يمكن رده ولا يصح دفعه، ومنها أنه لا يوصف بالقدرة علي ما يوجب ذمه، تنبه خلاف للمعتزلة, ومنها أنه المبين لخلقه ما أراده لهم.

 والمبين, ويختص بأوصاف: منها أنه يبن لذو العقول، ومنها أن الفصل يقع به، ومنها أن التحقيق والتمييز إليه، ومنها أن الهداية به.

والواحد, ويختص بأوصاف: منها أنه لا يجوز عليه التشبيه ولا التبعيض لا وهماً ولا فعلا، ومنها أنه لا يصح الخروج من ملكه، ومنها أنه لا حد لسلطانه، ومنها أنه لا يجوز الاتكال علي غيره.

والماجد, ويختص بأوصاف: منها الارتفاع والعلو علي المبالغة، ومنها التقريب علي حسب المشيئة، ومنها الاختصاص بالولاية والتولية.

 والصمد, يختص بأوصاف: منها أنه السيد، ومنها أنها المستغني عن كل أحد، ومنها أنه الذي يصمد إليه في الحوائج، ومنها أن الكون والأحوال منه بالقصد.

والأول, ويختص بأوصاف: منها أنه لم يزل، ومنها أنه لا يكافى علي النعمة والبلية، ومنها أنه لا يسبق بالفعل والمشيئة.

والآخر, ويختص بأوصاف: منها أنه الدائم الذي لم يزل، ومنها أنه يستحيل عليه العدم، ومنها أنه إليه المنقلب، وعنده يقع التعريف وتحقيق المواعيد.

والظاهر, ويختص بأوصاف: [67ظ]  منها صحة الإدراك له بالأدلة علي القطع واليقين، ومنها أن إليه المفزع عند الشدائد، ومنها أنه يظهر علي ما لا يظهر العبد عليه.

 والباطن, ويختص بأوصاف: منها أنه لا يدرك باللمس والشم والذوق وسائر الحواس إلا الرؤية والسمع، ومنها أنه لا يقصد بالضرر، ومنها أنه يقف علي الخفيات.

والمتعالي, ويختص بأوصاف: منها أنه تعالي عن أن يطاق، ومنها أنه تعالي عن الزوال بالذات والصفات، ومنها أنه تعالي عن الحاجة.

والغني, ومعناه أنه لا يتعلق بالقدرة ولا يحتاج إلي دعامة ولا محل ولا علاقة، وأنه لا يتوهم حدوث شيء إلا ويصح منه بما له من الأوصاف الاقتدار عليه من غير توقف علي استحداث حكم، وأن جميع ذلك لو حدث لم يؤثر فيه.

والنور, ومعناه أنه لا يخفي علي أوليائه بالدليل ويظهر لكل ذي لب بالعقول ويصح إدراكه بالأبصار.

وذو الجلال, ومعناه أنه المختص بما ذكرناه من الأوصاف. وورد في بعض الأخبار الرب, ومعناه المالك لكل مخلوق. والسيد, المنفرد بالإيجاب. والمولى, ومعناه أنه ينصر من يشاء كيف يشاء.

والأحد, ومعناه أنه لا يصح عليه الاتصال والمماسة ولا يجوز عليه النقص والزيادة. والفرد, ومعناه أنه لا يصح عديه الزوجة والولد. والوتر, ومعناه أنه لا يعد في المعدودات بالمعني وتحقيقه أنه لا يوصف بوصف يصح وصف غيره به، إلا وله فيه اختصاص ومباينة.

 فهذه الأسماء الراجعة إلي الذات من غير زيادة، وقد يمكن تأويل بعض هذه الأسماء علي صفات الفعل. والظاهر ما ذكرناه. وقد أطلق أهل الحق علي الباري عبارات لم ترد في الأثر وهي ترجع إلي ما رجعت إليه هذه الأسماء، وذلك شيء وموجود. وقد يسم ومنها ثمانية وعشرون اسماً ترجع إلي الصفات المعنوية. منها خمسة للقدرة، وخمسة للعلم، وعشرة للإرادة. والباقي هي باقي الصفات.

 فمما عاد إلي القدرة: القاهر, ويختص بأنه الغالب الذي لا يغلب. والقهار, ويختص بأنه لا يقصد إلا ويغلب. والقوي, ويختص بالتمكن من كل ما يريده. والمقتدر, ويختص بالذي لا يرده شيء عن المراد.والقادر, ويختص بإثبات القدرة. وفي بعض الأخبار الغلاب, ويختص بأن يكره علي ما يراد.

 ومما عاد إلي العلم: العليم, ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنه الحكيم, ويختص بأن يعدم دقائق الأوصاف. ومنه الخبير, ويختص بأن يعدم بواطن الأمور وأسرارها. والشهيد, ويختص بأن يعدم الحاضر والغائب فلا يغيب عنه شيء. والحافظ, ويختص بأن لا ينسي [68و] ما علم. والمحصي, ويختص بأن لا تشغله كثرة عن عددها وإحصائها.

 ومما عاد إلي الإرادة: الرحمن، وهو المريد لرزق كل حي في دار الدنيا. والرحيم, وهو المريد لإنعام أهل الجنة. والغفار, وهو المريد لإزالة العقوبة بعد الاستحقاق مع التكرار. والودود, وهو المريد الإحسان لأهل الولاية. والغفور, وهو المريد لإسقاط العقوبة عن جملة الذنوب. والرءوف, وهو المريد للتخفيف عن العبد. والصبور, وهو المريد لتأخير العقوبة. والحليم, وهو المريد لإسقاط العقوبة في الأصل عن المعصية. والكريم, وهو المريد لتكثير خير عند المحتاج. والبر, وهو المريد لإنعام أهل الولاية.

 وأما ما يرجع إلي بقية الصفات: فهو السميع والبصير والحي والمتكلم ويرجع إلي الكلام، والباقي يرجع إلي البقاء علي مذهب الأستاذ وأبي الحسن، وقد تقدم الكلام عليه وعلي الصفات.

 ومنها ستة وأربعون اسماً ترجع إلي الأفعال، فمما عاد إلي صفات الفعل: الخالق, ويختص باختراع الشيء. والباري, ويختص باختراعه علي الحس. والمصور, ويختص بأنواع التركيب. والوهاب, ويختص بكثرة العطاء واستحالة ورود ما يحجز عنه. والرزاق, ويختص بعطية ما يفوت بدفع التلف. والقابض, ويختص بالسلب. والباسط، ويختص بالتوسع في المنح. والفتاح, ويختص بتيسير ما يعسر.والحفيظ, ويختص بدفع البلية. والرافع, ويختص بإعطاء المنازل. والمعز, ويختص بتحسين الأعمال.والمذل, ويختص بالحط عن المنزلة. والحكم, ويختص بأن يفعل ما بريد. والعدل ويختص بأن لا يقبح منه فعل يفعله. واللطيف, ويختص بدقائق الأفعال. والمقيت, ويختص بخلق الأوقات. والمغيث, ويختص أن لا يشغله دفع بلية. والحسيب, ويختص بأن لا تشغله موافقة عن موافقة. والرقيب, ويختص بأن لا يشغله شأن عن شأن. والمجيب, ويختص بالبذل عند المسلة. والواسع, ويختص بأن لا يتعذر عليه عطية. والباعث, ويختص بالحشر. والوكيل, ويختص بكفاية الخلق. والمبدأ, ويختص بابتداء الخلق علي التفضل. والمعيد, ويختص بالإعادة. والمحي, ويختص بخلق الحيات. والمميت, ويختص بخلق الموت. والقيوم, ويختص بإقامة الخلق علي الأوصاف. والواحد, ويختص بوجود ما يريد. والمقدم, ويختص بتقديم ما يريد. والموجود, ويختص بتأخير ما يريد. والولي, ويختص بحفظ أهل الولاية. والتواب, ويختص بخلق التوبة التائبين. والمنتقم, ويختص بعقاب الناكثين. والمسقط  [68ظ]  ويختص بفعل العدل. والجامع ويختص بجميع الخصوم للإنصاف. والمغني, ويختص بإزالة النقائص والحاجات في الحال. والمانع, ويختص بالقمع. والضار, ويختص بفعل النقائص والحاجات .والنافع, ويختص بخلق اللذات. والهادي, ويختص بخلق الطاعات. والمضل, ويختص بخلق المعاصي. والبديع, ويختص باستحالة المشاركة في الخلق. والرشيد, ويختص بإصابة المقصود. ومالك الملك, ويختص بالتدبير.فهذه الأسماء التي ترجع إلي الأفعال. ويمكن تأويل بعض هذه على ما يرجع إلي الذات والصفات. ولكلى اسم مما ذكرناه معان أخر فأضربنا عن ذكرها مخافة التطويل. وهذه هي الأسماء التي وعد بشرحها.

فقال رضي الله عنه: [وأوردت[209] الأسامي علي الجمع والاختصاص في غير هذا الموضع, وأتبعتها بالدلالة ليكون كمال الإيمان باتفاق أهل التحقيق على ما وفق الله فيه] قد ذكرها في الجامع الجلي ونقلتها كما هي بشرحها، ولم أذكر ما تبعها به من الأدلة مخافة أن يخرج الكلام عن المقصود. فأنا لم نلتزم في الشرح أن نذكر كل ما قيل، وإنما التزمنا أن نذكر ونبين ما أشكل من معاني ألفاظها أعني العقيدة. وكذلك أضربنا عن الكلام في الإمامة، فإنه يحتاج إلي كتاب مفرد، وليس الكلام في الإمامة من أصول العقائد وإن كان قد يدخل ذلك ضمناً تحت الإجماع. والقدر المحتاج إليه أن الإمامة لا نص فيها، وكل من تقدم من الخلافاء الأربعة مستحق للتقديم إجماعاً علي صاحبه. وفي كل واحد منهم أخبار عدة في الفضل. وإنهم ما غيروا ولا بدلوا وماتوا علي ما شهد لهم به رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإن قتالهم كان عن تأويل. وقد ذكر أيضاً التوبة ولم يجعلها من جملة الاعتقادات.

 وإنما قال: "علي العاقبة إما بالتوبة وإما بالشفاعة"، وقد ذكرنا الشفاعة. وأما التوبة فالكلام فيها يطول، ولكنا نذكر نبذه منها فنقول: التوبة طاعة واجبة شرعاً، وحقيقتها ترك اختيار ذنب سبق مثله منزلة لا صورة، تعظيماً لله وخوفاً من عقابه. وهذا الحد يصح بأربعة شروط: أحدها أن يوطن نفسه علي أن لا يعود إلي الذنب في الاستقبال ألبتة، فإنه إن ترك الذنب ولم يوطن نفسه علي أن لا يعود بل كان في نفسه العود إما عزماً وإما تردداً كان ممتنعاً عن الذنب غير تائب.

 الشرط الثاني أن يتوب من ذنب سبق مثله منه، فإنه إن لم يسبق منه ذنب كان متقياً لا تائباً، ألا تري أنه يصح أن يقال: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان متقياً عن الكفر، ولا يقال: أنه تائب، إذ لم يسبق منه كفر وكذلك كل نبي.

الشرط الثالث أن يكون الذي سبق مثل الذي يترك اختياره منزلة لا صورة، فإنه لو كان مثله في الصورة لم يصح من الشيخ الهرم الفاني التوبة، فإنه لا يصح منه الزنا وقطع الطريق، ويصح منه التوبة عن الغيبة والنميمة والقذف  [69و]  وهو مثل الزنا وقطع الطريق في المنزلة. فإن الكل معاصي وإن كان الإثم يتفاوت، ولكن المعاصي الفرعية كلها منزلتها واحدة، فإنها دون البدعة، والبدعة دون الفسق.

والشرط الرابع أن يكون اختياره لذلك تعظيماً لله وحذراً من عقوبته، فإنه لو ترك الذنب رغبة في أمور الدنيا، أو رهبة من الناس أو لضعف في النفس، أو فقراً أو غير ذلك لم يكن تائباً.

 والباعث علي التوبة ثلاثة أشياء: أحدها ذكر غاية قبح الذنوب. والثاني ذكر شدة عقوبة الله. والثالث ذكر ضعفك وقلة حيلتك، وكونك لا تصير علي العقوبة. ثم التائب أن يكون عارفاً أو معتقداً، فمن كان عارفاً وحضرته المعرفة وسطعت عليه أنوارها لم يتفق منه أن يصير علي ذنب ويتوب من غيره، فإن الذنوب كلها بالإضافة إلي جلال الله وعظمته شيء واحد. ومن كان معتقداً وضعفت شهوته في فن من المعاصي قوي فيه عقده ولاحت فيه توبته وهو يصر علي بقايا ذنوبه التي قويت شهوته فيها، ولم تضعف ولم يقو عقده. ثم التوبة واجبة شرعاً كما تقدم. وهي منقسمة: فمنها ما يتعلق بحق الله علي التمحض فهذا القسم تصح فيه التوبة دون مراعاة غيرة، ومنها ما يتعلق بحقوق الآدمييم وهذا ينقسم قسمين: قسم لا تصح التوبة فيه ولا منه إلا بالخروج عنه وذلك كغصب مال الغير، فإنه لا يصح الندب عليه مع إدامة اليد عليه. وقسم تصح التوبة منه مع عدم تسليمه، وذلك كالقتل والغيبة والقذف، فإنه تصح التوبة وإن لم يسلم القاتل نفسه للقتل، ولا استحل من الغيبة والقذف في حق الله تعالي، فإنه أن يندب علي ما مضي مع منع نفسه، ويكون منعه تسليم نفسه. والاستحلال معصية أخري يجب عليه التوبة منها. ومنع القاضي من ذلك، ولا يلزم تجديد الندم كما ذكر الذنب، وأوجب ذلك القاضي، واتفقوا علي ملازمة الندم للتوبة والغم والحزن وإيجاب العزم في الحالة الأولي.

 ثم قال رضي الله عنه: [وقد[210] اختلفوا فيما من أجله لا يكون اعتقاده علماً من طريق التقليد, فقال قائلون إنما ذلك لعدم علمه بأن من يرجع إليه في تقليده معصوم يخطأ, وقال آخرون: أنه لا يكون كذلك لأنه على منزلة من ترد عليه الشبهة فلا يرجع إلى شيء يتعلق به في دفعها عن نفسه] فاعلم أن ظاهر هذا اللفظ يقتضي أن يكون اختلافهم في نفس الاعتقاد لم لا يكون علماً, وهو فاسد فإن الاعتقاد لا يصير علماً بالدليل ولا يكون من أخذ عنه الاعتقاد معصوماً، بل الاعتقاد اعتقاد لنفسه وهو جنس يخالف العلم وإن كان يتعلق بالمعتقد علي ما هو به كما قدمنا. والعلم علم لذاته والبياض بياض لذاته، فلو قال قائل: لأي شيء لم يكن البياض سواداً، أو العلم قدرة؟ كان طلب العلة في ذلك محالا، لأن البياض بياض لنفسه. والقدرة  [69ظ]  قدرة لنفسها ولا يصح أن يكون البياض، إنما كان بياضا لمعني غير ذاته جعله بيضا، فإن ذلك يلزم منه أن لا يكون بياضا أبدا وإنما أراد والله أعلم لأي شيء لم يقم الشرع الاعتقاد الذي يكون مطابقا للمعتقد مأخوذا من جهة التقليد مقام العلم الحاصل بالدليل.

فقال بعضهم: إنما منع لأن الذي قلده لا يعلم صدقه من كذبه، ويجوز عليه الخطأ، فإذا جاز عليه الخطأ لم يثبت الاعتقاد, يكون الاعتقاد مطابقا، وإذا لم يثبت مطابقا لم يصح أن يكون ذلك الاعتقاد هو المأمور به شرعا.

 وقال الآخرون: ليس الأمر كذلك، ولو علم صدق من قلده، فإن الاعتقاد معرض للشك, إذا وردت الشبه عليه بخلاف العلم، فإنه لا تزعزعه الشبه. وإذا كان حاله في الاعتقاد الامتناع من الثبات مع ورود الشبه، والإنسان مأمور بنفي الشك وبالثبات علي العقد وكان لا يخلو من شبهة تزعزع اعتقاده لم يكن بمنزلة العلم لهاتين العلتين.

 ولذلك قال رحمه الله: [ثم قالوا: أن من[211] الله علي عبد بدفع الشبه[212] عنه وتصفية اعتقاده[213] وعصمته من[214] الوساوس التي[215] ترد[216] عليه فيه[217]، فذلك معرفة منه وإيمان صحيح, واعتقد في نفسه أن معتقده على ما هو به, وقطع عليه كان عالما على الحقيقة. واتفقوا على أن الذي يحقق اعتقاده معرفة دليل واحد في كل مسلة لا يحتاج فيها إلى التبحر والتمكن من دفع الأسئلة والأجوبة, فإنها إذا وردت عليه فأوقعت له الشبهة دفعها بما كان عنده من الدليل] أي ذلك يقوم مقام العلم في مقتضي التكليف. ويحتمل أن يكون الاعتقاد عنده علما كما قدمنا ذكره إذا كان بدليل. وإذا لم يكن بدليل لم يكن علما وقد قدمنا فساد ذلك وبالله التوفيق.

                              

 

 

 

 

 

 

                             [الباب الثاني: الأدلة]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

            ثم قال رضي الله عنه: [وأذكر لكل فصل منها دليلا على اختصاص ليكون كمال الإيمان بإجماع أهل الحق فالذي يدل علي حدوث الأجسام أنها لو كانت لم تزل موجودة لم تخل في وجودها من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو لم تزل تجتمع تارة تفترق أخرى لا إلى أول. ويستحيل أن تكون لم تزل مجتمعة, لأنها لو كانت كذلك لم تخل من أن تكون مجتمعة لأنفسها لاستحالة افتراق ما كان مجتمعا لنفسه مع وجود نفسه. ويستحيل أن تكون مجتمعة لمعنى قديم لاستحالة وجود الافتراق مع وجوده, واستحالة بطلان بعد الوصف بقدمه. ويستحيل أن تكون مجتمعة لمعنى محدث لاستحالة تعلق القديم بالمحدث. يستحيل أن تكون لم تزل مفترقة على الترتيب الذي ذكرناه في المجتمع. ويستحيل أن تكون مجتمعة مفترقة لتناقضه في الوصف والمعنى. ويستحيل أن تكون لم تزل لا مجتمعة ولا مفترقة لما فيه من إثبات الافتراق عند نفي الاجتماع, وإثبات الاجتماع عند نفي الافتراق, فيصير تحقيقه كالفصل الأول. ويزاد في بيانه أن يقال: كل شيء يجوز عليه الاجتماع والافتراق لم يتقدر وجوده في الوهم متعريا عن الوصفين. وتجمع[218] هذه الأقسام الأربعة وتعبر[219] عنها بأن يقال: أي وصف منها إذا كان أزليا فله موجب الأزلي, ولا يصح عدم الأزلي, ولا يجوز عليه تغير الحكم, وإذا ثبت التغير بالمشاهدة بطل أن يكون أحد تلك الأوصاف مما كان لها في الأزل. ويستحيل أن تكون لم تزل تجتمع تارة وتفتقر أخرى لا إلى أول لاستحالة تناهيها إلى آخر ما عليها من أحوال الاجتماع والافتراق, أن لو كانت لم تزل بأحد هذين الوصفين. ويكشف عنه بأن يقال: لو كانت مرات كونها مجتمعة ومفترقة من غير نهاية لم تبلغ آخر كرة في الوجود لاستحالة قطع ما لا نهاية له وتعداد ما لا غاية لأحواله. ويبين عنه باستحالة تناهي الوهم في أعداده إذا ابتدأ بآخره, وارتقى بوهمه ما أمكنه, ولو كان معدودا من الأول إليه لصح عدده من الآخر إلى الأول, وما لا يصح قطعه من أحد طرفيه بكماله لم يصح قطعه من الطرف الآخر إليه]

                                    [فصل في معنى النظر]

  فاعلم أنه لا يتأتى بيان هذا الدليل ولا غيره من الأدلة إلا بعد ذكر مقدمة في بيان الدليل والنظر. فإن فهم المركبات لا يتأتى إلا بعد فهم المفردات. فنقول وبالله التوفيق: لا يصح أن يكون النظر هو الفكر خاصة، بل هو معني غير الفكر زائدا عليه. والدليل عليه أن الإنسان يفكر في الجسم هل هو قديم أو حادث؟ وهل زيد قائم أو لا؟ وهو ممن لا ينظر في أنه علي أحد الوصفين، بل يكون مفكرا غير ناظر ، ثم يشرع بعد ذلك في النظر في الدليل أو الشبهة. وقد اختلف في حد النظر ولا معني للخلاف فيه، فإن الخلاف لا يكون إلا بعد التوارد علي معني واحد وهؤلاء ما تواردوا علي معني واحد فقال: بعضهم هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما. وقال بعضهم: تردد العقل في أنحاء الضروريات وتنبهّه لجهاتها مع المباحثة, وتلك الأنحاء يؤول حاصل القول فيها إلي تقسيمات ضرورية دائرة بين النفي والإثبات يعرضها العاقل علي فكره العقلي، ويحكم فيها بالنفي أو الإثبات. وقال بعضهم: هو تجرد العقل عن العقلاء لمعروض عليه وهذا نفي وليس بثابت، والنظر  [70و]  أمر ثابت.

اعتراض علي الحد الأول بأن الفكر حديث النفس وهو مختلف فيه، والنظر أمر متفق عليه بين العقلاء، ولا اعتبار بخلاف السوفسطانية فيه، والذي يطلب به العلم هو الدليل. وإعترض علي الحد الثاني بأن الطلب إرادة الطالب، وذلك أمر زائد علي النظر. واعترض علي الحد الثالث بأن التردد جنس الشك، وليس النظر مقتصرا علي السبر والتقسيم خاصة، بل يتعلق النظر بكل دليل كان من باب السبر والتقسيم، أو لم يكن. والأولي في حد النظر ترك حد النظر فما كل شيء يدرك بالحد والنظر معنى يوجد بالقلب. والدليل عليه كونه ناظرا في وقت كان يصح أن لا يكون ناظرا فيه ووجودنا من جنس الناظر المستدل من ليس يناظر. والنظر جنس يخالف العلم والإرادة والتمني والشهوة. والدليل عليه ما يجده من اختلاف الأحوال عند كوننا ناظرين وعالمين ومريدين ومشتهين. وطريق معرفة اختلاف أجناس صفات القلوب ما نجده من اختلاف الأحوال وتعاقبها علينا، كما أن طريق معرفة اختلاف الألوان ما نجده من اختلافها عند الإدراك لها، ولا يتصور الاختلاف إلا بين موجودين.

فإن قيل: فهل يدرك الناظر نظر؟ قيل: إن أريد بكون الناظر مدركا نظره وجود العاقل له في نفسه، وكونه عالما بأنه ناظر, ومريدا علي الاضطرار فذلك صحيح فيها مع القول بنفي الأحوال, وإن أريد بإدراكه أن الناظر يعلم النظر ويدركه بصفة زائدة علي علمه به، أو يدرك نفسه ناظرا كان في هذا نظر ثم لا يعبد ذلك. وإن اعترض بتعيين المحل في الإدراك لم يلزم، فإن الإدراك للشيء، والعلم به لا يجب أن يتضمن الإدراك لمحله والعلم به, وإن جاز أن يكون المدرك للشيء تارة مدركا له ولمحله، أو مدركا له وعالما بمحله فأما وجوب ذلك فليس بصحيح.

ولا يقع عن النظر الواحد إلا علم واحد، ومحال وقوع العلم عن نظرين، لأن كل ضرب من النظر إنما هو في حقيقة ووجه مخصوص. والنظر لا يجب أن يكون فعلا للناظر، بل كون من فعله، أو من فعل غيره كالإرادة. ولو كان تعلق النظر بالناظر تعلق الفعل بالفاعل لما علم الناظر كونه ناظرا، إلا بعد أن يعلم كونه فاعلا للنظر. وهذا باطل لأن الإنسان يعلم كونه ناظرا وإن لم يعلم كونه فاعلا للنظر. والدليل عليه أن ما من جنس من مقدورات العباد إلا والقديم سبحانه قادر عليه.

والنظر من قبيل  [70ظ]  ما له تعلق بغيره، وليس تعلقه من قبيل تعلق العلوم والقدر والإرادات، ومحال كونه نظرا إلا في أمر يتعلق به وهو مخالف للعلم في تعلقه من وجهين: أحدهما أن من حق العلم أن يتعلق بالمعلوم علي ما هو به. والنظر قد يتعلق بالمنظور علي ما هو به، وعلي ما ليس هو به كالذي يوقع النظر فيما يظنه من قدم العالم. والوجه الأخر أن العلم الحادث لا يتعلق بصفتين فأكثر من صفات المعلوم, والنظر يتعلق بصفتين فأكثر من صفات المنظور فيه، ولسنا نعي بذكر النظر الواحد أنه جزء واحد، وإنما النظر الواحد أجزاء مركبة إذا انتهي إلي آخرها وصف بأنها نظر في الأمر الواحد، أو الأمرين. والعلم المتعلق بالمعلوم الواحد علي الوجه الواحد جزء واحد وكذلك القدرة والإرادة.

والفرق بين تعلق النظر وتعلق القدرة والإرادة أن تعلق القدرة تأثير وتعلق الإرادة تعلق تخصيص، وتعلق النظر لا تأثير فيه ولا تخصيص، بل هو تعلق تضمين علي ما سنذكره. ولا وحه لقول من قال أن نظر الناظر في أن الجسم قديم أو محدث نظرين غيرين، لأن هذا مما لا دليل عليه، وكل نظرين في أمرين مختلفين أو متغايرين مختلفان ومتضادان. والدليل عليه مما نجده الإنسان من الاختلاف في نفسه وعلمه بأن نظره في حدوث الجسم يخالف نظره في إثبات محدثه، ولأنه لو كان كله من جنس واحد لوجب عن حصول جميعه جنس واحد من العلوم. واختلاف العلوم الحادثة عن النظر المتعلق في الأمور المغايرة دليل علي اختلافه، ويستحيل اجتماع نظرين مثلين كانا، أو خلافين في محل واحد في زمن واحد.

والنظر لا يبقي زمانين عند المعتزلة، لأنه لا ضد له بنفيه إن لو قدر بقاؤه وللنظر ضد من جنسه واختلف هل له ضد من غير جنسه؟ فقيل: لا ضد له من غير جنسه. وقيل: له ضد. والحق أن له ضدا من غير جنسه، ولأن محال خلو المحل مما يحتمل وجوده به، وضده في الحال التي يصح وجوده بذاته فيكون الإعراض عن النظر ضدا له، ولو لم يكن له ضد لاستحال خلو العاقل من النظر في الشيء مع ذكره له وعلمه به، ويجب تقدمة النظر المقتضي للعلم علي وجود العلم، وامتنع اجتماعه معه. ويدل علي ذلك أمور: منها أن الناظر إنما ينظر لطلب العلم بالمنظور فيه، ومحال كون العلم بالشيء طالبا للعلم به. وكل عاقل يفرق بين كونه طالبا بنظره العلم بالشيء، وبين كونه عالما ويعلم امتناع ذلك من  [71و]  نفسه.ووجه أخر أنه لا ينظر إلا إذا كان مجوزا كون الشيء المنظور فيه علي خلاف ذلك الوصف وعلى ذلك الوصف، وعلي ذلك الوصف, ومحال تأخر النظر عن وجود العلم مع أنه هو المقتضي لوجوده وعنه وقع فوجب لذلك أن يكون متقدما عليه.

فإن قيل: أفتقولون أن النظر ضدا للعلم بحال المنظور فيه ولاعتقاد كونه علي الصفة من ناحية الجهل؟ قيل: له لا يمتنع ذلك إذا ثبت استحالة اجتماعه معهما، وأنه لولا وجود ذلك كل واحد منهما لصح وجود النظر، لأن هذا هو حقيقة الضدين. وقد يجوز أن يقال: إنما امتنع وجوده مع كل واحد منهما، لأن ذلك يوجب له حال العلم القاطع علي ثبوت الأمر، وحال المجوز لأن يكون حاصلا, وذلك محال. والغرض استحالة اجتماعهما وسواء امتنع ذلك لمضادته لهما أو لا يجاب اجتماعه معهما للعالم الناظر حالين متضادين، ويصح إجتماع النظر مع التجويز والشك. ولا يبعد أن يقال: أن الشك في حالة هو نفس تجوز كونه علي الصفة وأن لا يكون عليها وإن كان معني زائدا علي التجويز. فقال القاضي: يصح مقارنته النظر. وقال غيره: النظر يضاد الشك، فإن الشك تردد، والنظر استنان في صوب واحد وذلك يضاد التردد. فيقول التردد يحصل بالإضافة إلي المشكوك فيه بأنه علي أي حال. والنظر مرور في صوب واحد ولا يعود إلي المشكوك فيه ولا يصاحبه، ويصح اجتماع النظر مع الظن، لأنه تجويز لكون ما ظنه علي خلاف ما ظنه. وإنما يمتنع اجتماع النظر مع الاعتقاد من جهة العلم أو الجهل ينافي الطلب, أعني اعتقاد كون الشيء المطلوب علي الصفة، ويمتنع أيضا مقارنة النظر في حال الشيء، وصفته السهو عنه والغفلة، وكل ما يبقي الذكر له والعلم به. ومحال كون الناظر عالما بأن نظره في المنظور فيه يؤدي إلي العلم بأمر معين مخصوص لأجل ذلك أنه لو علم أن النظر فيما ينظر فيه يؤديه إلي العلم بمعين مخصوص لوجب كونه عالما بما يعلم أن النظر يؤدي إليه بعينه، لأنه محال أن يعلم علي التفصيل أن نظره في الأمور يؤدي إلي معلوم مخصوص وهو غير عالم بذلك المعلوم، لأنه إذا لم يعلمه استحال علمه بأن نظره يؤدي إليه بعينه وهو غير عالم به كما أنه لو علم الجاهل بالأمر أن جهله جهل بذلك الأمر لعاد عالما بما هو جاهل به، لأنه محال أن يعلم أن جهله بأن الجسم محدث مثلا من لا يعلم حدوث الجسم. وكيف يعلم جهله جهلا بحدوث الشيء من لا يعلم  [71ظ]  حدوثه. ولو علم ما يؤدي إليه لاستغني عن النظر فيه ليعلمه، ومع هذا فليس بمحال أن يعلم الناظر في الجملة أن نظره إذا صح في الأدلة مقتض للعلم. وإن صحيح النظر طريق إلي العلم علي الجملة. وإن أنكرته السمنية, فخرج من هذا أنه يعلمه من وجه ويجهله من وجه ولو علمه من كل وجه لما نظر فيه، وهو كمن أبقي له عبد فهو يجهل مكانه ويعلم صورة عبده، ويعلم الأماكن علي الجملة وهو يطلب المكان الذي هو فيه.

 فإن قيل: بم يعلم الناظر أن النظر الصحيح يؤدي إلي العلم؟ فالجواب: أن النظر لا يقتضي وجود العلم بالمنظور فيه لنفسه وجنسه، وإنما يقتضيه لمقارنة أمر له، وتلك المقارنة هي العلم بالدليل، وصفته التي بها يدل علي مدلوله وكون الناظر عالما بذلك، وإن الأدلة لا تنعكس ويستحيل وجودها غير دالة علي مدلولها، فإن لم تقل بالأحوال صح أن النظر إنما يوجب العلم ويقتضيه إذا قارنه العلم بالدليل. ولا نعني بالإيجاب إيجاب العلة معلولها، فإنه محال لأن العلة تقارن المعلول, والعلم لا يقارن النظر، والعلة توجب حالا، والعلم ذات ولا إيجاب التولد فإنه باطل لأنه إما أن يجامعه فيجتمع الضدان، أو لا يجامعه فيقع بعده وقد أبطلنا التولد رأسا في الأعراض فيما تقدم, ولا إيجاب الشرط، فإن الشرط يوجد مع المشروط وإنما سبيل تضمنه كتضمن الإرادة للعلم وهو تلازم عقلا. ومنهم من قال: تلازم عادي وهو محال، فإنه يؤدي إلي انقلاب الأدلة العقلية ويخرج من هذا أن النظر في الشبهة لا يؤدي إلي علم ولا إلي جهل، ولا إلي شك، بل ببقاء الناظر علي ما كان عليه، لأن الشبهة لا وجه لها تتعلق به، ولو كان لها وجه لانقلبت حقيقتها.

 والمانع من كون النظر في الشبهة مقتضيا علما هو عدم العلم بالدليل الذي هو شرط لكونه مقتضيا علما. فإن اعتقد أن الشبهة دليل[220] كان جهلا، وإن علم أنها شبهة امتنع أن يقتضي إلي جهل أو شك أو ظن بعد العلم بها أنها شبهة.

وإعلم أن النظر المطلوب به العلوم الكسبية لا بد من ترتيب بعضه علي بعض كترتيب العلوم الحاصلة عنده، ولكن ليس يجب ترتيبه لنفسه وجنسه، كما يجب ترتيب العلوم التي منه أصول ومنها فروع لجنسها, وذلك أن علوم الخلق علي ضربين: منها ما خلق في العبد من غير قدرة له عليه فتسمي ضرورية. إما من حيث أنه لا قدرة له عليها، وإما من حيث أنه لا يمكنه الانفكاك عنها ولا الشك ولا شبهة فيها إذا كان ذاكرا لطريقها. وهو عشرة أنواع: منها أنواع الحواس  [72و]  الخمس. وهي حاسة الذوق ويدرك بها الطعوم علي اختلافها، وكل علم منها يختلف بالاختلاف متعلقه. وحاسة الشم ويدرك بها الروائح علي اختلافها, وحكمها حكم ما تقدم. وحاسة اللمس و ويدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والحثونة علي اختلافها، وحكمه حكم ما تقدم. وحاسة البصر ويدرك بها الألوان والأكوان والجواهر علي اختلاف ألوانها، وحكمه حكم ما تقدم. وحاسة السمع ويدرك بها الأصوات علي اختلافها. فكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم ولون وكون وكلام وصوت ورائحة وطعم وحرارة وبرودة ولين وحثونة وصلابة ورخاوة، فالعلم بهذا كله يقع ضرورة. والنوع السادس هو العلم المبتدأ في النفس من غير واسطة هذه الحواس ويسمي بديهيا، ويسمي الأول واسطيا. وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يطرأ عليها من الآلام واللذات علي اختلافها. والنوع السابع ما يقع له من العلم بالمستحيلات كالعلم بالاثنين أكثر من الواحد، وأن السواد والبياض لا يجتمعان، وكذلك الحياة والموت. والنوع الثامن ما يقع له من العلم بالكائنات عند تواتر الأخبار وخروجها عن الضبط. والنوع التاسع ما يقع له من العلم عند النظر إلي القرائن الحالية مثل الخجل والوجل. والنوع العاشر ما يقع له من العلم عند النظر إلي العادة، مثل العلم بأن اللبن لا يكون إلا من ضرع، وإن التمر لا يكون إلا من تحل، وكل ما هو من مقتضي العادات. فهذه كلها وإن اختلفت أسبابها علوم ضرورية، وهي اصل للعلوم النظرية.

 والضرب الثاني ما خلق في العبد وله قدرة عليه إما علي أسبابه وإما عليه وإما علي بعض أضداده الخاصة علي وجه كسبي لا علي وجه الاختراع، فإنه محال كما قدمناه. والضروري لا قدرة له عليه ولا علي ضده. والعلم النظر مرتب بعضه علي بعض فيترتب النظر بترتبه، لأنه محال اتفاقا حصول العلم بحدوث شيء قبل العلم بوجوده, ويستحيل تقدم الفرع منها في الوجود علي أصله. وليس ذلك النظر في حدوث الشيء في وجوب ترتيبه علي النظر في وجوده لنفسه وجنسه. وإنما يجب ترتبه عليه متي كان وجوده معلوما بطريق النظر، لأنه محال أن ينظر الناظر في حدوث الشيء قبل نظره في وجوده. إلا أن يكون وجوده معلوما ضرورة.

واعلم أنه لا يصح الاستدلال علي شيء مما أجرى الله العادة أنه لا يعلم  [72ظ]  إلا بالدليل إلا بعد أن يخلق الله في المستدل علوما ضرورية أجرى الله العادة بذلك. منها العلم بأحكام المتضادات فيعلم أن موجباتها متضادة. ومنها العلم بالمفردات مثل أن يخلق له العلم بمعني الحياة والقدرة والإرادة والعلم، وجميع المفردات إن كان يريد أن ينظر في شيء منها. ومنها أن يخلق له العلم بأن ليس كل شيء حيا، ولا كل شيء ميتا، وإنه يجوز أن يكون بعض الأشياء حيا، وبعضها ميتا. ومنها أن يخلق له العلم بأنه ليس كل شيء يصح أن يكون حيا، ولا أن كل شيء يستحيل أن يكون حيا، وكذلك العلم والقدرة والإرادة. ومنها أن يخلق له العلم بمعني الفاعل والخالق، والخلق والاختراع. ومنها العلم بأنه لا يجوز أن يكون المعلوم بالاضطرار هو المعلوم بالاستدلال. ومنها العلم بمعني الدليل والمدلول.

                                  [فصل في معني الدليل]

 اعلم أنه لا حد يشمل الأدلة كلها ويحصرها إلا أنها تحصر بالتقسيم. وذلك ينقسم بانقسام المدلول إلي النفي والإثبات، فإن المدلول قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا. فقد يدل الإثبات علي ثابت كالحدث أو كثبوت الجواز الدال علي المحدث، وقد يدل الحدوث علي النفي وهو نفي وجوده في الأزل، ويدل الإثبات علي النفي كدلالة ثبوت السواد علي انتفاء البياض، وكثبوت استحالة التعري عن الحدوث علي نفي القدم. وقد يقال في هذا بل هو دلالة نفي وهو الاستحالة علي الإثبات الذي هو الحدوث، ويدل النفي علي النفي، والنفي علي الإثبات. فإذا دل إثبات علي إثبات عقلا فالمراد بذلك استحالة انتفاء المدلول مع إثبات الدليل، وهذا كدلالة الحدوث علي المحدث. وإذا دل إثبات علي نفي عقلا فالمعني بذلك استحالة تقدير الثبوت فيما اقتضي الدليل نفيه، وهذا كدلالة استحالة التعري عن الحوادث علي انتفاء القدم، وكدلالة السواد علي انتفاء أضداده.

 واعلم أن من الناس من أنكر أن يكون العدم دليلا، إذ الدليل لا بد له من تعلق المدلول، والعدم لا تتعلق له بحال. واعترض عليهم بعدم المعارضة وعدم المخصص، واوجب عنه بأن عدم المعارضة ليس هي الدلالة، بل نفس المعجزة هي التي دلت علي الصدق، وكذلك عدم المخصص لم يزل، ولكن عموم اللفظ هو الدال وهذا هو الحق.

 فإذا تقرر هذا فاعلم أن الدليل لا يتخصص بكونه جوهرا، ولا بكونه عرضا ولا بكونه صفة نفس، ولا بكونه صفة معني، لكن كل دليل لا بد أن يكون له تعلق بمدلوله. [73و]  وتعلقه تارة يكون عقلا، وتارة يكون من جهة المواضعة والاصطلاح. فالذي له تعلق عقلا هو الدليل العقلي، وفائدته تثبت المعني في النفس يقينا وحده، كل علم قضي العقل للمتصف به العلم بالأمر المرتب عليه علي استداد أنحاء العقل. ومعني تعلقه أنه مقتضيا لثبوت مدلوله وحصوله في العقل علي وجه لو لم يحصل مدلوله لم يحصل الدليل.

اعتراض: فإن قيل: إذا قلتم أن أدلة العقول إنما تصير أدلة علي مدلولاتها لتعلق بينها وبينها فليكن العلم والقدرة والإرادة كل واحد منها دليلا علي معلومه ومقدوره ومراده لأجل تعلقها به. قلنا: لم نعن بالتعلق هذا وإن كان هو ضربا من التعلق، وإنما التعلق الذي عنيناه هو كما بيناه وهو وجه حاجته في كونه وحصوله علي الوجه الذي بحصوله يدل علي ثبوت مدلوله، ولو لم يحصل مدلوله لم يتصور حصول الدليل، وذلك نحو دلالة الفعل علي الفاعل من حيث علمنا أنه لو لا وجود ذات الفاعل وصفاته لم يكن الفعل واقعا، ونحو دلالة العلم والقدرة علي وجود ذات الحياة فإنه لو لا وجودها لم يوجدا، ولا تصح دلالة الشيء علي ما هو متعلق به حتى يكون العلم بحصول الدليل متقدما، ويكون العلم بالمدلول متأخرا. ولا بد أن يكون الدليل معلوما للمستدل به إما ضرورة أو نظرا، ومتي لم يكن معلوما له لم يصح الاستدلال. ومن حق المستدل عليه من الأمور أن يكون غير معلوم للمستدل علبه، لأنه لو كلن معلوما له لم يصح استدلال عليه، لكن قد يكون عالما به ويصح منه سبر الأدلة الكثيرة عليه ليعلم كونها أدلة لا ليكون عالما بما هو به عالم.

اعتراض: فإن قيل: فيجب دلالة العلم والقدرة علي الصفات التي تحتاج في وجودها إلي وجودها، ودلالة كل ما له تعلق بالغير، أو بأمر لو لم يحصل لم يكن حاصلا. قيل: كذلك نقول واعلم أن من حق الدليل ألا يدل إلا علي ذات من الذوات لها به تعلق إما موصوف، أو صفة للذات هي عين الذات، أو صفة هي غير الذات، أو علي عدم معني وانتفائه. فأما ما يدل علي متعلقه الذي هو الذات فنحو دلالة الفعل علي صفات الفاعل. وأما دلالة الشيء الراجعة إلي الذات، أو إلي عين الذات فنحو دلالة حدوث الأعراض علي حدوث الأجسام, وحدوثها هي صفة راجعة إليها. وأما ما يدل علي عدم معني فهو كعدم السواد الدال علي وجود ضده [73ظ]  من البياض وغره، وليس من مدلول الدليل الأحوال والأحكام. وأما ما له تعلق من جهة المواضعة فهو علي ضربين: ضرب منها دلالة الألفاظ والرموز، وفائدة هذه الدلالة إحضار المعني في النفس صوابا كان أو خطأ، صدقا كان أو كذبا ودلالة القول قبل الإيتلاف علي ثلاثة اضرب: دلالة الاسم وهو إحضار المعني في النفس بمنزلة الإشارة إلي الشخص. ودلالة الفعل وهو إحضار المعني في النفس باختصار الوقت. ودلالة الجزء وهو إحضار المعني للنفس إذا صار من الكلمة بمنزلة الجزء. ودلالة القول بعد الإيتلاف علي ستة اضرب: دلالة الخبر ودلالة الاستخبار ودلالة الأمر ودلالة النهي ودلالة النداء ودلالة التمني ودلالة الكلام علي ضروب: دلالة التصريح ودلالة التعريض، ودلالة الإفراد والتأليف ودلالة الإطلاق والتقييد، ودلالة الإعلام والتنبيه، ودلالة الخصوص والعموم، ودلالة السلب والإيجاب، ودلالة الإيضاح والإبهام، ودلالة الإيجاز والإسهاب وغير ذلك كثير.

والضرب الثاني دلالة المعجزة، وهذا القسم قد خرج عن الدليل الوضعي بوجه شابه به الدليل العقلي، وذلك الوجه أنه لا جوز خروجها عن كونها تدل علي الصدق، بخلاف دلالة القول، فإنه يجوز انقلابها وتغيرها بحكم الاصطلاح ودخل في الوضعية بوجه وهو بقصد قاصد, فخرج من هذا أن المعجزة لا تجري مجري الأدلة العقلية من كل وجه، إذ هي بقصد قاصد, ولا مجري الأدلة الوضعية من كل وجه، إذ لا يجوز تغيرها. والأدلة السمعية إن كانت خبرية فهي من هذا القبيل لاستحالة الكذب علي الله ورسوله، واستحالة النسخ علي الأخبار وإن كانت أمرية أو نهيية فيجوز نسخها إلا أنها في ورودها لا بد أن تكون ثابتة فتفيد العلم والعمل، إن كانت متواترة وتفيد العمل إن كانت آحادا بدليل الإجماع.

 اعتراض: فإن قيل: إذا قلتم أن جهة تعلق الدليل بمدلوله أنه لو لم يكن مدلوله أو لم يحصل لم يكن حاصلا ولا كائنا, لزمكم نقض دلالة المعجزة علي صدق الرسول، فإنه لم تحتج في وقوعها إلي وجود صدق الرسول، ونقض دلالة حدث الأعراض علي الأجسام. والجواب: إنه لا نقض، فإنه لو لا حدوث الجسم لما صح حدوث الأعراض، لأنها لا تحدث إلا فيه، ولا بد من كونه موجودا وقد بطل قدمه فوجب حدوثه.

 فإن قيل: أن الأعراض موجودة في الجسم في حال بقائه وهي دلالة علي حدوثه، وإن لم يكن وجود العرض في تلك الحال يفتقر إلي حدوث الجسم. والجواب: إن الأعراض الموجودة في الجسم في حال بقائه لا تدل علي حدوثه، وإنما يدل علي حدوثه منها ما وجد منها به في زمن الحدوث وهي  [74و] ]  الأعراض التي لم تسبقه. وأما المعجزة فإنها أيضا محتاجة في وجودها إلي وجود صدق من ظهرت علي يديه إذا استحال فعلها والقدرة علي ذلك مع كذب مدعيها.

فإن قيل: يلزمكم علي ما قدرتموه في الدليل أن يكون وجود الجسم يدل علي وجود أكوانه وألوانه وسائر أعراضه يدل علي وجوده من حيث أنها محتاجة إليه فيكون كل واحد منهما دالا علي الآخر. والجواب: أنه لا يجب ما قالوه من وجهين: أحدهما أنه لا يحتاج الجسم في وجوده إلي وجود كل شيء منها إذا أشير إليه، لأنه لا واحد من آحادها يشار إليه، إلا والجسم غير مفتقر في الوجود إلي وجوده، بل يصح عدمه مع وجوده ومع عدمه. ولا يجوز أن يقال: إنه محتاج في وجوده إلي وجود جمعها، لأن ذلك محال لتضادها، وإنما احتاج الجوهر إلي الكون في كونه في بعض الجهات لا في كونه موجودا. فبطل ما قالوه ولأنه لو احتاج الجوهر إلي الكون لكونه موجودا لاحتاج إليه كل موجود ويدخل فيه القديم سبحانه.

فإن قيل: يبطل عليكم بالعرض فإنه محتاج في وجوده إلي الجوهر من حيث الوجود ولم يجب من ذلك حاجة كل موجود. قيل: العرض ليس يحتاج إلي الجوهر من حيث الوجود، و إلا فكان يلزم حاجة كل موجود, وإنما احتاج إليه لكونه في ذاته علي وصف لحصوله عليه يحتاج إلي المحل وهي صفة زائدة علي الوجود، إذا قلنا بالأحوال أو وجود مخصوص لا من حيث الثبوت. والوجه الآخر إنا قلنا ولا بد مع حاجة كون الدليل دليلا علي مدلوله إلي تعلقه به من أن يكون العلم به سابقا علي العلم بمدلوله متراخيا عنه، ولا يكون مما يعلم بالاضطرار. ومتي لم يكن كذلك لم يكن أحدهما دليلا علي الآخر، ولأجل ذلك لم يصح أن يستدل بحركة الجسم علي وجوده أو علمه أو قدرته، لأنا نعلم ذات الجسم ووجوده اضطرارا، ونعلم ذلك قبل العلم بصفاته وأحواله، وإن كان لوجود صفاته تعلقا به فبطل ما قالوه من كل وجه.

اعلم أن الله سبحانه قد جعل في الموجودات أوصافا كثيرة يتوصل بها إلي معرفة ما لا يدرك بالاضطرار عادة بذلك بعضها ليتبين لك بها غيرها. فمن ذلك دلالة الفعل بالاقتضاء علي الفاعل، وبالأحكام علي العلم وبالتخصيص علي الإرادة عند أهل الحق, وعلي العالم المريد  [74ظ]  عند المعتزلة.ودلالته بالتضمين علي الكلام والسمع والبصر والحياة. ومنه دلالته بالعادة كدلالة تغير اللون علي المرض. ومنه دلالته من حيث الإعجاز إذا خرج عن العادة علي صدق من تشهد به. ومنها دلالته من حيث الجمع علي صحة الشاهد أو فساده كالجمع بين مقدمتين ينتجان ضرورة، وكالجمع بين الشيئين بالمقايسة أو بالعلة أو بالشرط أو بالحد والحقيقة أو بالدليل, وكالجمع بين الشيئين نجب أحدهما بالآخر ضرورة. ومنها دلالته من جهة إحضار المعني. ومنها دلالته من حيث استحالة التسلسل علي أنه له أول ونهاية. ودلالة ذلك علي قديم إلي غير نهاية. ومنها دلالته من حيث اختلاف الصورة علي ما وضع له من المنفعة. ومنها دلالته من حيث التغير علي وجود ما لم يكن. ومنها دلالته من حيث وجدان النفس يخالف ما كانت عليه علي الإدراك لمعني لم يكن. ومنها دلالته من جهة سد كل واحد مسد الآخر علي التماثل، ومن جهة المنافاة علي التضاد، ومن جهة الاشتراك في الصفات العامة دون الخاصة علي الخلاف. ومنها دلالة الأثر علي المؤثر والتحرك علي المتحرك والتلون علي المتلون والتغير علي المغير والجعل علي الجاعل والقدرة علي القادر والكلام علي المتكلم والتصويت علي المصوت وغير ذلك كثير. وهي قريب من ثمانين وجها.

 وأنكر طائفة من الناس جميع ذلك واختلفوا في ماخذ العلوم. فقال قوم من الأوائل منهم السمنية وغيرهم: أنه لم يعلم شيء إلا بالحواس دون الخبر والنظر وقضايا العقول, وهذا قول باطل. والدليل علي بطلانه أنه لا يخلوا فيما قاله هذا القائل من أن يكون عالما بصحة قوله هذا أو غير عالم، فإن كان غير عالم لم يؤمن بطلانه ولم يجز إتباعه والدعاء إلي اعتقاده. وإن كان عالما بصحته لم يخل الحكم بصحته من أن يكون مدركا بالحواس، أو بأحدهما أو معلوما بغيرها. ويستحيل أن يكون مدركا بالحواس، فإن الناس في علم الحس مشتركون ولم يدركوا ذلك بالحس، ثم ليس في الحس شهادة بأنه لا يعلم شيء إلا بالحس. ولو ساغ ذلك لساغ عكس الدعوة، وإن كان معلوما بغير الحس فقد بطل قولهم.

وقال قوم: لا يعلم شيء بالحواس وإنما يعلم بضرورة العقل. وهذا قول باطل بالتقسيم الذي ذكرناه. وقال قوم: لا يعلم شيء إلا بالخبر. وهذا أيضا باطل، فإنه لو كان لا يعلم شيء إلا بالخبر [75و]  لكنا لا نعلم شيئا من المشاهدات والمدركات ووجود أنفسنا. ثم الخبر لا بد أن يكون صحيحا صدقا أو كذبا باطلا. فإن علم صحته بخبر آخر تسلسل إلي غير نهاية، وهذا يجب بطلان استقرار العلم بالشيء أصلا لتعلقه محالا[221]  وهو وجود ما لا غاية له من الأخبار. وبهذه الطريق يبطل قول من قال: إنا لا نعلم شيئا إلا بالكتاب، وقول من قال: لا يعلم شيء إلا بالسنة، وقول من قال: لا يعلم شيئا إلا بالإجماع، وقول من قال: لا يعلم شيئا إلا بقول الإمام المعصوم.

 وقال قوم: لا يعلم شيئا إلا بالنظر. وهذا ظاهر البطلان، فإن فيه إنكار الحواس، وأيضا فإن النظر لا يكون نظرا إلا بدليل ينظر فيه، ولا بد أن يكون دليل المنظور فيه معلوما للمستدل، فإن كان لا يعلمه إلا بنظر تسلسل إلي غير نهاية. ومحال خروج ما لا نهاية له من النظر إلي الوجود معا أو شيئا قبل شيء.

 فقد بان بعد بطلان هذه المذاهب أن الشيء قد يعلم اضطرارا، ويعلم بالاستدلال، ويعلم بالخبر. فجميع أقسام الدين دقيقة وجليلة، وأصوله وفروعه معلومة بالنظر دون الضرورة. ودرك الحاسة فمنه ما يعلم عقلا بدليله دون ضرورته لا مجال للسمع فيه، ومنه ما يصح أن يعلم سمعا وعقلا، ومنه ما يعلم سمعا ولا بد أن يكون العقل مجيزا له.

 واعلم أن كل ما قضي العقل فيه بالوجود إما بضرورته أو بدليل استحال فيه الجواز والاستحالة, وكل ما قضي فيه بالجواز استحال فيه الوجوب والاستحالة, وكل ما قضي فيه بالاستحالة انتفى عنه الوجوب والجواز. وإذا قضي بأنه ليس بواجب تردد الأمر بين الجواز والاستحالة، وكذلك ما قضي فيه بأنه ليس بمستحيل تردد الأمر بين الوجوب والجواز، وكذلك ما قضي فيه بأنه ليس بجائز تردد الأمر بين الوجوب والاستحالة. ففي باب الحكم بالثبوت علي شيء تعين الأمر فيه، وفي باب النفي لا يتعين. والفرق بينهم أن ما ينفي عن الشيء من الأوصاف كثير، إلا أن يكون محصورا في شيئين فبقي أحدهما يقضي بثبوت الآخر.

                      [فصل في الدليل على حدث العالم ووجوب محدثه]

ثم عدنا إلي كلام الأستاذ رضي الله عنه في الدليل علي حدث العالم فاستدل علي حدوث الأجسام لأنه موجودة مشاهدة، وما وجب لواحدها وجب لجميعها, سواء تركبت من هيولا وصورة أو تركبت من جواهر أفراد، فإنه بعد تركبها متحيزة مختصة بحيزها، فإن الأجسام من حيث هي أجسام متماثلة. والوجه الذي كانت منه حادثة تشترك فيه جميع الأجسام، وإذا ثبت حدوث الأجسام ثبت حدوث ما يقوم بها، إذ لا قوام له في الوجود دونها. [75ظ]  والعالم كلها عند المتكلمين جواهر وأعراض لا زائد عليها.

وادعت الفلاسفة أن ثم عقول ونفوس وهي جواهر غير متحيزة ولا يقوم بها عرض. وإثبات حدوث ما لم يقم دليل علي وجوده إثبات فرع لا اصل له وهو محال. وهذا الدليل الذي سلكه الأستاذ دليل الإبطال ويسمي دليل الخلف. وإنما سمي بذلك لأن الناظر يبطل الأقسام كلها فيبقي القسم الذي يريده خلفها. والدليل المستد هو المقضي بالناظر فيه إلي عين مقصوده. وهذا الدليل الذي هو المستد يجري في جميع المطالب العقول إلا في شيئين: احدهما ما يتعلق بأحكام الأزل. والثاني ما يتعلق بنفي الأقسام عن الجوهر الفرد. ودليل الخلف مختص بهما، ويسمي أيضا السبر والتقسيم، ويسمي الشرطي المنفصل، ويسمي دليل التعاند فدع الأسماء والتسمية فإنها لا تفيد.

واعلم أن من شرط صحته أن تكون الأقسام دائرة بين النفي والإثبات فبطل أحدهما فيعلم منه ثبوت الثاني. ووجه انحصار القسمة فيما قاله الأستاذ رحمه الله أن الموجودات كلها لا تخلو إما أن تكون قديمة أو كلها حادثة, ونعني بالقديم ما لا أول له وبالحادث ما له أول، أو بعضها قديم وبعضها حادث. باطل أن تكون كلها حادثة، لأنها لو كانت كذلك لكان حدوثها لأنفسها من غير سبب وهو محال. وباطل أن تكون كلها قديمة لأنا شاهدنا حدوث بعضها بالضرورة، فبقي القسم الآخر وهو أن بعضها قديم وبعضها حادث. فإن من أنكر حدوث الآلام واللذات به لم يكن عاقلا مع استحالة النقل في الأعراض.

 فإن قال الخصم: أنا ادعي أن هذه الأقسام كلها من سماء وارض وبحر وكواكب وإنس وجن وغير ذلك كلها من الصنف القديم، أو كلها قديمة. وأن حقيقة القديم ما لا أول له كما قلتم، وحقيقة الحادث ما أول له فما الدليل علي استحالة هذا؟ قال الأستاذ رضي الله عنه لو كانت كلها قديمة كما زعمت لأدت إلي محال، وكل أمر يؤدي إلي المحال فهو محال. وذلك أنه لا بد لهذه الأجسام من وصف تتقرر عليه في الوجود وتعلم عليه، والذي أدركناها عليه الآن أنها تجامع تارة وتفترق تارة. ومعني ذلك أنها تتماس تارة وتتباين أخري. وقد بينا حقيقة الاجتماع والافتراق فيما تقدم، ولسنا نحكم عليها في الأزل بما أدركناها عليه الآن، لكنا نقول: إذا كانت لم تزل موجودة لم تخل في وجودها من أن تكون مجتمعة أو مفترقة وهذه قسمة منحصرة دائرة بين النفي والإثبات فيما من شأنه أن يقبل  [76و]   الاجتماع والافتراق، فإن الاجتماع يقابل الافتراق ولا يصح أن يكون الشيء مجتمعا من الوجه الذي كان منه مفترقا في زمن واحد, فإن ذلك محال ضرورة.

فإن قال الخصم: أنها لم تزل مجتمعة كان ذلك مما يؤدي إلي محال، فإنها إن كانت علي ذلك الوصف لنفسها استحال أن تتغير عن ذلك الوصف إلا ببطلان ذاتها وعدم القديم محال كما بيناه. وقد تغيرت مرات إلي الافتراق فإن كانت علي ذلك الوصف لمعني لم يخل ذلك المعني من أن يكون قديما فيؤدي إلي إبطاله وعدمه عند طريان الافتراق، أو اجتماع التماس والتباين في الزمن الواحد إذا لم يبطل الموجب للاجتماع وكلا الأمرين محال وكذلك الحكم في الاقتران, أو حادثا وهو محال فإنه يؤدي إلي وجود الحكم من غير علة. وكيف يتصور أن يكون الحكم قديما والعلة حادثة؟ وكيف يتحرك الشيء بحركة تأتي عام مثلا؟ ولذلك قال الأستاذ لاستحالة تعلق القديم بالمحدث. ومثال ما ذكروه مثال من قال: أن هذه الدار تركبت لبناء يأتي بعدها بألف سنة.

وإن قال الخصم: أنها لا مجتمعة ولا مفترقة وهو نقيض القسمين وهو مما يمكن أن يعقل[222] عليه. قلنا: إن كانت علي هذه الوصف لنفسها استحال أن تقبل الاجتماع، أو الاقتران إلا ببطلان ذاتها، وبطلان القديم محال. وقد أقمنا البرهان عليه، وإن كانت كذلك لمعني قديم استحال بطلانه، أو تكون لا مجتمعة مجتمعة ولا مفترقة مفترقة وهذا محال. وإن كانت كذلك لمعنى حادث استحال أن يتعلق قديم علي وصف بحادث، ثم من المحدث له.

 وإن قال الخصم: الاجتماع والافتراق أفعال يفعلها الجسم ولا يجب تغيره وحدوثه وبتغير الفعل وحدوثه كما لم يجب ذلك عندكم في الإله، فإن الفعل لا ضد له. قيل له: نحن نعتقد وجود الباري علي أوصاف لم يزل عليها، وإنما استحال وجود الفعل منه أزلا، لأنه جمع بين نقيضين. فلما فعل ما فعل فعله في غيره، وفعله غيره فلم يكن فعله غيره مغيرا له, ولم يرجع إليه منه حكم إلا كونه فاعلا، وهذه الأجسام هي المتماسة وهي المتباينة، إما بأنفسها وإما بفعل تفعله في أنفسها فعاد الحكم إليها فهي المتغيرة، والقديم لا يتغير بوجه من الوجوه. فإنا إذا قلنا أنها غير مجتمعة ولا مفترقة ثم فعلت الاجتماع وهو أنها تحركت إلي غيرها حتى اجتمعت معه أو تحرك غيرها إليها إذ لا بد أن تكون مختصة بأحيازها، فقد تغيرت عن الوصف الأول سواء قدر ذلك الوصف نفسيا أو معنويا  [76ظ]  أو حالا. وعلي الجملة قد قبلت الاجتماع والافتراق بعد أن لم تكن قابلة وهو محال. ثم ثبت الحدوث منها كلها علي قول الخصم. ومحال حدوث شيء من الأجسام سواء قدرت قديمة أو حادثة.

 فإن قال الخصم: بعضها مجتمع وبعضها مفترق. قلنا: يلزم كل من اختص بوصف منها ما لزم في وصف الاجتماع والافتراق المتقدم، وهي أن تكون كذلك لنفسها فلا يصح بطلان ما كانت عليه إلا ببطلانها، أو لمعني قديم فلا يجوز عدم القديم علي الوصف المتقدم. وعلي الجملة كل وصف تقدر عليه لا بد له من موجب أزلي، ولا يجوز عدم الأزلي ولا تغيره. فإذا بطل أن تكون مجتمعة وبطل أن تكون مفترقة، وبطل أن تكون لا مجتمعة ولا مفترقة، بطل أن تكون مجتمعة مفترقة، لأنه جمع بين نقيضين. ولو قدر أيضا لكان لا بد له من موجب قديم، ولا يجوز عدم القديم. ولذلك قال الأستاذ رحمه الله: وتجمع هذه الأقسام الأربعة وهي الاجتماع أو الافتراق أو الاجتماع والافتراق معا، أو نفي الاجتماع والافتراق وهو قولنا لا مجتمعة ولا مفترقة، إذ لا يتصور تقررها في الوجود علي غير هذه الأوصاف، وكل وصف نقيض للآخر. ويقال: كل وصف من هذه الأوصاف الأربعة إذا كان لم يزل فلا بد له من موجب أزلي، ويستحيل عدم الأزلي، وما من وصف يقدر إلا والمشاهدة تنقضه علي معني أنها توجد علي خلاف ذلك.

 فإن قال الخصم: أما إنكار الاجتماع والافتراق في حق الجسم, فمحال فإنها لا تخلو عنه، بل هو مشاهد، والأجسام حكمها أن تكون تجتمع تارة وتفترق أخرى لكن تقف عند أول. قال الأستاذ: قد أقررت الآن بأنها علي وصف الاجتماع والاقتران لا في أن واحد و أنها لا تخلو عنه، وادعيت نفي الأولية عنها، وزعمت أن هذا وصف معقول تقرر عليه في الوجود، ولا يصح تقررها في الوجود علي ما ذكرته، إلا إلي انتهت إلي أول. وبيان ذلك أن ما ذكرته يؤدي إلي نفيها، ونفيها مع وجودها محال، ويؤدي إلي دخول إعداد لا نهاية لها في الوجود، ودخول ما لا نهاية له في الوجود محال، فإنه إذا كان الاجتماع لا يوجد إلا بعد افتراق سابق الافتراق لا يوجد إلا بعد اجتماع سابق. ثم لا أول لكل واحد استحال أن توجد مجتمعة مفترقة أبدا. ثم لا نهاية له كيف ينقضي؟ وما الموجب لانقضائه؟ وما مثال ما ذكروه إلا مثال من جاء من موضع فقيل له: من أين جئت؟ فقال: جئت من موضع لا نهاية له. فهل يتصور أن يكون صادقا؟ لا والله، فإنه لو كان صادقا لما وصل إلينا. فإن  [77و]  ما لا نهاية له لا يصح قطعه وإذا صح قطعه بطل أن كون لا نهاية له، فإذا بطلت هذه الوجوه المقدرة كلها لم يبق إلا وجه واحد وذلك أن معني خمس مقدمات قال الأستاذ. وهي[223] أكثر ما وجد لأهل النظر في تركيب بعضها علي بعض.

 المقدمة الأولي قولهم يستحيل وجود الأجسام لا مجتمعة ولا مفترقة. وقد أثبتنا ذلك مما ذكرناه آنفا. ثم قالوا: وإذا كانت مجتمعة ثم افترقت أو مفترقة ثم اجتمعت استحال أن تكون مجتمعة أو مفترقة لنفسها أو لمعني قديم كما ذكرناه. وهي المقدمة الثانية, فوجب أن تكون بهذه الأوصاف لمعان. وإذا وجب أن يكون اختلاف الأوصاف عليها لمعان، وهذه المقدمة الثالثة. وقد بطل كون المعاني قديمة بما ذكرناه وجب أن تكون المعاني حادثة متعاقبة. ثم قالوا: وإذا وجب حدوث المعاني واستحال التسلسل بما ذكرناه وهي المقدمة الرابعة وجب أن يكون لها أول. وإذا وجب أن يكون لها أول وهي المقدمة الخامسة وجب أن يكون ما لا يصح وجوده قبلها حادثا وهو الحكم، فإن ما لا يخلو عن الحوادث ولا يصح وجود الحوادث دونه، إما أن يكون معها أو بعدها فيكون حادثا، أو قبلها فيؤدي إلي حوادث لا أول لها. وقد أبطلناه في الفصل الأخير وبالله التوفيق.

فمم احتج به القائلون بقدم العالم أن قالوا: كل لفظ لا يفهم معناه لا فائدة في سماعه، وكل لفظ لا يعرف معناه في الحاضر لا يعرف معناه في الغائب، إذ السبيل إلي معرفة الغائب الشاهد. فلما وجدنا لفظة موجود معناها في الشاهد مفهوم ولفظة معدوم ولا يعقل معناها. وإذا لم يعقل معناها فكيف يقول: أن العالم كان معدوما ثم وجد، والكلام علي الشيء بالرد والقول فرع عن كونه معقولا.

 والجواب: أن يقال لهم: أنكم قد أثبتم القدم وليس بالمعروف معناه ولا مشار إليه، فبم عرفتموه وأنتم لم تشاهدوه. فإن قالوا: ما من احد يدفع القدم ولا يدفع معناه. قلنا: هذه دعوى تقابلون بنقيضها بأنه ما من احد يدفع الحدوث من العقلاء يدرك من نفسه حدوث ما لم يكن، ويقطع بأنه حادث ويعقل عن كونه انتقل إليه مثلا من غيره ولا يعرف ما لا أول له، فإن الوهم لا يساعده عليه ولا يثبت الشيء في الأوهام بالاتفاق، ولا ينتفي بالاختلاف، فإن أشياء كثيرة غير متوهمة وتعلم. واختلف الناس فيها كيف وقوم لا يحصون عدة خالفوكم فيما ادعيتموه؟ وكيف أثبتوا ما لم يعقلوا معناه, وقوم [77ظ]  توهموا الأشياء علي خلاف ما هي عليه. وقوم أنكروا وجود الأشياء وحقائقها وقالوا: لا حقيقة لشيء من الأشياء. فإن كان الاتفاق دليلا فليكن الاختلاف دليلا، وإذا كان هذا لا يفيد ولا يصح وجوب أن يكون الشيء متصورا بنفسه، أو بالدليل. وقد تعقد الأوهام علي ما ليس بظاهر للحواس ولا عليه دليل موجود. فإن أجزتم هذا لم يكن رفع الحدث لفقده عندكم وفقد الدليل عليه، وإن نفيتموه لزمكم نفي الوهم لنفي معناه وبعده عن الظاهر.

ومما احتجوا به أن قالوا: محال أن يكون الشيء موجودا معدوما، وما في حال واحدة، فلما استحال هذا علمنا أنهما ضدان لا يجتمعان لعين واحدة كالسواد اللازم لعينه، وكذلك الوجود اللازم لعينه. والجواب: أن يقال لهم: أنكم جعلتم الوجود والعدم ضدين، والتضاد لا يكون إلا بين موجودين يتواردان علي محل واحد في زمن واحد. والوجود والعدم إن أثبتموهما ضدين لزمكم الاعتراف بما أنكرتموه، فإنه لا يتصور معرفة كون شيئين ضدين أو مثلين إلا بعد معرفة ذاتهما. ولم نرد بقولنا أن الشيء حادث أنه معدوم موجود، ولا أن له حقيقة في العدم ثم انقلبت إلي الوجود، بل يريد أن ذاته لم تكن فكانت، ولا يتصور ذلك إلا بشرط أن يسبقه عدم، وكما يتصور أن يكون الشيء موجودا لنفسه يتصور أن يكون موجودا بغيره. والدليل قد دل عليه ولا تضاد. وإذا لم يصح الحكم علي شيء إلا بالمشاهدة عندكم، فكيف اعترفتم بالقديم وأنتم لم تشاهدوه؟ فإن ما لا أول له لا يتصور مشاهدته وأنكرتم المحدث وأنتم تشاهدونه، وتدعون أنه انتقل فإنكم تشاهدون حدوث الثمار والأشجار والآلام واللذات. وإن قلتم لا نعرف معني قديم ولا معني محدث فلم أثبتم ونفيتم مالا تعرفون؟ وكيف يصح أن ينفي الشيء أو يثبت ولم تعرف حقيقته؟ فإن توقفتم فيه فالتوقف في الشيء يدل علي أنه جائز، وإن قلتم نعرف حقيقة المحدث ونتصوره ولكنه يؤدي إلي محال، كما نفهم حقيقة الضدين ويستحيل تصور وجودهما.

قلنا: قولكم أن وجود المحدث يؤدي إلي محال أأدركتم استحالة ذلك ضرورة أو نظرا؟ فإن قلتم ضرورة فقد عاندتم ولم تكن دعواكم، أو لا من دعوانا إنا نعلم جواز وجوده ضرورة. وإن قلتم نظرا فما المحال الذي يؤدي إليه إن كنتم تعلمونه وإن كنتم لا تعلمونه. فكيف زعمتم أنه محال؟

 فإن قالوا: وجه استحالته إنه إن حدث بنفسه كان محالا، فإنه لا نفس له ولا حقيقة.  [78و]  ولا تخلو إما أن يحدث نفسه وهو موجود فقد استغني في تلك الحالة عن الإيجاد, وإما أن يحدث نفسه وهو معدوم، فالمعدوم نفي محض فكيف يوجد؟ وإن حدث بغيره فذلك الغير إن كان مثله في الحدوث لزمه ما لزمه، وأن كان قديما فلا يخلو من أن يكون لم يزل خالقا, وهو محال لاستحالة وجود الخلق أزلا، فإنه يؤدي إلي كون المحدث قديما، أو يكون لم يزل غير خالق ثم خلق وهو محال، فإنه يؤدي إلي تغيره وانتقاله عن حالته، أو حدوث علة لأجلها خلق، والكلام في حدوثها كالكلام في الحادث الآخر.

والجواب: إن هذه الأقسام كلها صحيحة غير القسم الأخير وهو ادعاء التغير. فإنا نقول يصح وجود الفعل منه من حيث يمكن وجود الفعل ولا يتغير، وإنما يتوهم التغير فيمن يفعل بالذات والطبع. وأما من يفعل بالاختيار وهو إن شاء فعل وإن شاء ترك، لا يقال أنه إذا فعل تغير بل يقال أراد أن يفعل ففعل ، وأراد أن لا يفعل فلم يفعل. ولا يقال لهم أراد لأن الإرادة هذه صفتها. وإذا كان لا علة لذاته كذلك لا علة لصفاته في تعلقاتها مع أن التغير غير لازم لنا علي مذهبكم، فإنكم ادعيتم أن الأشياء كلها قديمة مع كونها متغيرة ولو عكس لكان أولا, وهو أن كون الأشياء كلها قديمة محال. ووجه استحالته زيادة علي ما تقدم في الدليل أن العالم قد اشتمل علي متماثلان جوهرا وعرضا، ومختلفان جوهرا وعرضا، ومتضادان عرضا لا جوهرا، وهي عند الخصم كلها قديمة. ومعني كونها قديمة أنها موجودة لنفسها ومعلوم أن ما جاز علي أحد المثلين جاز علي الآخر فلم اختص[224]  أحد الأمثال ببعض الأحياز وببعض المحال دون مماثلها، واختص[225] بعض التماثلات ببعض المختلافات وببعض الأشكال دون مماثلها، واختص[226] بالتقدم في التركيب دون مماثلها، واختص بعضها بالتأخر دون مماثلها. هل هذا إلا عين المحال. وبيان ذلك أن الأجسام مماثلة ويختص بعضها بضروب من الأعراض كالبياض والسواد والحركة والحياة والعلم والجهل والموت، وبعضها بالجمادية، وبعضها بالخضرة، وبعضها بالحمرة، وبعضها عالمة وبعضها جاهلة ، وبعضها شاكة، وبعضها نيرة، وبعضها مظلمة وبعضها علوية وبعضها سفلية، وبعضها متحركة علي الاستقامة, وبعضها متحركة علي الاستدارة، وبعضها يتحرك من المغرب إلي المشرق، وبعضها من المشرق إلي المغرب [78ظ] وبعضها يتكون ويفسد, وبعضها لا يتكون ولا يفسد, وبعضها يقوم بنفسه, وبعضها يقوم بغيره, وبعضها كرّيٌ, وبعضها مثلث, وبعضها مربع, وبعضها مسدس, وبعضها يعقل, وبعضها لا يعقل, وبعضها يفعل, وبعضها لا يفعل, فان كانت إنما استحقت القدم لوجودها وثبوتها بطل الاختلاف وإن كان إنما استحقته لاختلافها بطل التماثل وان كان إنما استحقه كل موجود لنفسه وعينه على ما هو عليه فلا يستحقه الآخر, إذ ليس نفسه.

 ثم القديم ما قضى العقل بوجوبه وما من شكل يفرض أو صورة أو صفة إلا والعقل يجوز وجود الأجسام على خلافه, وما من عرض وجد في جسم إلا والعقل يجوز وجوده في جسم آخر. فمن ادعى أن العالم قديم مع ما فيه من الاختلاف والتغير والانتقال من حال إلى حال كان عن العقل خارجاً وفي تيه الجهل والجاً.

 فان قيل: أما كون العالم بلا فاعل مع تقدير الجواز فيه فمحال ولكن ما المانع أن يكون العالم بما فيه لا أول له وله موجب قديم هو في حكم العلة والعالم في حكم المعلول والعلة والمعلول يتلازمان ولا يسبق أحدهما الآخر إلا في الذهن والرتبة كالنور والشمس. قلنا: هذا محال فان الموجب بالذات لا يخصص شيئا عن أمثاله والمختار هو الذي يخصص.

 فان قيل: العالم قديم ومخصصه مريد. قلنا: هذا محال, فان القديم الذي لم يزل يستحيل ثبوته بإرادةٍ إذ الموقع المخصص هو الذي لم يكن فكان. وأما من لم يزل واقعا فيستحيل ارتباط كونه بإرادة, إذ لا كون له تتعلق به الإرادة وهو كتعلق الإرادة بالباقي وبالإله سبحانه. وهذا لا يتخيله عاقل. والذي يبطل العلة والمعلول رأساً أمران من مذهبهما باطلان: أحدهما انه قد تقرر عندهم وعندنا أن العالم ممكن وانه إنما احتاج إلى العلة لأجل إمكانه لا لأجل كونه عقلا أو نفسا أو جسما مركباً من هيولا وصورة. والإمكان قضية واحدة في الممكنات, فإما أن يضاف إليه الكل فيلزم وجود المختلفات والمتماثلات والمتضادات دفعة واحدة. كيف وهم يحيلون أن يصدر عن العلة الأولى اثنان بل يصدر عنها إلا واحد, وهو عقل و يصدر عن العقل عقل ونفس وفلك, ويصدر عن الثاني مثل ذلك إلى عشر عقول وتسع نفوس وتسع أفلاك, وإما أن لا يضاف إليه شي وهو محال عندهم, وإما أن يضاف إليه البعض فيلزم التخصيص وهو  [79و] محال.

 فان قيل: إنما أضيف إليه البعض لأجل المناسبة. قيل: هذا باطل من وجهين: احدهما انه لا مناسبة بين الواجب والجائز. والثاني أن المناسبة إما أن تكون واجبة فلا تفتقر إلى علةٍ, وإما أن تكون جائزة فتلتحق بالأول. والأمر الثاني في إبطال العلة وان العالم إذا كان ممكناً, والممكن ما لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه وهو لم يزل موجوداً ثم يقدر هل له علة أم لا؟ فتلتحق العلة بالجائزات وهو انه كما قدر عدمه وقدر وجوده أعنى المعلول يقدر أيضاً وجود العلة ويقدر عدمها بحكم العقل بان ما كان جائزا كانت علته جائزة, وبحكم العقل بأن من قدر في شيء الجواز وهو لم يزل لزمه تقدير الجواز في كل من لم يزل.

 ثم قال رض الله عنه في الدليل الثاني بعد ثبوت حدث العالم: [والدليل على حاجته إلى المحدث انه لم يخل في حدوثه من أن يكون لعينه أي لنفسه أو لغيره خصه بأحواله وهَيئاتِه (يعني بالأحوال وجوده في زمن دون زمن غيره من جهة التقدم والتأخر عن شكله ويعني بالهيئات ما هو عليه من شكل ولون مع جواز أن تكون على خلاف ذلك)[227] وخص هيئاته وصفاته به] أراد أن ما من صفة ولا هيئة إلا ويجوز أن يكون في ذلك المحل وفي غيره وإنها ما اختصت بذلك المحل بنفسها وانه كما جاز تخصيص الموصوفات بالصفات جاز تخصيص الصفات بالموصوفات. ولذلك قال رضي الله عنه في الجلي: اختصاص الفعل بالحال يعني بالوقت واشتراك المختلفات في الحدوث يعني الجواهر والأعراض وكل مختلف من الأعراض واختلاف المتجانسات بالوقت يعني وجود جوهر في زمن ووجود غيره في زمن آخر إما قبله وإما بعده, وكذلك وجود بياض في جوهر في زمن ووجود غيره في زمن آخر, وكذلك كل متماثل من الصفات والموصوفات, وتباين التماثلات بالمحل يعني أن هذا الجسم يقوم به علم أو لون أو صفة, ويقوم بآخر مثلها مع جواز أن تكون كل صفه في خلاف المحل الذي قامت به, ووقوع المختلفات في جوهر يعني كونه وطعمه ولونه وحياته وعلمه وقدرته وسائر صفاته المختلفة التي يجوز اجتماعها فيه يقتضي مقدِما قَدم وأخر وجمع وفرق.

 ثم قال رض الله عنه في إتمام الدليل: [ويستحيل حدوثه لعينه لاستحالة تخصيص الجنس بالحال والمحل على التباين والتغاير لعينه وقد ثبت اشتراك الجنس في حقيقته وصفات العين[228] ] أراد رحمه الله انه لما ثبت أن المثلين لا يختص كل واحد منهما بحكم عن مماثلة لنفسه وقد تقرر ذلك. فلو قلنا أن حدوث الجواهر  [79ظ]  مثلا لأنفسها لاستحال أن يتقدم بعضها على بعض في الوجوب ولا أن يختص واحد منها بحيز دون آخر ولا بصفة دون الآخر. ويلزم منه وجود جميع الجواهر المتماثلة في زمن واحد وفي حيز واحد وهو محال, والأمر بخلاف ذلك. وكذلك لو قلنا أن الأعراض حدثت لأنفسها للزم في كل جنس منها أن لا يَسبقَ مماثله في الزمن ولا يختص بمحل دون مماثله ويلزم منه وجود المتماثلات من الصفات كلها في زمن واحد في محل واحد, أو بطلان التماثل وهو مدرك ضرورة. وعلى الجملة يلزم منه أربع محالات: المحال الأول لزوم وجود الحوادث دفعة واحدة, إذ ليس وجودها في بعض الأوقات أو تقديرها بأولى من بعض. والثاني لزوم وجود جميع الأنفس المتماثلة في زمن واحد. والثالث أن من نفى كون النفس نفساً في العدم فمال قوله أن الشيء صار نفساً لأنه نفس وذلك محال. والرابع أنها إنما صارت نفساً بعد وجودها فما الذي صيرها نفساً وقد كانت معدومة. والتقسيم الذي ذكره في هذا الدليل رضي الله عنه صحيح. ووجه صحته انه لما تقرر استحالة حدوث حادث من غير سبب إما ضرورة وإما نظراً. ووجه النظر فيه أن وجوده قبل أن وجد إما أن يكون واجباً من غير سبب وهو محال, أو ليس وجوده بأولى من عدمه فيجتمع له الوجود والعدم, وإما أن يكون مستحيلا وهو محال. فانه قد وجد وإما أن يكون جائزاً وهو الحق, فمن جاز وجوده جاز عدمه. ومعناه انه جاز أن يبقى معدوماً, فإما أن يتحقق له الأمران الوجود والعدم, اذ ليس احدهما أولى من الآخر أو لا يتحقق واحد منهما, إذ لا مرجح. فإذا تحقق أحدهما وهو الوجود علم انه ما ترجح إلا بمرجح.

 فلما علم رحمه الله أن ذلك مما يدرك ضرورة أو بنظر قريب استغنى عن القسم الآخر وهو أن يكون حادثاً لا لنفسه ولا لمعنى, وحصر ذلك أن يقال: أما أن يكون حدوثه له سبب أو لا سبب له. ولا سبب له باطل بما ذكرناه والسبب إما نفسه وقد بطل بما ذكرناه أو غيره. وغيره إما جوازه وهو محال من وجوده: منها لزوم كونه معدوماً موجوداً في حالة واحدة, فان الجواز متحقق في العدم تحققه في الوجود, ومنها لزوم وجوده في جميع الأوقات, ومنها لزوم ذلك في جميع الحوادث؛ وإما علة وقد أبطلنا كونه علة؛ وإما طبيعة وهو محال, فإنها إن كانت حادثة افتقرت إلى الطبيعة آخر أو إن كانت قديمة كان أثرها قديماً, وقد قام الدليل على حدث العالم, وأما فاعل مختار وهو الحق.

ثم قال رض الله عنه في الدليل الثالث: [والدليل [80و]  على قدم من قدم وأخر وخص] يعني قدم بعض المحدثات على بعض وأخّر بعضها عن بعض وخصّ بعضها بصفات عن بعض [أنه لو كان مشاركاً لها في الحدوث] يريد يكون حادثاً مثلها [لشاركها في الحاجة إلى المقدم المؤخر المخصص] يريد إذ لايخلو هو في وجوده إذا كان حادثاً من أن يكون مقدما عن بعض الحوادث أو مؤخراً أو مخصصا ببعض الصفات إن كان موصوفاً, وببعض المحال إن كان من جملة الصفات.

 ثم قال: [ولو كان بهذا الوصف] يعني وصف الحدث والاحتياج [إلى مخصص لاقتضى] يعني لافتقر [كل محدث] يعني الذي قدّر فاعلا [إلى محدث قبله] يعنى إلى فاعل قبله, فانه من حيث هو فاعل ينبغي أن يكون متقدماً, ومن حيث هو مفعول ينبغي أن يكون متأخراً, ومن حيث هو محدث يفتقر إلى فاعل, ومن حيث هو فاعل لابد من مفعول يكون بعده ويكون هو قبله, وذلك عين المحال.

 ثم قال: [ويستحيل وجود محدثات واحد[229] قبل واحد لا إلى[230] أول لاستحالة الجمع بين الحدوث ونفى الابتداء] فبين رضي الله عنه الوجه الذي لأجله استحال وجود حوادث لا أول لها لأن قولك حوادث يقتضي أن لها أولا وقولك لا أول لها نفى لما اثبت, فهو جمع بين نقيضين فتكون حادثة من حيث الآحاد, قديمة من حيث الجملة, وهو محال. فان الجملة إذا كانت مركبة من الآحاد وكانت الآحاد حادثة كانت الجملة كما أنها لو تركبت من الجواهر كانت الجملة كلها جواهر ولو تركبت من الأعراض كانت الجملة كلها أعراضاً.

وقد قال في الجلي: إنما استحال حدوث ما لا يتناهى من المحدثات, لأنه يستحيل معه الحدوث من حيث أن ما لا يتناهى لا يصح دخوله في الوجود. والتقسيم الذي ذكره في هذا الدليل صحيح, لان الفاعل إما أن يكون لا أول له وإما أن يكون له أول, فإذا بطل هذا القسم وهو كونه له أول من حيث انه يودي إلى محال, وهو نفى المحدِث والمحدَث ثبت القسم الآخر. وإنما لم يذكر الدليل على وجود القديم سبحانه لأنه لما ثبت أن العالم لابد له من مقتض وان العدم لا يصح أن يكون مقتضياً للوجود, فانه نفى محض وقد كان قبل وجود العالم, ولم يؤثر استغنى عن إقامة الدليل عليه فانه لا فرق بين نفى المقتضي وبين تقدير مقتض منفي.

 

                           [فصل في الدليل على نفي التشبيه]

 ثم قال رض الله عنه في الدليل الرابع: [والدليل على نفي التَشبيه أن التماثل يوجب الاشتراك في جميع صفات النفس وكان إحدى[231] صفات المحدثات الحدوث, وقد بينا فساده من[232] قبل] أراد رض الله عنه أن من حكم المثلين أن يستويا في جميع الصفات فيما يجب ويجوز ويستحيل. فلو كان الباري تعلى مماثلا لخلقه  [80ظ]  أي نوع كان منهم لوجب أن يشاركهم في جميع صفات النفس, ومن صفات نفس المحدث الحدوث, وإذا كان حادثاً لزم منه أن يكون له محدث وقد فسد ذلك بالدليل الثالث المذكور في القِدم, وهو الذي أراد بقوله وقد بينا فساده من[233] قبل.

 واعلم أنا قد بينا في شرح الاعتقادات بيان كل فصل من هذه الفصول ولم نترك سوي بيان صورة الدليل وهذا الدليل دليل صحيح. ووجهه أن كل أمر يودي إلى المحال فهو محال, والمماثلة بين الخالق والمخلوق تودي إلى محال فهي محال. والمحال الذي يودي إليه احد أمرين أما نفى الخالق والمخلوق بكونهما حادثين أو نفى المخلوق بكونهما قديمين.

                     [فصل في الدليل على استحالة الحد والنهاية عليه]

 ثم قال رحمه الله في الدليل الخامس: [والدليل على استحالة الحد والنهاية عليه[234] أن النهاية توجب مقدار الجزء فما فوقه] يريد بالجزءِ الجوهر. وإنما قال: فما فوقه ولم يقل: فما تحته لاستحالة انقسام الجزء كما قدمنا وقوله فما فوقه يريد الجسم.

ثم قال: [ويستحيل وجوده] يعني الباري سبحانه [على مقدارٍ يصح في الوهم فوقه أو دونه] أراد فوقه ذا قَدر جوهراً ودونه إذا قدر جسما [إلا عن قاصد يخصه بقدره] ووجه هذا الدليل أن كل موجود تطرق اليه الجوار استحال وجوده عن وجه من وجوه الجواز إلا بمقتض لتساويها في الجواز فلو قلنا: أن الباري سبحانه على مقدار في ذاته, والمقادير كلها بالنسبة إلى من يقبلها على حد سوى الجائزان يكون على مقدار اكبر منه أو أصغر, فاختصاصه إذاً بذلك المقدار يفتقر إلى مقتض.

ثم ضرب رضي الله عنه لذلك مثالا فقال:  [وذلك[235] كالفعل المحكم] أراد المرتب [يصح[236] في الوهم وقوعه على خلافه و لا يصح اختصاصه بوصفه إلا عن عالم قاصد يخصه[237] به] ومعنى ذلك أن الإنسان إذا نظر إلى دار مبنية أو بيت أو سقف أو ثوب أو غير ذلك على وجه مخصوص فيعلم بالضرورة انه كان يجوز ان تبنى قبل إن بنيت, واذا بنيت كان يجوز ان تبنى على خلاف ما بنيت عليه من الأشكال, فان كانت مربعة جاز أن تكون مثلثه أو مخمسة أو مسدسه أو مدور أو شكل ما من الأشكال. وكذلك يجوز أن تكون أطول مما هي عليه وأقصر. وأي لبن بنيت به يجوز أن يبنى بخلافه من الحجارة والرصاص والنحاس والحديد والخشب والقصب وغير ذلك.

 اعترض القائلون بالمقدار والجبهة من الكرامية على هذه الدلالة بأربعة أسئلة: احدها أن القديم تعالى قد اختص بما اختص به من الصفات الثمانية دون أضدادها مع جواز اتصاف الحي  [81و]  بالعلم والجهل. الثاني اختصاص علمه تعالى في تعلقه بما تعلق به من المعلومات دون أن يتعلق بأمثالها وإبدالها مع جواز ذلك. والثالث اختصاصه بما اختص به من الصفات السمعية مع جواز أمثالها كالوجه واليدين. والرابع اختصاص كلامه بكونه أمراً لتبعض المأمورات مع جواز تعديه عنها إلى ما سواها.

 والجواب عن السؤال الأول: أن نقول نحن لم نثبت الجواز فيما أثبتناه من حيث التوهم والتشهي بل لا يثبت الجواز إلا ضرورة أو نظراً ولم تثبت الصفات من حيث الجواز بل قامت الدلالة على أن كل جائز مفتقر إلى مخصص ويستحيل أن يكون المخصص جائزاً, فانه يؤدي إلى رفع المخصص والمخصص فثبت القدم. ثم المخصِص لا يكون إلا حياً عالماً قادراً مريداً كما ذكرناه وأثبتنا العلم به, فالإرادة للتخصيص والقدرة للاختراع والعلم للأحكام والإتقان والسمع للمسموعات والبصر للمبصرَات والكلام للمأمورات, فكل صفة لها مقتض ولا ضد لها عندنا, فإنها قديمة والقديم لا ضد له. ولا يجور وصفه بخلافها ولا بأمثالها, فإنها لا مثل لها وكل صفة تقدر إن كانت وصف كمال, فيستحيل خلوه عنها, وان كانت وصف نقص[238] فيستحيل وصفه بها ولا زائد على ما دل عليه الفعل وما لا دليل عليه فلا نجوزه بالتحكم.

 والجواب عن السؤال الثاني: أن نقول العلم لا اختصاص له بل هو متعلق بكل معلوم ولانهاية لمعلوماته وكذلك ساير الصفات وكذلك الكلام, وهو خبر متعلق على وفق العلم وإنما يسمى أمراً إذا قارنه في الفعل ثواب وفي الترك عقاب. وهذا هو الجواب على السؤال الرابع.

 والجواب عن السؤال الثالث: أن نقول أما الصفات السمعية فهِي مؤولة راجعة إلى الصفات التي دل عليها الفعل فالوجه راجع إلى الوجود واليد إلى القدرة. وكذلك سائر الصفات السمعية كالعينين في قوله: "تجري بأعيننا"[239] يريد بمريٍ منا ومحرّس. فالكل مؤول وقد اختلف المتكلمون من أهل الحق في المتحيز المختص بجهةٍ أو مقدار هل يدرك اختصاصه بما اختص به ضرورة أو نظراً؟ فقال: الأستاذ ضرورة. وقال القاضي: نظراً وكذلك قال الإمام أبو المعالي. ووجه النظر عدم تأثير الجوهر في الجهة وعدم تأثير الجهة في الجوهر. ويلزم الخصم القول به فان الدار على حدث الجواهر عندهم الأكوان دون ما عداها من الأعراض لجواز تعريها من كل عرض عندهم سوي الأكوان. ونفس القبول للحوادث عندهم لا يدل على حدوث قابِلها, إذ القديم عندهم  [81ظ]  يقبل الحوادث ولا يدل ذلك على حدوثه من حيث جاز خلوه عنها أزلا, بل وجب فنقول لهم: لو خلق الله جوهراً ساكنا أو جواهر العالم كلها ساكنة بماذا كنتم تستدلون على حدثها؟ فلا يرجعون عند توجه هذه الطلبة إلى شي يمكنهم التمسك به إلا أن يقولوا: كل جوهر مختص بحيز يجوز تقدير تبدل الحيز عليه ويلزمهم مثله في القديم سبحانه. ومما تمسك به القاضي رحمه الله أن قال: إذا زعمتم أن القديم سبحانه مختص بجبهة فوق مثلا ومنعتم وجود جواهر في اليمنة واليسرة فقد خصصتم جواهر العالم ببعض الأقطار, ولو جاز اختصاص جملة الجواهر بقطر لزوماً لجاز اختصاص كل جوهر بحيز لزوماً. وأما المقادير فهي عبارة عن كثرة الجواهر وقلتها في جهات مخصوصة فلو كانت واجبة لما تركبت جواهر أبداً ولما وجد جسم اكبر من جسم.

 

                          [فصل في الدليل على استحالة كونه جسماً]

 ثم قال رحمه الله في الدليل السادس: [والدليل على استحالة كونه تعلى جسماً أن الجسم في وجوده يشغل الحيز والمكان ويستحيل أن يشغل الشيء الحيز والمكان المعلوم على الاختصاص مع صحة اختصاصه بغيره في الوهم إلا عن قصد. وذلك يوجب حدوث الكون أو النفس على اختصاصه بالحيز والمكان[240] وهذا دلالة الحدوث كما بينا] ومعنى هذا الدليل أن كل جسم لا بد له من حيز على الجملة يختص به إيجابا اذ يستحيل وجوده في غير حيز وقد بينا معنى الحيز, والحيز المعين لا يجب بل يجوز كونه فيه فما من حيز إلا ويجوز كونه فيه ويجوز أن لا يكون فيه, فان الأحياز بالنسبة إليه على حد سوي. ويريد بالحيز هاهنا الجبهة ولا يصح اختصاصه بجبهة معينة إلا بمتخصص. فان كان في حالة الأولى باقياً فيها افتقر وجوده في تلك الجبهة إلى فاعل يفعله مع كونه فيها وهو السكون وان كان بعد بقائه اختص بجبهة أخرى افتقر إلى كون والى فاعل يفعل له الكون.

 ووجه هذا الدليل: أن كل ما يؤدي إلى المحال فهو محال. وذلك أن كل موجودين إذا وصف احدهما بوصف واختص به, ووجد عليه ولا يصح كونه قط على ذلك الوصف إلا بمقتض. ثم قيل: أن موجوداً آخر موصوفاً بما وصف به هو افتقر الآخر بالضرورة إلى مقتض. فإذا قيل: أن المقتضى موصوف بما وصف به المقتضى لزم التسلسل وفيه نفى المقتضي والمقتضى. فإذا قيل: أن الباري تعلى جسم وكل جسم حادث لزم بالضرورة أن يكون الباري تعألى حادثاً, وفي كون الباري حادثاً نفى الجسم والباري  [82و]  ضرورة.

 احتج القائلون بان الباري تعلى جسم بست شبه معنوية وشبه كثيرة سمعية. فأما الشبه المعنوية: فالأولى منها تمسكوا فيها بالشاهد وجمعوا بالاسم فقالوا: كل فاعل جسم والباري فاعل فهو جسم. وهذا فاسد فان الفاعل لم يكن فاعلا لكونه جسماً و إلا فيلزم أن يكون كل جسم فاعلا وهو محال. فقولهم كل فاعل جسم غير مسلم لأنهم أخذوه بالاستقراء, وهو أنهم استقروا الفاعلين من أسكاف وبناء ونجار وكذا وكذا, فوجدوهم أجساما. فما استقروا الصانع والحكم عليه بأنه جسم حكم بخلاف الشاهد فإنهم ما شاهدوه, كيف ولا فاعل إلا الله. ويلزمهم أن يحكموا عليه بالأكل والشرب والحياة والموت والحركة والسكون وسائر ما يطرأ على الفاعلين في الشاهد فإنهم ما راو قط فاعلا إلا كذلك. وقد بينا أن الجسم يستحيل منه الفعل والجسم لم يكن جسماً إلا من حيث التأليف والتركيب لا من حيث كونه فاعلا, والفاعل لم يكن فاعلا إلا من حيث كونه قادراً لا من حيث كونه جسما.

 الشبهة الثانية أنهم قالوا: المعلومات إنما تدرك بالضرورة أو بالنظر. والعلم بالله من قبيل النظر, فانه إنما يستدل عليه بأفعاله. ثم الدليل يشبه المدلول من كل الوجوه, وهذا فاسد فان الدليل لا يشبه المدلول لا من كل الوجوه ولا من وجه, إذ العدم دليل يستدل به على الوجود, والحدوث دليل يستدل به على القدم والقدم دليل يستدل به على الحدوث.

 الشبه الثالثة: قولهم لو لم يكن جسماً للزم أن يكون أصغر الأشياء كالجوهر. وهذا فاسد فان الصغر والكبر إنما يطلق على المتميزات بالإضافة فلا يلزم في غير المتميز. والجوهرية محال عليه كما الجسمية محال عليه. ويلزمهم أن يكون اكبر الأجسام وان يكون على كل الأشكال وان يقوم به جميع ما يقوم بالأجسام.

 الرابعة: قولهم لو أخبرنا مخبر فقال: إني رأيت فاعلا ليس بجسم لكان كاذبا في خبره كما لو قال رأيت اجتماع الضدين. وهذا فاسد وهو راجع إلى الشاهد. وقد أبطلناه ولا تقف حقائق الأشياء على خبر المخبر بها. ولو أجرى الله العادة برؤية الجوهر الفرد لم يكن كاذباً, فان الفاعل من قامت به القدرة ويعارضه أن لو قال: رأيت فاعلا لا صورة له ولا يأكل ولا يشرب ولا يموت لكان كاذباً. وهم يأبون ذلك في صفات الله تعالى.

 الخامسة: أن الموجودات كلها إما قائم بنفسه وهو المتحيز أو لا قائم بنفسه. وهذا لغير المتحيز وهو العرض, ولا واسطة بينهما. ولما ثبت أن الباري تعالى قائم بنفسه ثبت أنه  [82ظ]  متحيز. وهذا فاسد وهو رجوع إلى الشاهد و الاستقراء والقسمة غير منحصرة, بل بقي قسم آخر وهو أن القائم بنفسه على ضربين: متحيز وغير متحيز إذ لو كان متحيزاً لبطل وجود المتحيز والقائم بالمتحيز. فبالضرورة لا بد من موجود خارج عن القسمين وبه يقع الحصر, وهو أن نقول الموجود إما متحيز أو قائم بمتحيز أو لا متحيز ولا قائم بمتحيز.

 الشبهة السادسة: قولهم إذا قرر موجودان قائمان بأنفسهما بحيث لا يكون أحدهما بجنب الثاني, فبالضرورة إما أن يكونا متجاورين أو متباينين. وكل ذلك يقتضي التحيز والجهة. وربما عبروا عن ذلك بان قالوا: الباري تعالى لا يخلو إما أن يكون داخل العالم أو خارج العالم, وكما أن الدخول بالذات يقتضي مجاورة وممارسة فالخروج بالذات يستدعي مباينة وجهة. وهذه هي الحجة الغراء عندهم. وربما زادوا زيادة أشكال فقالوا: الباري له ذات وصفات اتفاقاً, والصفات بحيث الذات ولا يكون بحيث أنفسها فان القائم بالغير لا يقبل التحيث أصلا فقد تحقق التميز بين الذات والصفات. وذلك راجع إلى أن الذات لها حيث حتى تكون الصفات بحيث هي والصفات لا حيث لها فلا تكون الذات بحيث هي وما قبل التحيث بالنسبة إلى الصفات قبله بالنسبة إلى الذوات القائمة بأنفسها, بل هذا أكد و أولي, فانا لو قدرنا موجوداً آخر قائما بنفسه فمن ضرورته أن لا يكون بحيث هو حتى يتحقق فرق بين الصفات التي هي بحيث هو. وبين ذلك القائم بذاته الذي ليس بحيث هو, فثبت أن له جهة ما ينحاز بها عن غيره. وقد ورد السمع بتسميته فوقا, قال الله تعلى: "وهو القاهر فوق عباده"[241].

فالجواب أن الدخول والخروج والمجاورة والمباينة من لوازم المتحيزات, وكل ما ذكرتموه إنما يلزم في المتحيزات فإنها محدودة. فأما موجود لا يناسب المتحيزات فلا يلزم فيه ما ذكرتموه وقد أقمنا البرهان على إثبات موجود لا متحيز ولا قائم بمتحيز, إذ لو كان متحيزاً أو قائماً بمتحيز لبطل المتحيز والقائم بالمتحيز مع أنا لا نشك في العلم ووجوده وقيامه بالجوهر.

فلو قيل: ما نسبته إلى محله أهو داخل فيه أو خارج عنه أو متصل به أو منفصل عنه أو ملاصق أو مشارك له في الحيثية لم يكن الجواب بشي من هذه الوجوه صحيح. فما من شي يخطر للعاقل من المناسبات والاختصاصات بين العلم ومحله إلا وهو منتف سوي اختصاص قيام. فإذا كان  [83و]  هذا موجودا[242] حادثا[243] وموجود حادث لا نشك في واحد منهما, انتفت عنهما النسب. وما ذلك إلا لكون العلم معقولا غير متوهم ولا محسوس فكيف يتصور النسبة بين من لا يدركه وهم ولا خيال وبين من يدركه الوهم والخيال. فهو سبحانه لا داخل العالم فيتصل ببعضه أو يقوم به ولا خارج عن العالم فَيباينه, ولا داخل خارج إلا أن يقال: انه داخل بالعلم والقدرة خارج بالتنزيه والرفعة.

 وأما ما ذكروه في الوصف والصفة فباطل فان الأعراض كلها توصف بصفات النفس ولا حيثية لها والجواهر توصف بصفات النفس وبصفات المعاني فالوصف من حيث هو وصف لا يفتقر إلى موجود له حيث, فانه كان يمتنع وصف الأعراض ووصف الموجود أيضاً كصفات المعاني لا تفتقر إلى حيث, فانه كان يمتنع وصف الباري تعالى وقد قام الدليل على ذلك. والحيثية مأخوذة إما من انقطاع الأطراف وإما من مجاورة جسم لجسم. وقد يتسع في الحيث فيطلق على ما لا حيث له فيقال: هذا العرض من حيث هو موجود له حكم ومن حيث هو لون له حكم آخر. والمراد بالحيثية هاهنا القيام. وأما قوله تعلى: "وهو القاهر فوق عباده"[244]  فالمراد به العلو والرفعة. ويعارضه "وهو معكم أينما كنتم"[245] "وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله"[246] فدل ذلك على الفوقية فقد دل هذا على التحتية وإن أول أحدهما لزِم تأويل الثاني.

 وعلى الجملة من تصور وجوده مكانياً طلب له جهة ينحاز بها عن العالم ببينونة إما متناهية أو غير متناهية. ومن تخيل وجوده زمانيا طلب له مدة وتقدما على العالم متناهية أو غير متناهية. وكلا التخيلين باطل. فهو الأول والآخر, اذ ليس وجوده تعالى زمانياً, والظاهر والباطن, إذ ليس وجوده تعالى مكانياً بل هو متعال عن المكان والزمان.

 وأما شبهتهم السمعية فمنها ما هو من الكتاب ومنها ما هو من السنة وقد ألف الأئمة رض الله عنهم في ذلك كتباً مبسوطة تغني من نظر فيها عما نذكره لكنا نذكر منها شبهتين: أحدهما من الكتاب والأخرى من السنة لئلا يطول الكلام. منها قوله تعلى: "الرحمن على العرش استوى"[247] وهذه هي التي من الكتاب فقالوا: قد ورد الخبر بان العرش جسم ولا يستوي عن الجسم إلا جسم. فنقول: انتم منازعون في إثبات العرش جسماً فقد ورد عن ابن عباس رض الله عنه انه قال: عرش الرجل قوام أمره. ثم إن سلمنا كون العرش جسماً فنقول: الاستواء في اللغة اسم مشترك  [83ظ]  يطلق على الاستقامة واعتدال الأجزاء وتناسب الأبعاض. ومنه قولهم فلان مستوي الخلقة وهذا في حق الله تعلى محال. ويطلق على الاعتدال بعد الاعوجاج إما محسوس وإما معقول ومنه قولهم استوى زيد على سريره وسرجه واستوت أحواله وهذا معقول. والأول محسوس ويطلق على التكامل بعد النقص. ومنه استوت الحرب واستوي الزرع. وهذه الوجوه كلها في حق الله تعلى محال, فإنها تؤدي إلى محال. ويطلق بمعنى القهر. ومنه استوى الأمير على ملكه وعلى بلاده يريدون قهر, وهذا غير مستحيل في حق الله تعالى ويكون تجدد الوصف راجعا[248] إلى تجدد الخلق.  ويطلق بمعنى العلو, منه قولهم استوت الشمس على رؤوس الناس يعنون علت, وهذا جائز في حق الله تعالى. وهو أولا ما يحمل عليه لان القائل إذا قال: فلان أعلا الأشراف والأمراء لم يرد به الطول والصمت, وإنما أراد أعظمهم قدرا ويكون فائدة ذكرالعرش انه لما لم يخلق الله شيئاً أعظم من العرش في ظن البرية قال: "الرحمن على العرش استوي"[249] يريد انه أعلا شأناً مما هو أعلا من كل الخلق إذ لا يحسن أن يقال: انه أعلا من البعيد.

 واختلف في وصفه تعالى بالاستواء هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فذهب أبو الحسن رحمه الله إلى انه من صفات الذات وانه لم يزل الباري موصوفا به على الإطلاق قبل خلق العرش, فلما خلقه وصف بأنه مستوِ عليه على التقييد كالعلم مثلا, فيكون معنى ثم في اقتضاء حدوث ما بعدها عائداً على مستوَى عليه وهو العرش وذهب القاضي أبو بكر رحمه الله وغيره إلى انه من صفات الفعل, وذلك أن القديم سبحانه خلق استواء فسما نفسه به مستوياً, فيكون معنى ثم في اقتضاء حدوث ما بعدها على هذا المذهب عائداً على الاستواء ويكون الاستواء يحمل وجهين: أحدهما أن يكون بمعنى العلو عن العرش كما ذكرنا وجهه. والثاني أن يكون بمعنى القهر وأذا القهر الأعلى كان الأدنى دونه. والأولى ما قدمناه وهو العلو وقد يكون الاستواء بمعنى القصد, ويكون على بمعنى إلي.

 وأما الشبهة الثانية التي من السنة فقوله عليه السلام: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر"[250]. وهو حديث صحيح ويحتمل وجهين: أحدهما أن يكون النزول عائد على الملك, ثم أضيف إلى القديم سبحانه لما كان بإذنه ومنه ضرب  [84و]  الأمير اللص. وتكون إضافة النزول إلى الله إضافة تعظيم لنزول الملك. ونظيره قوله تعلى: "إن الذين يؤذون الله"[251] فأضاف الأذى إلى نفسه وهو لأوليائه تعظيما لهم. والثاني أن يكون المراد بالنزول هاهنا إِبداء آثار النعمة والرحمة وإظهار أدلة المعرفة والمثوبة وإفشاء ترك العقوبة. ومنه قولهم نزل فلان عن حقه إذا تركه. فعلى هذا الوجه يكون النزول نزول فعل لا نزول ذات, فان نزول الذات يقتضي حركة وتحيزاً وقد أبطلناه. ونزول القدر محال إذ لا يتصور إلا في حادث.

                   [فصل في الدليل على استحالة كونه عرضاً]

 ثم قال رضي الله عنه في الدليل السابع: [والدليل على استحالة كونه عرضاً استحالة كون العرض حياً عالماً قادراً قاصدا و قد بينا حاجة الفعل إليه في حدوثه] ومعنى ذلك انه لما استحال كون العرض قائماً بنفسه استحال وصفه بصفات المعاني. وإذا استحال وصفه بصفات المعاني استحال كونه إلها فان الإله هو الموجد للعالم ويستحيل أن يكون موجداً من غير إرادة ولا قدرة ولا علم, إذ يلزم منه قدم العالم ويلزم من قدم العالم نفيه, والكل محال. ثم كل وصف يوصف به العرض هو محال على الباري وقد بينا ذلك في شرح الاعتقادات.

                      [فصل في الدليل على استغناء الله عن غيره]

 ثم قال رض الله عنه في الدليل الثامن: [والدليل على استغنائه عن غيره انه لو لم يكن مستغنياً عنه[252] قبل الوجود لكان محتاجاً إليه في حال الحدوث, ثم يكون في وجوده رفع الحاجة التي تقدمته. وذلك دليل الحدوث ولا يكون ذلك إلا بحدوث معنى وبطلان غيره, وتحقيقه الألم واللذة] ومعنى ذلك انه سبحانه لو لم يكن مستغنيا عن كل ما سواه من المحدثات قبل وجودها لكان مفتقراً إليها في حال حدوثها حريصاً على فعلها مسروراً بحدوثها لأجل زوال الحاجة عنه. ومن كانت هذه صفته كان متألماً بفقدها ما لم تحدث. فإذا حدثت زال الألم ودل زواله على حدوثه, إذ القديم لا ينعدم فيكون محلا للحوادث وهو محال. ومن استحال عليه الألم واللذة استحالت عليه الحاجة. وكل ما يحتاج إليه تقديرا إما أن يرجع إلى ذاته, والذات هي النفس أو إلى صفات ذاته أو إلى فعله, والكل باطل. فان احتاج في ذاته إلى من يوجدها كان محدثا, وان احتاج إلى محل كان صفة, وان احتاج في صفات ذاته إلى من يوجدها كان ناقصاً ولزم اتصافه بالحدوث وهو محال, وفيه اجتماع القدم والحدوث. وان كانت موجودة قديمة فلا يقال: احتاج الشيء إلى صفاته كما لا يقال: احتاج إلى ذاته. وان احتاج إلى فعله لزم ما ذكرناه من الألم واللذة.

                       [فصل في الدليل على صفات الله تعالى]

 ثم قال رض الله عنه  [84ظ]  في الدليل التاسع: [والدليل على أن المحدِث حي استحالة تعري القائم بنفسه عن الوصف بأنه حي أو ميت أو موات, ولو كان ميتاً أو مواتاً لاستحال أن يكون مدركاً ويستحيل وجود الفعل ممن يستحيل منه الإدراك] ومعنى ذلك انه لما تقدر حدوث العالم وافتقاره إلى فاعل قديم بنفسه واستحال أن يكون طبيعة أو علة, وثبت انه لا بد أن يكون على صفة, وتلك الصفة سماها الشرع إرادة, والإرادة لا توقع, فلابد من صفة سماها الشرع قدرة. والإرادة أيضاً لا تخصص مالا يعلم فلا بد من صفة سماها الشرع علماً, استحال وجود هذه الصفات في غير حي سواء كانت للنفس أو للمعنى.

 وسلك الاسُتاد رحمه الله في هذا الدليل طريق السبر والتقسيم للبيان ولم يسلك هذا المسلك غيره فقال: موجد العالم ثبت انه قائم بنفسه, ومن كان قائماً بنفسه جاز وصفه بالحياة أو ضدها, فلا يخلو إما أن يكون حياً أو غير حي والغير حي هو ميت أو الموات, والميت هو من تقدمت له الحياة, والموات هو الجماد والموت والمواتية معنى واحد ينفي الحياة. فان كان قبل وجودها سمي جماداً و إن كان بعد وجودها وانعدامها سمي ميتا. فان كان غير حي وكان جماداً استحال صدور الفعل منه على حال لاستحالة اتصافه بالعلم والقدرة والإرادة مع عدم الحياة, واتصافه بضدها ولو كان الجماد فاعلا لكان كل جماد فاعلا, ويلزم منه قدم العالم إذ لا تخصيص, ويلزم منه نفى للفعل والفاعل وهذا معلوم فساده ضرورة, وان كان ميتا تعذر منه الفعل ولزم منه محال آخر وهو عدم القديم, فانه لابد أن يكون موصوفاً بالحياة قبل الموت, فان كانت قديمة استحال عدمها وان كانت حادثة صار محلا للحوادث وافتقر إلى محدث وهو محال.

 ثم قال رضي الله عنه في الدليل العاشر: [والدليل على كونه قادرا استحالة وجود الفعل ممن ليس بقادر عليه] ومعنى ذلك أن العلم لما كان لا يؤثر كما قد بيناه في شرح الاعتقادات وكذلك الإرادة لا تؤثر في الإيجاد. وكذلك الحياة لا تأثير لها ولا متعلق. وكذلك الذات من حيث هي ذات لا تأثير لها.  وقد توجد الصفات الثلاثة ولا يوجد الفعل فلا بد إذاً من صفة زائدة على الصفات الثلاثة وإذا عدمت هذه الصفة استحال وجود الفعل, وان كان لا يصح إلا بوجود الأربع, إلا أن الإيقاع تختص به القدرة فكأنه يقول  [85و]  رحمه الله: لا يخلو صانع العالم من أن يكون قادراً عليه أو غير قادر. فان كان قادراً فهو المطلوب وان كان غير قادر كان محالا إذ يلزم منه وجود الفعل من كل موجود وهو محال. وأي صفة قدرت لأجلها وجد الفعل كان هو معنى كونه قادراً إن صح وجود الفعل بها دون غيرها.

 ووجه دلالة هذا الدليل انه قد تقرر عقلا أن ليس كل موجود فاعلا أو ليس كل موجود يصح منه الفعل. فإذا صح الفعل من بعض الموجودات وتعذر من بعضها وجب أن يكون لمن صح ذلك منه صفة على الاختصاص بها باين من تعذر ذلك منه سميناها قدرة. وهذا حكم يستغرق كل الفاعلين لا يختص به الحاضر دون الغائب. وليس هو استدلالا[253]  بالشاهد على الغائب. ثم تقع المنازعة بعد ذلك في القادر هل هو قادر لنفسه أو لمعنى يقوم به؟ وتحريره أن الفاعل إذا صدر منه الفعل لا يخلو إما أن يصدر عنه لكونه موجودا[254], وهو الثبوت فقط, فيلزم ذلك في كل ثابت, وإما أن يصدر عنه لكونه الوجود على وصف فيصح ما قلناه سواء كان الفاعل قديماً أم حادثاً, إذ القدم والحدث لا تأثير لهما في الإيجاد لان معنى أحدهما انه موجود غير مسبوق بعدم ومعنى الآخر انه موجود مسبوق بعدم.

 ثم قال رض الله عنه: [والدليل على كونه عالماً مريداً استحالة ترتيب الفعل في[255] تركيب الجمادات[256]  والحيوانات[257] من غير وجود[258] عالم[259] مريد] معنى ذلك أن كل حادث وجد يتوهم وجوده على خلاف ما وجد عليه قطعاً ويوصف الباري بالقدرة عليه. وكل شيئين ثبت لهما التجانس ثم وجدا مختلفين أعنى في الزمن والشكل كان اختلافهما لشيء زايد أوجب لهما الاختلاف, وليس ذلك إلا الإرادة. ثم يستحيل أن يقصد لما لا يعلم. وقال الأستاذ في الجامع الجلي: أن حصول الشيء على وصف كان يصح أن يكون على خلافه, وفي حال ومحل كان يصح أن يكون في غيره يقتضي علم عالم ويريد انه لو لم يعلمه على هذا الوصف لما قصده بالإيجاد, ولو لم يكن له قصد للزم وجود المحدثات دفعة واحدة وهو محال.

 وقد استدل أكثر الأئمة على العلم بأحكام الفعل وإتقانه. وقال القاضي رض الله عنه: لا معنى للأحكام والإتقان أكثر من حدوث الفعل وإيجاده. ولذلك نقول: أن أفعال العباد كلها محكمة من حيث كانت كلها حادثة من جهته تعالى وإنما يكون عالماً من حيث انه لا يجب أن يحدث منها شيء  [85ظ]  دون ضده أو مثله وفي وقت دون غيره إلا بقصد وإرادة ولولا ذلك لم يكن بالتقدم أولي منه بالتأخر ولا بالوجود أولى منه بالعدم ويستحيل أن يقصد لما لا يعلم.

ثم قال القاضي رض الله عنه: وذلك أن أحكام الفعل لا يخلو من ثلاثة أمور: إما حدوثه فقط أو تتابع حدوث جنسه أو تأليف الأجسام. أما التأليف والتصوير فليس فيه أكثر من ضم جزء إلي جزء. ويصح ذلك من غير عالم بضمه وتأليفه. وقليل الضم وكثيره سواء. وأما توالى جنسه فليس فيه أكثر من حدوث عين بعد عين. وحدوث الأول بمثابة حدوث الثاني. فان لم يدل الأول لم يدل الثاني فلم يبقى إلا الأول وهو حدوثه.

 وزعمت المعتزل أن أحكام الفعل صفة تتبع الحدوث وليس لهم سبيل إلى إثباتها وذلك أنهم زعموا أن الفعل إنما يدل على كونه فاعلا عالما لكونه متعلقا به وواقعاً من جهته ولذلك لم يدل فعل زيد المحكم على علم عمرو لأنه غير متعلق به, ولا حادث من جهته. ثم اتفقوا كلهم أعنى المعتزلة على أن الفعل لا يدل من حيث حدوثه ووجوده فقط على علم فاعله لان النائم والغافل والساهي يحدث ويفعل ولا يدل ذلك على كونه عالماً. ثم الصفة التابعة للحدوث إما أن تكون متعلقة بالفاعل فعادت إلى القدرة كما ذكرناه, وإما أن تكون غير متعلقة به فلا يدل.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على كونه سميعا وبصيرا استحالة وجود حي متعر عن الوصف بما يدرك به المسموع والمرئي والآفة المانعة منه, ويستحيل تخصيصه من هذين الوصفين بالآفة لأنها تمنع[260] عن المدركات[261] ويَقتضي ذلك وجوده مانعاً وممنوعاً[262] وذلك دليل الحدوث] ومعنى ذلك انه لما دل الفعل على العلم والإرادة والقدرة ودلت هذه الصفات على وجود الحياة دل أيضاً وجود الحياة على كل وصف يصح أن يقوم بالحي واجري ذلك في حَق الله تعالى إلا ما دل الدليل على انه نقص كالنوم, فانه ينفي العلم والقدرة والجهل والشك والظن, فان ذلك ينفي العلم واللمس والشم والذوق, فان ذلك يقضي الاتصال. وكذلك الألم واللذه فان كل هذه الصفات تدل على الحدوث, والسمع والبصر من أوصاف الكمال للعلم لا يدلان على حدوث من قاما به. فانا بينا أنهما لا يؤثران في المرئي والمسموع ولا يتأثران, وان من علم شيا ثم رآه ازداد شياً آخر تعلق به الإدراك. كيف وقد علم الله تعالى أن بعض الموجودات مرئية  [86و]  وبعضها مسموعة, فهل علمها مرئية مسموعة لمن خلقه من عباده دونه أو يدركها ويسمعها بعلمه فتكون مرئية مسموعة أزلا, وهو محال. ويكون العلم هو الإدراك وهو محال. وقد قال تعالى: "وكان الله سميعا بصيرا"[263] ولا بد لهذا الوصف من معنى يرجع إليه. وقد تقدم هذا كله في شرح الاعتقادات. فإذا تقرر الجواز فلو لم يتصف بالسمع والبصر لاتصف بأضدادهما وهي آفة تمنع من الإدراك. وذلك محال لان الاختصاص بصفة المنع, ويقتضي فاعلا ومفعولا فاعلا فعلها لأنها لا تقع أبداً إلا جائزة, فان الفعل لا يقضي ضرورة بوجودها ولا دليل يدل عليها فهي تقع تقديراً بخلاف السمع والبصر فان الحياة تدل عليهما مع استحالة النقائض عليه.

 والدليل عليه انه لو قدر عدمها لم يلزم منها محال, بل لو قدر وجودها لزم منه محال وهو نفي الصفات التي دل الفعل عليها. واعلم انه ما وجب نفيها اعني الآفة من حيث أنها تمنع من أضدادها, فانه كان يلزم نفي أضدادها لكونها تمنع منها, وإنما وجب نفيها من حيث أنها لا تقع أبداً إلا جائزة كما ذكرناه. والعمدة في إثبات الإدراك على العلم إثبات الإدراك مخالفاً للعلم, وانه لا يقتضي مقابلة ولا اتصالا و لا تأثير فيما يتعلق به. والكلام في ذلك يطول ويفتقر إلى نظر دقيق.

 ثم قال رض الله عنه: [والدليل على كونه متكلماً[264] استحالة لزوم الخطاب ووجود الأمر والنهي[265] عمن[266] لا يكون متكلماً] ومعنى ذلك أن الباري تعالى لو لم يكن متكلماً لاستحال منه التعريف والتنبيه على التكليف الذي دل على العقل على جوازه. وذلك أن طرق التعريف معلومة محصورة. وهو إما أن يسمع المخاطب كلامه بخلق الإدراك له أو بخلق له علماً ضرورياً به أو فعلا يدل عليه من كلام أو إشارة أو عبارة. وخلق الدليل دون من يدل عليه محال. وخلق سماع لا مسموع له وعلم لا معلوم له أمحل.

 فان قيل: يرجع التكليف إلى الإرادة, فيخلق ما يدل على مراده. قلنا: التكليف لا يتلقى من الإرادة فانه إن كانت الطاعة مرادة فالمعصية أيضاً مرادة. فما وجه التكليف والإرادة تقتضي التخصيص ولا تقتضي الطلب أو نقول: أن المعاصي مكروهة غير مرادة فيقع ما لا يريد وهو محال. فإذا قال السيد لعبده قم من أين يعلم العبد أن السيد أراد منه القيام مع كونه يجوز أن لا يريد منه السيد القيام, ثم لو أراده لوقع. وهذا في حق الله تعالى إذ يستحيل أن يخرج شيء عن إرادته كما [86ظ]  لا يخرج شيء عن علمه وقدرته.

 ثم قَال رض الله عنه: [والدليل على أن له حياة وقدرة وإرادة وعلماً وسمعاً وبصراً وكلاماً استحالة إثبات الموجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات ولزومها عند وجودها له] ومعنى ذلك انه لا درجة بين النفي والإثبات. فإذا قال القائل: زيد عالم ولم يرد به ذاته فإنها معلومة دون هذا الوصف ولا أراد به تخصيص ذاته بوصف من اجله إذا علم عليه كان عالماً, ولا أراد به صفة زائدة على ذاته, من اجلها صح وصفه بكونه عالماً ولا أراد به صفة فعلها بالعالم من اجلها سمي عالماً, كان إثباته لغوا لا فائدة فيه وان أراد به معنى من المعاني لأجله سمي عالماً. ثم قال بعد ذلك: زيد لا علم له فقد نفى ما أثبته.

فإذا قالت المعتزلة أن الباري عالم, ثم قالوا: لا علم له فقد نفوا ما أثبتوه. فان قالوا: هو عالم لنفسه. قلنا: هذا محال فان هذا الوصف رجع إلى وجود الذات, فالذات تعلم دون هذا الوصف, ثم هو تكرار محض. فان قالوا: مفهوم اللفظ الثاني غير مفهوم الأول بل مفهوم اللفظ الثاني الوجود والزيادة. والزيادة لا بد أن تكون مختصة بالذات و إلا فلا فائدة في ذكرها لكنها ترجع إلى صفة هي حال للذات. قلنا: قد أبطلنا القول بالأحوال فلم يبق إلا الرجوع إلى الذات, وقد أبطلناه وزيادة أن فيه حقيقة الذات أو الرجوع إلى الصفات كما قلناه أو الرجوع إلى الأفعال, وهو محال فانه إن فعله في ذاته صار محلا للحوادث وان فعله في غيره لم يصح أن يكون عالما به. ثم الفعل الذي فعله لا بد أن يكون عالماً به و إلا فيلزم التسلسل أن تقع الأفعال كلها وهو غير عالم بها وهو محال, وان علمها بعلم محدث لزم.

 وأما قوله رحمه الله في آخر الدليل "لزومها عند وجوده له" يدل على وجودها فمعنى ذلك انه إذا استحال وجود الفعل منه دونها واستحال أن يوجد بالذات واستحال ردها إلى الذات إذ يلزم منه نفي الفعل ويلزم منه كون ذاته علة موجبة وقد أبطلناه واستحال ردها إلى الأفعال فقد لزمته فلا يصح نفيها إلا بنفيه ولا نفيها إلا بنفيها أو خروجه عن كونه فاعلا وذلك محال. فقد دل ذلك على وجودها إذ لو لم تكن شيئا لجاز نفيها في كل الأوقات وان كان الباري ليس في زمن.

 ولهم ست شبه: الأولى قولهم لو كان القديم تعالى عالماً بعلم لكان علمه حالا فيه ولا يجوز ان يكون القديم محلا لشيء والجواب: أنا لا نقول أن علمه حال فيه لان الحلول لا يعقل في كلام العرب إلا بين الأجسام كحلول  [87و]  اللبن في الماء على معنى المجاورة, وحلول الماء في الإناء. ثم توسع فيه واستعمل في قيام العرض بالجوهر فيقال: انه حال فيه وهو محال في الصفات من حيث الحقيقة لكنا نقول: أن علمه يقوم بذاته.

 فان قيل: فيلزم منه أن تكون الذات محتاجة إلى الصفة من حيث انه لا يصح منه الفعل دونها, والصفة محتاجة إلى الذات من حيث القيام فإنها إن كانت قائمة بأنفسها لزم منه آلهة عدة وهو محال. والجواب أنا قد بينا في ما تقدم أن الحاجة لا تكون مع الوجود, وإنما تكون مع العدم ولو كانت الحاجة مع الوجود للزم منه أن تكون الذات محتاجة إلى نفسها إذا كان عالماً قادراً مريداً بها وان كان لا وصف لها لا نفسي ولا معنوي فهو محال. وقد بينا ذلك فيما تقدم.

 الشبهة الثانية: قولهم لو جاز قيام معنى بالقديم سبحانه لم يكن بعض المعاني أولى بالتخصيص من بعض إلا بمقتض واذ لا مقتض فيلزم قيام كل معنى به, وفيه قيام الحوادث بذاته. والجواب: أنا لم نثبت الصفات للقديم بالجواز فيلزمنا ما قلتم بل الدليل دل على وجودها ووجوبها ولم يدل على وجود ذاته سواها. فنفيها يؤدي إلى نفي الفعل, ونفي الفعل يؤدي إلى نفي وجوده وقيام الحوادث بذاته أيضاً يؤدي إلى نفي وجوده, فان القدم والجواز يتناقضان. ثم نقلب عليهم هذا السؤال فنقول: لو جاز وصفه ببعض الصفات لم يكن تخصيصه به أولى من غيره فإذا وصف بأنه عالم جاز وصفه بأنه متحرك ولا فرق إلا ما ذكرناه.

 واعلم أن كل وصف وصفة لا يجوز إثبات معناه للقديم لا يجوز إطلاق وصفه عليه ثم نفيه. وذلك كالسواد والبياض وسائر الأعراض, فلا يقال: الباري تعالى أسود أو أبيض أو متحرك, ولا سواد له ولا بياض ولا حركة, فكان ما ذكروه عليهم لا لهم.

 الشبهة الثالثة: قولهم أن الباري سبحانه لو كان عالماً بعلم لكان علمه محدثا وغيراً له. قلنا: أما كون العلم غيراً له من حيث المفارقة بالعدم والوجود والمكان والحيز فمحال, وهو غير من حيث أن حقيقة العلم غير حقيقة الذات. والغيرية لا تدل على الحدوث من حيث هي غير به و إلا فيلزم أن يكون الباري تعالى حادثا من حيث كان غيرنا. والعلم الحادث نحن نمنع قيامه بذاته تعالى لا لكونه علماً ولا لكونه غيره بل لكونه محدثاً جائزاً وجوده مفتقراً إلى فاعل. والعلم لم يكن علماً لكونه حادثاً ولا غيراً.

ثم نقلبه عليهم فنقول: لو كان عالماً بنفسه أو لنفسه  [87ظ]   لكانت نفسه محدثة متغايرة.

 الشبهة الرابعة: قولهم لو كان عالماً بعلم لجاز عدم علمه مع وجوده, فيكون غير عالم بعد أن كان عالماً لان كل صفة زائدة على الذات يجوز عدمها مع بقاء الذات. والجواب: أن يقال إنما جاز بطلان علم الإنسان وخروجه عن كونه عالماً لمعنيين لا يصح وصفه سبحانه بواحد منهما: احدهما أن علمه محدث والعدم لا يستحيل عليه وعلم الباري سبحانه قديم ويستحيل عدم القديم. والثاني أن علم المحدث عرض ويستحيل بقاء الأعراض, وعلم القديم ليس بعرض. ثم نقلبه عليهم فنقول لو جاز وصفه بأنه عالم لنفسه لجاز وصفه في وقت آخر بخروجه عنه.

فان قالوا: الفرق بينهما انه إذا كان لنفسه لم توجد نفسه إلا وهي عالمة. قلنا: وإذا كان عالماً بعلم قديم لم توجد نفسه ‘لا وهي عالمة.

 الشبهة الخامسة: قولهم لو كان علم الباري قديماً لشارك الذات في القدم والمشاركة في القدم مشاركة في اخص وصف إلا له فيلزم منه كون العلم إلهاً كما كان قديماً, ويمنع منه دليل التوحيد. والجواب: أن هذه دعوى مبنية على مذهب غير مسلم, فإن اله لم يكن إلهاً لكونه قديماً وقد ذكرنا ذلك في شرح قوله "ثم الاعتقاد بان لا اله غيره" وأبطلنا مذهبهم فيه.

 الشبهة السادسة: قولهم أن العالم لو كان عالماً لوجود العلم أو لقيامه به لم يعلم العالم عالماً إلا من علم علمه, وقد وجدنا نفاة الأعراض يعتقدون أن الإنسان عالم مع إنكارهم العلم, فاستحال أن يكون ذلك حقيقة العالم من قام به العلم. ومن نفا العلم واعتقد كونه عالماً لم يعرفه عالماً على وصفه وكان مدعياً في زعمه. وأما نفاة الأعراض فما نفوا المعاني ولكنهم توهموا أنها جواهر وليس يثبت الشيء بإثبات من أثبته ولا ينفيها باعتقاد من يقله.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على انه لم يزل موصوفاً أن نفيها على تخاصيصها يوجب إثبات أضدادها وفي وجودها منع من[267] الوصف له بضدها بعدها لاستحالة العدم على من وصف بالقدم] ومعنى ذلك انه قد قام الدليل على انه تعالى موصوف بالعلم والقدرة والإرادة وسائر الصفات لصحة وجود الفعل منه. قد اختصت به وهي قديمة إذ يستحيل قيام المحدث بالقديم. فلو قدرنا نفيها  [88و]  أو نفى واحدة منها لم يخل إما أن تنتفي بأنفسها على معنى أنه لا يصح بقاؤها في الزمن الثاني, فتكون من جملة الأعراض, ويستحيل معها وجود العالم, وإما أن تنتفي بضد كما يزعم الخصم وهو محال, لان القديم لا يصح عدمه لأنه إن انعدم بنفسه لم يكن قديماً وان انعدم بغيره لم يخل إما أن يكون ضداً فليس احد الضدين أولى من الآخر, ثم الضد الآخر إن كان قديماً استحال عدمه وان كان حادثاً لم يكن الحادث بان يمنع القديم بأولى من أن يمنع القديم الحادث. ثم الضد لا يجامعه فكيف يعدمه وان جامعه ودي إلى اجتماع الضدين وهو محال, وإما أن يقدر انعدامه بانعدام شرط وهو محال, فان الشرط وان كان حادثاً استحال أن يكون وجود القديم مشروطاً بحادث, وان كان قديماً فالكلام فيه كالكلام في الشروط. وان قدر المعدم فاعلا مختاراً فلا يخلو إما أن يكون هو صاحب الصفات المقدر عدمها فيعدمها بقدرة, والقدرة لا تؤثر العدم أو بإرادة لا تعدم ولا تتعلق بالقديم. ولو سلم ذلك لم يفد إذ لم يخل عن الصفات التي يعدمها بها. وهذا من أمحل ما يتصور وهو أن يكون الشيء موصوفاً بالقدرة على أن يعدم ذاته. وقد بينا أن العدم كف عن فعل, وصفاته تعالى ليست بفعل له فيكف عن فعلها, وإما أن يكون غيره فيمنع منه دليل التوحيد. وعلى الجملة عدمها يودي إلى عدمنا وعدمنا مع وجودنا محال. ثم العدم من الجائزات, فكيف يكون واجب الوجود جائز الصفات.

 ثم قال رحمه الله: [الدليل على أنها ليست ولا شيء منها يشبه شيئا من صفات المخلوقين أن التشبيه يوجب الاشتراك في جميع صفات النفس على الوجوب والجواز, ومن[268] احد أوصاف[269] المخلوقين لأنفسها[270] حدوثها ويستحيل ذلك في صفاته لما قدمناه من الدلالة على قدمها] ومعنى ذلك انه لما ثبت أن صفاته تعالى قديمة وباقية لاستحالة العدم عليها وصفات المحدثات حادثة ويستحيل عليها البقاء, استحال أن تكون هذه مثل هذه, فان من حقيقة المثلين التساوي في جميع صفات النفس. وهؤلاء ما تساووا, فان هذه حادثة وتيك قديمة. وهذه يجب لها العدم وتيك يستحيل عليها العدم. وهذه خاصة التعليق وتيك عامة التعليق فلا مشابهة.

 واعلم أن المشابهة بين القديم والحادث تؤدي إلى النفي القديم والحادث, إذ ليس  [88ظ]  أحدهما بأولى من الآخر في إلهية أو في الحدث. وقد تقدم بيان ذلك.

 ثم قال رحمه: [والدليل على استحالة القول بأنها هو استحالة القول بان الحياة والقدرة والعلم[271] والإرادة حي قادر عالم مريد[272]][273] ومعنى ذلك انه لما ثبت انه حي بحياة, عالم بعلم, قادر بقدرة مريد بإرادة, واستحال أن يكون فاعلا إلا من كان بها بهذا الوصف, وكل صفة لها في نفسها حقيقة وحقيقتها مخالفة لحقيقة الذات الأخرى استحال أن تكون احداهما الأخرى.

 فإذا قلنا: أن الصفة هي الذات لزمه منه محالان: المحال الأول[274] هو الذي ذكره الأستاذ رحمه الله وهو كون الذات حياة قدرة علما إرادة فتصير بمنزلة المعاني, وإذا صارت بمنزلة المعاني استحال عليها الوصف بالمعاني ومن استحال عليه الوصف بالمعاني استحال أن يكون فاعلا, وقد ثبت كونه فاعلا. والمحال الثاني انقلاب الحقائق. ثم ليس بان تصير الذات في معنى الصفات بأولى من أن تصير الصفات في معنى الذات.

 ثم قال رحمه الله في الدليل الذي يليه: [والدليل على استحالة القول بأنها أغيار له استحالة عدمها مع وجوده[275] وذلك وصف لازم في جميع أغياره, وهذا بعينه دليل على استحالة مفارقتها به]  ومعنى ذلك أن صفاته تعالى المعنوية لا يقال فيها أنها غير الله على معنى انه يجوز عدمها ووجوده أو وجودها وعدمه لأنه قد ثبت قدمها واستحال عدمها. وقد بينا حقيقة الغيرين في شرح الاعتقادات.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على استحالة القول بالمجاورة أنها تقتضي المماسة والمحاذات[276] والمقارنة في المكان والحيز, وكل ذلك من صفات الأجسام] ومعنى ذلك انه لما ثبت أن الذات قائمة بنفسها والصفات قائمة بها فلا يتوهم قيامها بها واجتماعها مع ما قامت به كاجتماع الجوهر والاجسام ولا كاجتماع الجواهر والأعراض, فاجتماع الجوهر يكون بالمجاورة وهي المماسة ويكون بالحدود وهو راجع إلى المماسة, وكل ذلك محال في الصفات الحادثة فكيف في الصفات القديمة, وقد بينا ذلك في شرح الاعتقادات. وأما ما ذكره من الدليل على استحالة القول بأنها أعني الصفات هي هو وغيره أن ذلك متناقض. فوجه التناقض فيه أن الهو هو والغيرية يتقابلان تقابل النفي والإثبات من حيث الحقيقة لا من حيث المفارقة, فإذا قال قائل: أن الصفات هي الذات الموصوفة أي أن حقيقتها حقيقتها انتفت الغيرية, وإذا قال: أنها غيره انتفت الهي هو, والجمع  [89و]  بينهما كالجمع بين الضدين.

[والدليل على استحالة القول بأنها تحله استحالة كونها مجاورة لما قامت به, ولا يصح الحلول بغير هذا الوصف.][277]

[والدليل على استحالة القول بأنها تخالفه أن أهل الخطابة لا يطلقون هذه اللفظة إلا على المتغايرات, وقد بينا فساده من قبل. والدليل على استحالة القول بأنها توافقه ما في هذه اللفظة من إيهام المماثلة][278]

 وأما دليل استحالة المخالفة والموافقة بين الصفات والذات فهو مبني على وجهين: أحدهما من حيث العقل والثاني من حيث الإطلاق. فأما ما هو ممنوع من حيث الإطلاق فإطلاق المخالفة والموافقة يوهم التثنية والمثلية, وذلك نقص ولا يجوز أن يطلق في وصفه تعالى ما يوهم نقصا. وأما ما هو ممنوع من حيث العقل فهو أن يراد بالمخالفة المماثلة الواقعة بين الموصوفات, ويراد بالموافقة المماثلة الواقعة بين الموصوفات وبين الصفات. فان ذلك محال لأنه يؤدي إلى كونها آلهة. ويمنع منه عقلا دليل التوحيد.

                            [فصل في الدليل على عموم صفاته]

 ثم قال رحمه الله رحمه في الدليل الذي يليه: [والدليل على أن قدرته تعم جميع المقدورات وإرادته تعم جميع المرادات وعلمه يعم جميع المعلومات أن التخصيص في كل صفة[279] منها ببعض متعلقاتها[280] يوجب تناهيه في صفته[281] وذلك دليل الحدوث وقد قدمنا الدلالة على قدمها]  ومعنى ذلك أن من حكم القديم أن لا يتطرق إليه العقل بحكم من أحكام الجواز, فان القدم والجواز يتناقضان. والصفات القديمة إذا تعلقت بما يمكن أن يتعلق به يجب أن تكون عامة التعلق فمتى قدر فيها التخصيص تطرق إليها الجواز. والجواز يدل على الحدوث وقد قام الدليل على قدمها. وبيان ذلك أنا إذا كنا مثلا أن قدرته تتعلق ببعض المقدورات نظرنا في البعض الآخر, وقلنا: ما المانع أن تتعلق به؟ فان كان ذلك البعض محالا, فالمحال غير مقدور, وان كان ممكناً فكل ممكن يجوز أن تتعلق به بل يجب من حيث ذاتها فان نسبتها إلى الممكنات من حيث الاختراع على قضية واحدة وان امتنع من حيث هو العلم زاده في الوقوع.

 فان قيل: الممكنات مختلفة ولا يجب من القدرة على بعضها القدرة على سائرها وكذلك ساير الصفات بل يكون من صفة نفس القدرة القديمة أن لا تتعلق إلا بمقدور واحد. قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما أن ما من جنس من الممكنات المختلفة على زعمهم إلا وآحاده لا تتناهى وقد تعلقت القدرة بواحد من الآحاد فيلزم تعلقها بكل مماثل له, وما يماثله لا يتناهى, فقد تعلقت القدرة إذا بما لا يتناهى. وان زعم الخصم أنها لا تتعلق بما يماثله استحال أن يتعلق به, إذ ما جاز على احد المثلين جاز على الآخر, فيودي ما ذكره السائل إلى نفي تأثير القدرة فان من لا يقدر على احد المثلين لا يقدر على الآخر وتناهي الممكنات مع بقاء القدرة, والكل  [89ظ]  محال.

 والوجه الثاني أن يكون للباري تعالى من القدر ما لا يتناهى, لان المختلف من المقدور والمتماثل لا نهاية له وما لا يتناهى من الأعداد يستحيل أن يكون موجوداً سواء قدر وجوده جملة أو على التعاقب. ثم لا يصح اجتماع الأمثال منها في محل واحد. والعمدة ما قاله الأستاذ من أن التخصيص يطرق الجواز إلى الصفات وكل من تطرق إليه الجواز بوجه كان حادثاً. وهذا مع صحة كون الصفة صالحة للعموم. وقد تقدم الدليل على ذلك مستوعباً في حق كل صفة على الخصوص في شرح الاعتقادات, وردنا هاهنا بيان الدليل الذي قاله الأستاذ فقط وبالله التوفيق.

                            [فصل في الدليل على التوحيد]

 ثم قال رحمه الله في الدليل الذي يليه: [والدليل على التوحيد أن الاثنين لا يخلوان من صحة المخالفة أو تعذر المنازعة[282] فان صحت المخالفة كان الممنوع من المراد موصوفاً بالقهر وان تعذرت المنازعة وصف كل واحد منهما[283] بالنقص[284] والعجز وذلك يمنع من الإلهية[285] فيهما جميعا] ومعنى ذلك انه رضي الله عنه ما أراد بالمخالفة أن يكونا مختلفين بالحد والحقيقة, فإنهما لو اختلفا بالحد والحقيقة لن يكونا جميعا إلهين بل أحدهما, وهو من وجدت فيه صفات الإلهية. وإنما أراد الاختلاف في الإدارة. وصورة صحة المخالفة أن يريد احدهما حركة جسم ويريد الآخر سكونه فيوجد مراد احدهما دون الآخر. وصورة تعذر المنازعة انه لا يوجد مراد واحد منهما.

 وكان من حقه رضي الله عنه أن يقول في تقسيمه أن الاثنين لا يخلوان من صحة المخالفة أو صحة الموافقة أو تعذر المنازعة, لكنه لما علم أن دلالة التمانع لا تنبني إلا على صحة المخالفة وان تقديرها ممكن وتقدير الموافقة محال تركه لذلك. ووجهه كون الموافقة محالا وتقدير المخالفة جائزاً انه لا يخلوا إما أن يكونا لم يزالا متفقين وإما أن يكونا لم يزالا مختلفين وإما أن يكونا مختلفين ثم اتفقا أو متفقين ثم اختلفا. فان كانا لم يزالا مختلفين استحال اتفاقهما إلا بِطرو حادث أو قلب حقيقة, وإله لا يكون حادثاً ولا يطرأ عليه ما يدل على الحدوث. وذلك من حيث أن الاختلاف إما أن يكون للنفس أو لمعنى قائم لكل واحد منهما. فان كان للنفس استحال أن يقدر الاتفاق فان في تقديره قلب حقيقة النفس. وان كان لمعنى لم يخل إما أن يكون قديما فيستحيل عدمه أو حادثاً فيستحيل قيامه به. وان كانا مختلفين ثم اتفقا تغيرا على هذا التقدير المذكور إما للنفس وإما للمعنى, وكذلك إن كانا متفقين ثم اختلفا.  [90و]  وان كانا لم يزالا متفقين فلا يخلو إما أن يتفقا على أن يفعل كل واحد منهما فعل الآخر وهو محال, إذ  الفعل الواحد لا تتعلق به قدرتين, وإما أن يتفقا على يفعل كل واحد منهما فعلا غير فعل الآخر وهو محال, لان كل واحد منهما إذا استبد بمقدوره واخترعه خرج عن كونه مقدوراً للآخر في حال فعله له. وذلك يقضي بعجز كل واحد منهما عما فعله الآخر. وإذا عجز كل واحد منهما عن مقدور الآخر مع كونه مثلا لمقدوره صح عجزه عن مقدوره وهذا محال.

 ولذلك قال الاستاد رحمه الله في الجامع الجلي في باب التوحيد: لا اله إلا الله وللطريق إلى المعرفة بها مراتب: احدها أن يعلم أن ما توهم حدوثه وصح عن أو لكونه[286] ولم يكن مقدوراً لحي بعينه وجب نقصه[287] أو عجزه. والثانية أن كل ما صح انفراد القادر به ثم سلب وصفه لوجود غيره معه كان نقصه[288] أو عجزه. ولو لم يوجد معه كان كاملا في أوصافه. والثالثة أن كل ما لا يصح حدوثه في نفسه استحال وصف القادر بالقدرة عليه. الرابعة أن ما أوجب النقص[289] والنهاية في الذات أو الصفات منع الإلهية وأبطل حكم  الربوبية.

 اعترض المخالفون على دلالة التمانع بسبعة أشياء كلها شبه لا حقيقية لها. احدها قولهم إذا جاز عندكم وجود قديمين أحدهما قادر والآخر مما تستحيل هذه الصفة عليه يريدون به الصفات فما المانع من جواز الهين قديمين, وان كان أحدهما ناقصاً في القدرة فليس النقص في القدرة بأتم من السلب.

 والجواب أنا لم ننكر إثبات قديمين أحدهما يقوم بالآخر, وإنما أنكرنا إثبات موجودين قائمين بأنفسهما قديمين حيين عالمين قادرين إلهين, ولا يصح كونهما الهين مع النقص في القدرة لأنه يوجب النهاية في الصفات. وذلك يوجب الحدوث, وقديم عاجز أيضا محال, لأنه لا ضرورة في وجوده و لا في عدمه. وهذا حكم الجائز فليتحقق بالجائزات. والجائز لا يكون قديماً, فان الحكم بالجواز والقدم متناقض. ثم انه إن كان قديماً وكان عاجزاً بعجز قديم أدي إلى إمكان الفعل أذلا والعجز مانع منه, وان كان حادثا كان محلا للحوادث وتغير والقديم لا يتغير.

 الثانية قولهم إذا زعمتم أن الإرادة من الصفات الذات وأنها توافق العلم فلو ثبت إلهان لاستويا في المعلوم, وإذا استويا في المعلوم وجب استوائهما, [90ظ] وهما في الإرادة فلا يصح تقدير الاختلاف. والجواب: أن الاستدلال لا يصح بالاختلاف في الإرادة والاتفاق على القطع, وإنما يصح الاستدلال بان يقال: لو أراد أحدهما خلاف ما أراد الآخر كيف كان يكون حكمهما في القدرة. وهذه الصفة معتبرة في الواحد بان يقال: لو أراد خلاف ما هو مريد له هل كان قادرا عليه. فلو لم يصح وصفه بالقدرة لوجب إبطال الربوبية. وإذا اعتبر هذا في الواحد مع المساوات في العلم والإرادة اعتبر في الاثنين, ويخرج منه النقص والعجز وقد بينا وجه فساد الاتفاق في الإرادة وكونه يؤدي إلى النقص والعجز.

 الثالثة قولهم أن الجمع بين الضدين محال من الواحد على الانفراد وكذلك مع الاثنين فلا يتصوران يريد أحدهما حركة جسم ويريد الآخر سكونه, فانه يؤدي إلى اجتماع الضدين وهو محال. فلا يتصور به نقص إذا لم يحصل ولا يتصور أن يكون مراداً اجتماع الضدين. والجواب: أن اجتماع الضدين محال لذاته ولا يختلف بالواحد والاثنين. ولو انفرد أحدهما بالوجود والقدرة لصح منه سكون الجسم, ولو انفرد الآخر لصح منه حركته, ولو انفرد كل منهما لم يصح منه على الاجتماع صح أن الموجب للنقص والعجز الاجتماع.

 الرابعة قولهم القدرة تستحيل مع المنع مع المقدور ولا يجب به النقص والعجز كما لا يجب ذلك في نفي القدرة علي خلق القديم. قلنا: هذا فاسد فانا لم نرد بالمنع إلا مما يمكن أن يكون, وأما المنع من غير الممكن فلا يصح أن يطلق عليه اسم المنع إلا تجوزا. و ما ذكرناه مما يتوهم حدوثه. وإنما منع منه الجمع.

 الخامسة قولهم من  حكم القدرة عندكم أن تقارن المقدور على الوجوب فيسقط تقدير امتناع وقوع المراد. قلنا: هذا في القدرة الحادثة لاستحالة بقائها لا في القدرة القديمة التي يجب بقاؤها.

 السادسة قالوا: إذا جوّزتم مقدورين قادرين فما المانع من إثبات الهين. قلنا: ما ذكرتموه لا يلزم من وجهين: أحدهما أن احد القادرين مخترع والثاني مكتسب لما يخترعه المخترع ولا تأثير للقدرة الحادثه, فلا استحالة فيه وانما الاستحالة في ثبوت موجودين قادرين مخترعين. والثاني أن كل واحد من القديمين المفروضين يجوز انفراده بمقدوره. [91و]  ولا يجوز ذلك في المكتسب, هذا إذا سلم كونه قادرا.

 السابعة قولهم من حكم الصفة القديمة أن يعم تعلقها. والإرادة قديمة عندكم فينبغي أن يعم تعلقها كالعلم والقدرة فلا يخلص لذلك احدهما لمراد دون الثاني. والجواب: أنا لا نقول أن الإرادة القديمة تتعلق بكل ما يصح أن يكون, فان ذلك محال بل تتعلق إرادته بحدوث الحوادث فلا يحدث حادث إلا عن مشيئته. والجامع بين العلم والإرادة والقدرة بل لكل صفة حكمها, ثم ليس عموم تعلق الصفات لقدمها, ثم تنتقض عليهم بالقدرة فان الباري عندهم قادر بنفسه ولا يصح منه فعل أفعال الحيوانات.

 واعلم أن دلالة التمانع تنبني على مقدمات ثمانية: أولها جواز الاختلاف, والدليل عليه انه لو قدر على الانفراد جواز الحركة من أحدهما لما استحال. ثم نقول: امتناع تقدير الاختلاف إما أن يكون لذاته فتكون الموافقة ضرورية وقد أبطلناها, وإما لزائد وكل زائد يفرض يجوز تقدير خلافه.

 الثانية اتحاد المحل والوقت, إذ لا تضاد بين محلين. الثالثة ثبوت الإرادة لكل واحد مع اتحاد المحل والزمن و التناقض في المراد, فانه لو أراد أحدهما مراداً ووافقه الآخر أو لم يرده ولا ضده ولا كرهه أو ذهل عنه لم يتصور فيه منع فان المنع يتعلق بمانع كتعلقه بممنوع.

 وقال القاضي رحمه الله: لو قلت صفة الممنوع إنما تفتقر إلى مخصص إرادته مع امتناع مراده ولا تفتقر إلى كون فاعل المنع مريداً لم أكن مبعداً.

الرابعة اشترط كون كل واحد منهما مختصاً بحكم إرادته تحقيقاً على وجه يصح الاختصاص عليه. وهو اختصاص القيام به. ولعدم هذا الشرط عند المعتزلة لا تستقيم دلالة التمانع على مذهبهم, وسوا منهم من قال: بإرادة حادثة ومن لم يقل بها.

 الخامسة المصير إلى إرادة كل واحد منهما لا توجب المراد, وكذلك قدرته. وليس المراد بالإيجاب المنفي إيجاب العلة معلولها, وإنما المراد به وجوب المراد والمقدور مع القدرة والإرادة لا محالة. والمقدمة السادسة أن تجويز المنع كالواقع في دلالته على ضعف الممنوع. واعترض على هذا بخلاف المعلوم فانه جائز غير واقع وكذلك اختلاف القديمين جائز غير واقع. ولو وقع لكان اتفاقاً ولم يكن اختلافاً. والجواب: أن المخترع الواحد يدل اختراعه للفعل على علمه به ومحال تقديره [91ظ]  غير معلوم له. ولا يستحيل من القديمين أن يريد أحدهما ما هو مكروو للآخر: وجواب آخر: أنه لو قدر خروج أهل النار لكان هو المعلوم السابق في العلم وهو جائز لا محالة. ومحال أن يقال: لو قدر وقوع اختلاف المختلفين لكان اتفاقاً إذ الاختلاف لا يصح كونه اتفاقاً بحال لان ذلك قلب للأعيان.

 والسابعة العلم بان التمانع إنما يرجع إلى الأفعال المتضادة دون ذاتي القديمين وصفاتهما, إذ لا تأثير لذات احدهما في الآخر ولا لصفة من صفاته. ولو قدرنا اتفاقهما لكان الأمر كذلك أيضاً. وذلك يوضح المراد. فإذا اتضح ذلك بنِي على هذه القاعدة انه لا يتصور على أصول أهل الحق وجود المنع من كل واحد من القديمين حتى يكونا متمانعين, إذ وضح أن المنعين هما الضدان ولا يتصور وجودهما.

 والثامنة أن من لم ينفرد بمراده مع قصده إلى تنفيِذه كان ذلك دليلا على ضعفه. وذلك معلوم ضرورة.

 ثم قال رض الله عنه: [والدليل على انه شيء واحد كالدليل على انه اله واحد] ومعنى ذلك انه لو زاد على الشيء الواحد لكان لا يخلو كل جزء منه أن يكون حياً عالماً قادراً مريداً فيؤدي إلى التمانع, أو يكون كل جزء منه غير حي فيكون جماداً, أو بعضه حياً وبعضه ليس بحي فيكون مُؤلفاً من جماد وحي, أو بعضه قادراً وبعضه غي قادر فيكون القادر هو اله والآخر ليس باله وقد تقدم تحقيق هذه الدلالة في الدليل على استحالة كونه تعالى جسما فأغنى ذلك عن إعادته.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على استحالة الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والمحاذات والمقابلة والمماسة والمجاورة أن الوصف له بأحد هذه المعاني بعد الوصف له بضده يوجب حدوث معنى فيه, ثم يستحيل تعريه عنه وعن ضده ولم يجز تقدمه على جنسه] ومعنى ذلك انه لما استحال كونه تعالى جوهراً وجسماً وكانت هذه الصفات من صفات الأجسام ملازمة لها لا على الجمع وكانت لا تقع إلا حادثة. وكانت هي الدالة على حدوث الأجسام والجوهر دون سائر الصفات استحال وصفه تعالى بها من وجهين: الوجه الواحد أنها لا تقوم إلا بالأجسام والجواهر, والباري تعالى ليس بجوهر ولا جسم. والوجه الآخر أنها تدل على حدث من قامت به, وقد قام الدليل على أن الباري تعالى قديم. ولذلك قال الأستاذ رحمه الله في تمام هذا الدليل: أن الوصف له بأحد هذه المعاني بعد الوصف بضده يوجب حدوث معنى فيه يستحيل تعريه عنه وعن ضده. ومعناه انه لا يكون بأحد هذه المعاني إلا بعد الوصف بضده لا من جازت عليه الحركة جاز عليه السكون, ومن جاز عليه [92و]  الاجتماع جاز عليه الافتراق, ومن جازت عليه المماسة وجبت له النهاية, وكذلك من جازت عليه المجاورة ومن جازت عليه المقابلة جازت عليه المدابرة, ومن جازت عليه المحاذات جازت عليه الملاصقة. وهذه الصفات لا تتصور أن تكون قديمة أصلا وقد بينا ذلك في شرح الاعتقادات ثم لا يخلو إما أن يكون من صفة نفسه تعالى إذ لا يقبل هذه الصفات أو من صفة نفسه أن يقبلها في وقت دون وقت[290]. فان كان من صفة نفسه أن لا يقبلها استحال خروجه عن صفة نفسه واستحال أن يقبلها ما دامت نفسه موجودة ويستحيل عدم القديم أو تغيره. وإن كان من صفة نفسه أن يقبلها استحال أن يخلو عنها أو ضدها وقد قام الدليل على حدثها وما لا يخلو عن الحوادث حادث. ولذلك قال الاستاذ رحمه الله في هذا الدليل: ولم يجز تقدمه على جنسه. معناه انه يكون من جملة الحوادث فلا يصح أن يكون فاعلا. وفيه نفي الحوادث ونفيه وذلك محال. فما ودي إليه أمحل. وان كان من صفة نفسه أن يقبلها في وقت دون وقت كان محالا, إذ ما كان الوصف به للنفس استحال أن يتغير, فانه قبل أن يقبلها ان كان لنفسه امتنع عنها في ذلك الوقت فيستحيل خروجه عن صفة نفسه في الوقت الثاني, وان كان إنما امتنع عنها لمانع فالمانع إن كان قديماً استحال عدمه وان كان حادثاً فالكلام إنما هو مقرر قبل الحوادث ويلزم منه أن تكون فيه قوتان: قوة القبول وقوة العدم. وهذه صفة الجوهر والأجسام, تعالى الله عن ذلك.

 ثم قال رض الله عنه: [والدليل على استحالة قيام شيء حادث به أن حدوثه فيه يوجب نفى ضد له قبله وهذا كالأول في فساده] اعلم أن هذه الدلالة جارية مجري التي قبلها فانه إذا استحال قبوله للحوادث المتقدمة استحال قبوله لكل حادث. فانه إنما امتنع قبوله للحوادث لكونها حادثة والحدوث والقدم يتقابلان في الشيء الواحد تقابل النفي والإثبات ولا فرق بين أن يكون ذلك الحادث حركة أو سكوناً أو علماً أو قدرة أو إرادة. ثم الحادث الصادر إما أن يصدر منه أو يصدر من غيره. فان صدر من غيره منع منه دليل التوحيد إذ يصير مفعولا فيه فلا يكون إلهاً, وان صدر منه فلا يخلو إما أن يكون في ذاته وصفاته قبل أن يوجده [92ظ]  مستغنيا فلا يوجد في ذاته أو محتاجاً إليه فلا يصح فعله منه أبداً. وقد بينا ذلك في ما تقدم.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على استحالة بطلان الوصف الأزلي[291] عنه انه استحق الوصف بالبقاء في كل حال صحت الإشارة إليه, ويستحيل عدمه لوجود ضده كما يستحيل وجود ضده معه] معناه أن الباري سبحانه لما كان قديماً لم يزل, كان باقياً لا يزال. وما من وقت يفرض إلا وهو واجب البقاء فيه لأنه لو قدر عدمه لأدى إلى وجوه من المحالات: احدها انقلاب الممكن محالا. بيانه أن كل حادث قد كان قبل حدوثه ممكنا حدوثه والممكن لا يحصل إلا بمرجح والمرجح لابد أن يكون قديماً فإذا قدر عدمه لم يبق لوقوع الممكنات مستند فيعود الممكن محالا. الثاني أن ما كان واجب الوجود لذاته أي لا علة له ولا فاعل استحال أن يكون جائز العدم, إذ العقل لا يقضي به ضرورة والجمع بينهما ومحال. الثالث انه إن انعدم لنفسه استحال أن يكون موجوداً و قد فرض موجوداً فهو خلف. وان انعدم بمعمد فاستحال أن يكون قديماً. ثم يلزم منه أن يكون فيه قوة الوجود والعدم. والأستاذ رحمه الله بنى الدليل على مذهبه وهو أن الباقي باق ببقاء ويستحيل أن يكون بقائه حادثاً فلا بد أن يكون قديماً. ويستحيل عدم القديم لا بالضد إذ لا ضد للقديم. ولو قدر له ضد لاستحال أن يعدمه كما يستحيل أن يوجد معه, ولا بالقدرة إذ لا تتعلق بالعدم ولا بالعلة إذ لا علة للقديم, ولا بالشرط إذ يستحيل أن يكون وجود القديم مشروطاً لا بالشرط قديم ولا بالشرط حادث. والحق ما قدمناه انه كما لا علة لوجوده لا علة لبقائه. فهو باق لنفسه كما انه موجود لنفسه. فقد تقدم بيان ذلك.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على انه قائم بنفسه أن خلاف وصفه به] يعني بالقيام بالنفس [يوجب احد أوصاف ثلاثة: إما أن يكون كالقائم بما لا يقال انه نفسه, فيستحيل كونه حياً عالماً قادراً[292] أو تعلقه في وجوده وبقدرة[293] فيكون مخلوقا أو تعلقه بقدرة من يحدث له معنى يجانسه أو يخالفه, وذلك يوجب مقارنة الفعل له] ومعنى ذلك أن القائم بنفسه عند الأستاذ هو المستغنى عن المحل والفاعل. وقد قدمنا بيان ذلك فكأنه يقول لو قدرنا تقديراً أن الباري تعالى قد غير قائم بنفسه لأدى ذلك إلى محال, وكل ما يؤدي إلى المحال فهو محال. [93و]

 والمحال الذي يؤدي إليه يقع في كل تقدير يقدره. وجملة التقديرات ثلاثة لا زائد عليها: إما أن يكون بمنزلة الصفات وهو الذي أراد بقوله "إما أن يكون كالقائم بما لا يقال انه نفسه" واحترز بقوله أن نفسه عن صفات القديم تعالى لما كان هذا الوصف يعم صفات القديم وصفات الحادث. فانه لو قال: كالقائم لغيره لخرج منه صفات الله تعالى فإنها ليست غيره ولاهي هو, وهو دخلا عظيم فيقال له: أنت قد دللت على استحالة هذا القسم وهو انه ليس كالقائم بغيره فما الدليل على انه ليس كالقائم بما لا يقال انه نفسه. وليس له أن يقول أن قولي كالقائم بغيره يتضمن ذلك, فانه نقض لأصله. والمحال الذي يلزم من هذا التقدير وهو كونه بمعنى الصفة نفي الأفعال, فان الأفعال لا تصح إلا من حي عالم قادر مريد والصفات لا توصف بصفات المعاني بل هي مفتقرة إلى ذات تقوم بها إن كانت قديمة. وان كانت حادثه ازداد محال آخر وهو افتقارها إلى من يوجدها وهو الذي أراد بقوله رحمه الله "اما أن يكون كالقائم بما لا يقال انه نفسه فيستحيل كونه حياً عالماً قادراً".

 والتقدير الثاني أن يكون بمنزلة الموصوفات التي تحتاج إلى من يوجد ذاتها والى صفات يصح بها بقائها ويكمل كالجواهر. وهذا القسم اشتمل على قسمين من الحاجة[294] إلى الموجود والحاجة إلى من هو يحدث له البقاء. وهو في الحقيقة راجع إلى الحاجة إلى الفاعل. والمحال الذي يودي إليه القسم الأول من هذا القسم هو الحدوث لأنه إن افتقر إليه في وجوده لزم كونه مخلوقاً وهو الذي أراد بقوله "أو تعلقه في وجوده بقدرةٍ فيكون مخلوقاً". والمحال الذي يؤدي إليه القسم الثاني منه هو مقارنة الحوادث. وما قارن الحادث حادث. وهو الذي أراد بقوله: "أو تعلقه في وجوده بقدرة من يحدث له معنى يجانسه أو يخالفه". وذلك يوجب مقارنة الفعل له. وهذا القسم راجع إلى الأول كما ذكرنا وإنما ذكره رحمه الله على جهة البيان والإيضاح, ولم يرد به غرض القسمة.

ووجهه أن أصله في القائم بنفسه ما ذكرناه وهو المستغني عن المحل والفاعل, وفي مقابلته الغير قائم بنفسه وهو المحتاج إلى المحل والفاعل. فالمفتقر إلى المحل كالصفة وهو القسم الأول. والمفتقر إلى الفاعل إما أن يكون مفتقر إليه في وجوده وهو القسم [93ظ] الثاني. وأما أن يكون مفتقراً إليه لحدوث معنى لا يصح حصول وجوده واستمراره إلا به وهو القسم الثالث. وهو داخل في الاحتياج إلي الفاعل. ولو اقتصر على قوله معنى ولم يذكر يجانسه أو يخلافه لكان كافياً, لكن ذكره جهة البيان ولم يذكر الضد لوجهين: أحدهما أن حصول الوجود ودوامه لا يتصور مع الضد. والثاني انه لو تصور على تقدير محال لاستغنى بذكر الخلاف عن ذكر الضد, لان الضد خلاف. وقوله معنى ليس المراد به العرض فقط بل يريد كل ما يتوهم حدوثه صفة كان أو موصوفاً. وهذا غير بعيد في المخاطبات, اذ يقال معنى هذا الأمر كذا أو لا معنى لهذا الكلام.

 وبيان ذلك أن الجوهر يحتاج إلى العرض. والعرض معنى يخالفه ولا يجانسه. وبعض الجواهر يفتقر الى المكان عادة لا عقلا, والمكان جواهر مثلها وليست الجواهر بمعان. فلا بد من التأويل وقد يريد معنى يجانس ما كان فيه من المعاني أو يخالفه.

                     [فصل في الدليل على جواز رؤية الله تعالى]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على جواز الرؤية عليه أن استحالتها توجب عدمه] اعلم أن هذا الدليل مبني على أصله وهو أن كل موجود يجوز أن يرى. والرؤية نوع من العلم يتعلق بالموجود. وإذا استحال التعلق الرؤية به استحال العلم به. ولا بد لكل موجود من أمر محقق العلم به. والباري لا يتحقق العلم به من الوجه الذي يتحقق به العلم المتحيز أو الحال في المتميز. وإنما يتحقق بضرب من الإدراك وهو العلم أو الرؤية. وإذا استحال عليه الأمران استحال له الكون وكان بمنزلة المعدوم الذي لا حقيقة له. وإنما يعلم بالإضافة إلى الموجود. وما ذكره لا يلزم. ولا تقاس الرؤية على العلم إذ لا قياس في العقليات فان الخصم لا ينكر وجود العلم فيحيل[295] رؤيته وجوازها.

                  [فصل في الدليل على استحالة الزوجة وولد عليه]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على استحال الزوجة والولد أن جميعه لا يصح إلا مع المباشرة, ولا تصح المباشرة إلا من ذي حد و الحد يدل على الحدوث] ومعنى ذلك أن المعلوم من الزوجة والولد أنهما أجسام, وان الزوجة تقتضي الاتصال و الزوج كذلك وهو المتصل به. ومن اتصل بك اتصلت به. والولد يقتضي الانفصال والوالد هو المنفصل عنه. ومن انفصلت عنه انفصل عنك ومن انتفت عنه الجوهرية والجسمية انتفت[296] [94و] عنه عوارضها وهو الاتصال والانفصال. ومن انتفى عنه الاتصال والانفصال انتفت عنه الزوجة والولد.

ووجيه دلالة هذا الدليل أن كل أمر يودي إلى المحال فهو محال. والزوجة والولد يوديان إلى المماسة, والمماسة لا تكون لا بين الأجسام. والجسمية تودي إلى التناهي والتناهي يدل على الجواز والجواز يدل على الحدوث, إذ كل من يتطرق إليه الجواز حادث. والزوجة والولد إذاً محال.

                           [فصل في الدليل على استحالة الشريك له]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على استحالة الشريك له أن الشركة لا تكون إلا في أشياء تختص كل واحد من الشريكين ببعضها يتبين[297] ذلك عند التمييز, ولا شيء يملك إلا و جميعه لله سبحانه] أراد بهذا الدليل نفي الشركة الملك و إلا فدليل التوحيد يغني عن ذلك وقد بينا معنى الشركة في شرح هذا الفصل.

 ووجه دلالة هذا الدليل أن الشركة في الأموال لا تصح إلا بعد اختصاص كل شريك بملك ما به وقعت المشاركة بينه وبين شريكه إما عينا و إما قيمة. وذلك بتملك الله إياه ذلك لا بقدرته. فانه لو ملكه بقدرته لكان شريكا بالفعل ويمنع منه دليل التمانع. وما خرج عن ذلك فليس بشركة والملك مترتب على القدرة ولا قادر على الحقيقة إلا الله فلا مالك إلا الله. وإذا كان لا مالك إلا الله ارتفعت الشركة فكيف ما دارت الأملاك في يد الملاك بتمليك الله إياهم فملكه باق بحاله. ويستحيل من العبد أن يملك إلا بتمليك سيده مع أن له تصرفا كتصرف سيده, فكيف الخالق والمخلوق تعالى الله عن ذلك. وكيف يملك استحقاقا من يملك نعوذ بالله أن يكون لله شريك في ملكه. وعلى الجملة الشركة في الملك تودي إلى تناهي المقدورات وهو محال.

                             [فصل في الدليل على نفي الآفات عليه]

 ثم قال رحمه الله وهو الدليل على نفي الآفات عنه: [والدليل على نفي الآفات عنه أنها تمنع من المدركات] يريد إذا كان الموصوف بها حيا [وذلك يقتضي في وجوده مانعا و ممنوعا, وهو دليل الحدوث] هذا الدليل مبني على أن الآفة لا تكون إلا جائزة, فان الفعل لا يدل عليها. فإذا وجدت اقتضت فاعلا فعلها واقتضت موجوداً تقوم به وممنوعا منه تتعلق به. وذلك دليل الحدوث وقد بينا حقيقة الآفة وما في هذه الدلالة في دلالة السمع والبصر لكنا نقول زيادة في البيان: الآفة تكون عامة وخاصة فالآفة العامة كالموت ينفي الحياة. وإذا انتفت الحياة انتفت الصفات التي بها [94ظ] يتعلق الفعل وينتفي بانتفائها الفعل وهو محال. والآفة الخاصة ضد كل صفة على الخصوص غير الحياة. فان قدرت آفة تنافي العلم كان تقديرها محال من وجهين: لأنها إما أن تقدر حادثة أو قديمة. فان كانت حادثة استحال أن تنفى القديم فان القديم لا ينعدم, وفي نفي العلم أو القدرة أو الإرادة بآفة نفى الفعل وهو محال. وان قدرت قديمة كان محالا إذ لا بد لها من متعلق تتعلق به فتكون مانعة منه ولا يصح كون الفعل قديماً. وان قدرت منعا مما سيكون فلا يوجد فعل معها أبداً وقد وجد فهو خلف وقد بينا ذلك في شرح الاعتقادات فأغنى عن إعادته. وعلى الجملة الآفة لا يقضي بها العقل ضرورة ولا دليل عليها إذ لا دليل إلا الفعل. ومحال وجود الفعل معها أو وجود الإدراك فمن الذي خصصه بالآفة مع جواز أن يكون على خلافها. فان اختص بها لنفسه يبطل وجود العالم وحدوثه إذ لا يصح إلا بوجود موجود بِريِ من الآفات ويلزم عليه أن يكون الجماد إلهاً, ويختص بتلك الآفة لنفسه. وكذا كل موجود به آفة. وهذا من أمحل ما يتصور. ولا يلزم عليه اختصاصه تعالى بالصفات فان الفعل قد دل عليها وان لم يختص بها وفعلت فيه كان محدثاً.

                        [فصل في الدليل على قدرته على الإماتة والإعادة]

 ثم قال رض الله عنه: [والدليل على انه قادر على إماتة كل حي سواه انه خلق الحياة] يريد فهم [وقدرته على الشيء قدرة على ضده] وهذا الدليل مبني على أن قدرته تعالى تتعلق بالضدين على البدل كما تتعلق بالمثلين على البدل, وعلى أن قدرته تعالى واحدة وان لا قادر سواه, وعلى استحالة تناهي المقدورات. وقد قام الدليل على ذلك.

 ثم قال: [وهذا بعينه دليل على صحة الحياة بعد الموت[298]] يريد على خلق الحياة بعد الموت فان من قدر على شي قدر على ضده وقد ثبت انه خالق العالم بأسره, وفيه متماثلات ومختلفات ومتضادات.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على صحة[299] إفناء الأجسام أن البقاء فعل له فيها, فإذا لم يفعله وجب عدمها[300]] معناه أن بقاء الأجسام إنما هو يوجد عرض يخلقه الله فيها. وعند المتكلمين غيره بوجود الأعراض التي يستحيل خلق الجسم منها. فعيّن رحمه الله البقاء في المحدث كما عينه في القديم, ولم يعينه بعض أصحابه. فإذا أراد الله إعدام جسم قطع عنه مادة الأعراض التي يستحيل خلوه عنها وقطعها هو [95و] أن لا يفعلها في الزمن الثاني فيستحيل وجوده خالياً عنها. وإنما في بعض أصحابه من تعيين البقاء لأنه لو تعين لم يكن له ضد فيلزم وجوده في الزمن الأول.

 وقال الأستاذ: الحالة الأولى تنافي البقاء فيستحيل خلق البقاء فيها, وإنما يحتاج الجوهر إلى البقاء في الحالة الثانية من حيث أن وجوده في الزمن الثاني لا يخلو إما أن يكون واجباً فيجد في الثالث والرابع إلى ما لا نهاية له, وإما أن يكون مستحيلا فلا يصح وجوده وقد وجد فذلك خلف, وإما أن يكون جائزاً فلا بد من مقتض يقتضي له البقاء وإلا فليس بقاؤه بأولى من عدمه. وقد تكلمنا على هذا الفصل وشرحناه بما أمكن من الاعتقادات وبينا خلاف المعتزلة فيه ومذهبهم وأبطلناه فأغنى عن إعادته.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على إعادة الأجسام أن العدم بعد الوجود يوجب وصف الموجود بما كان عليه قبل الوجود] يريد أن الشيء المفعول إذا عدم عاد إلى ما كان عليه قبل أن يوجد وهو العدم كالثوب إذا خيط ثم عدم وهذا توسع في العبارة و إلا فما ثم شيء يعود عليه إلهاً.

 ثم قال رحمه الله: [ولم يمنع ذلك الحدوث, فكذلك بعد الوجود لم يزل على اختصاصه بالقدم بقاؤه على الوصف الذي كان عليه عند الاختراع] يعني أن العدم السابق لم يمنع حدوثه وكذلك العدم اللاحق لا يمنع حدوثه كما أن فتق الثوب لا يمنع من إعادته. وهذا الدليل مستخرج من كتاب الله سبحانه وهو قوله: "قل يحييها الذي أنشاها أول مرة"[301] وأراد بالإحياء هاهنا الإعادة, فاستدل بالنشأة  الأولى على الثانية.

ثم قال رض الله عنه وبه يتم الدليل: [ثم من لم تزل قدرته كان قادراً على إيجاده في كل حال كان معدوما قبله[302]] يريد انه إذا صح الجواز وصح أن القادر باق لم ينعدم وان قدرته باقية لم تنعدم وان الأوقات لا تأثير لها في المنع وقد ثبت جميع ذلك صح انه ما من وقت إلا ويجوز إعادة الأجسام فيه إذا أراد الله سبحانه إعادتها. وقد ذكرنا الإعادة وحقيقتها واختلاف الناس فيها في شرح هذا الاعتقاد بما أمكن فأغنى عن إعادته.

 فان قيل: لم قلتم أن الإعادة بمثابة النشأة الأولى. قلنا: لان كل حكم ثبت لشيء وجب ثبوته لمثله إذ من حكم المثلين استوائهما في الأحكام الجائزة والواجبة, ويستحيل ثبوت عرض أو جوهر مع القطع باستحالة مثله. فإذا كان هذا في المثلين فالإعادة بذلك أولى, فان المعاد عين المبتدأ. فإذا امتنع مباينة مثلين فلان يمتنع مباينة الشيء [95ظ]  نفسها أولا والمخترع ثانياً, عين المخترع أولا. ولا أثر للأوقات في النفي والإثبات إذ الجائزات لا تختلف باختلاف الأوقات إذ لا اثر للأوقات في الاختراع. فإذا جاز اتصاف الجواهر بسكون في وقت جاز ذلك في كل وقت.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على خلق الأجسام من غير نهاية ولا قصر[303] على حد[304] استحالة تناهي قدرة القديم وصحة توهم الحدوث في المثل] هذا الدليل مبني على استحالة  تناهي المقدورات. فان فيه تناهي القدرة بل عدمها وخروجها عن صفة نفسها وذلك محال, وعلى صحة توهم الحدوث في المثل. وذلك معلوم ضرورة فان وجد منه شي استحال أن لا يكون له مثل فمن وجد منه جوهر أو حركة أو سكون قضى العقل بجواز أمثالها مع بقاء كونه قادرا. وقد بينا ذلك في الدليل على إعادة الأجسام.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على إحياء ما يعيده ويخلقه أن المحل لا يخلو من احد[305] الضدين[306] على البدل[307] ولا يصح وجود وصف يقوم بحسم ليس له ضد] وهذا الدليل مبني على استحالة خلو الجواهر عن الأعراض وهو ما يفتقر إلى دليل. والدليل عليه انه لو خلا عنهما لم يخل خلوه من أن يكون لعينه, فيستحيل أن يقبله و قد قبله فهو خلف, وإما أن يكون لمانع اشتغلت ذاته به فلا يصح اجتماعه معه. فإذا لم يخل عن الضد وان قدر المانع هو الفاعل أي لم يفعل فيه ضد ولا مثل وهو محال, إذ الفاعل لا بد له من الفعل, والامتناع عن القبول ليس بفعل. وقوله "ولا يصح وجود وصف يقوم بجسم ليس له ضد" يريد بالضد هاهنا المثل أيضا, فانه ضد لمثله. والأمثال متضادة من حيث انه لا يصح اجتماعها, إذ في اجتماعها إبطال حكم احدها وهو محال.

 ثم قال رحمه الله: [فإذا وجد فيه احد الضدين بقدرة القادر التي تصلح للضدين صح الثاني منه] يريد إذا أراد القادر ذلك فمن أوجد الموت وكان قادرا على الحياة قدرته على الموت صح كل واحد منهما بالقصد على البدل. وقد قام الدليل على أن قدرة الباري تتعلق بالضدين على البدل, فقد صح الجواز واخبر الشرع  بإرادة الوقوع.

 ثم قال رضي الله عنه: [والدليل على وصفه في القدرة على كل ما يتوهم حدوثه استحالة تناهيه في قدرته والمنع منه يوجبه] ومعنى ذلك أن الباري تعالى إذا ثبت كونه قادرا على الضديين وعلى المثلين أن يوجدهما على البدل وعلى الخلافين أن يوجدهما على البدل [96و] أو على الجمع, وقد ثبت ذلك بالبرهان ثم توهم حدوث شيء منها إما جوهر وإما عرض, وقيل أن الباري لا يقدر عليه لزم منه تناهي القدرة. ومعنى تناهيها أنها صارت متعلقة ببعض المتعلقات بعد أن كانت عامة التعليق. وفيه أيضا خروجها عن صفة نفسها بل وفيه انه لا يصح أن تكون متعلقة بشيء من ذلك الجنس. وكل أمر يؤدي إلى المحال فهو محال. فخروج بعض الممكنات أن تتعلق بها القدرة الحادثة. وفيه تخصيص القديم أو وجود قدر لا نهاية لها. وهو محال فان فيه دخول ما لا يتناهى في الوجود.

   [فصل في الدليل على جواز بعثة الرسل وتنزيل الكتب وإقامة الحجج والثواب والعقاب]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على جواز بعثة الرسل وتنزيل الكتب و إقامة الحج وتعبد الخلق والثواب والعقاب أن جميعه مما يتوهم حدوثه, وسلب القدرة عليه يوجب التناهي في الوصف] هذا الدليل مبني على أن بعثة الرسل وتنزيل الكتب إلى آخر ما قاله من الجائزاتِ.

 واعلم انه لا يكون الجائز جائزا بالتوهم بل بالدليل. ولم يرد رحمه الله بالتوهم إلا انه عقل في نفسه ولم يكن محالا لذاته الذي لا يتوهم كالجمع بين الضدين. والدليل عليه أعني على صحة الجواز في هذه الأشياء الذي ذكر أن يرد إلى أمثاله وأشكاله. وقد بينا وجه كون جميع ما ذكر في هذا الفصل من الجائزات في شرح الاعتقادات. وإذا ثبت كونه من الجائزات فخروجه عن المقدور يؤدي إلى تناهي القدرة كما ذكر.

                    [فصل في الدليل على زوال الاعتراض عليه]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على زوال الاعتراض عنه فيما يفعله أن ذلك لا يتوهم إلا فيمن يصح عليه الألم باللوم وفيه إيجابه, يستحيل ذلك في القديم سبحانه] ومعنى ذلك أن قد ثبت عقلا أن الباري تعالى لا تضره المعصية ولا تسره الطاعة ولا يدركه ألم ولا لذة. وفائدة الاعتراض ومقصوده بين العقلاء الردع والزجر على أمر يعلمون أن فيه ضررا أو يتوهمون ذلك فيه بشرط أن يكون صاحبه أعنى فاعله جاهلا بعواقب الأمور أو عابثاَ فيقال لفاعله: لما فعلت كذا دون أن تفعل كذا. ثم لا يعترضون على الجمادات و لا على غير العقلاء ولا على من لا يكترث بالاعتراض و لا يتألم به ولا على من هو أعلم منهم بعواقب الأمور. فإذا جوز مجوز الاعتراض على القديم فيما يفعله لو أوجبه قد جوز عليه الألم والجهل بعواقب الأمور. والجائز كالواقع وقد تقدم شرح هذا الفصل.

                    [فصل في الدليل على استحالة وجوب الشيء عليه]

 ثم قال رضي الله عنه: [96ظ] [والدليل على استحالة وجوب الشيء عليه صحة الترك في القدرة ولو كان وصفه الوجوب لكان عدمه في تلك الحال يوجب الحدوث, ولا يصح وصف إله به ولا بالقدرة عليه] ومعنى ذلك أن الترك هو أن لا يفعل. وما لا يفعله القديم ولا يكون منه ثلاثة اضرب: ضرب لا يفعله لاستحالته وهو كل محال لذاته كاجتماع الضدين فلا يقال في هذا الضرب انه تارك له لأنه لا يصح فعله ولو صح فعله لصح تركه. وضرب علم الله انه لا يفعله وهو مما يجوز فعله ولا ضد له يفعل بدلا منه كالأجسام والبقاء على قول من قال به الذين لا ضد لهما فلا يوصف هذا بأنه يفعل ولا بأنه يترك. والضرب الثالث شيء علم الله انه لا يفعله وله ضد فإذا لم يفعله مع صحة فعله فلا بد أن يفعل ضده الذي هو تركه. فيجوز أن لا يفعل البياض والحياة مثلا الذي علم انه لا يفعلهما مع وجود محلهما فلا بد أن يفعل ضدهما من الموت والسواد أو غيره من الأضداد. وذلك راجع إلى استحالة خلق المحل عن الشيء وضده أو مثله فإذا تقرر هذا فالترك على هذا الاصطلاح هو الفعل الواقع ممن يصح منه إيقاع ضده بدلا من إيقاعه, وهذا في القديم, وأما في الحادث فهو الفعل الواقع ممن يصح منه إيقاع مثله ولا تتعلق القدرة بان لا يكون الفعل فعلا ولا المحدث محدثا, فيستحيل الحكم بوجوب شيء على الله إذ لو وجب عليه شيء وكان قادرا على فعل ضد ذلك الواجب وهو الترك له لأدى ذلك إلى حدوثه من حيث أن التارك ما يجب عليه مع كون الوجوب وصفاً ذاتياً له خارج عن حقيقته في وصف الواجب الذي تقتضيه الحكمة فاعل لما يستحق به الوصف بالسفه, والسفه الجهل, والجاهل لا يكون قديما بالاتفاق. فإذاً القول بوجوب الفعل على الله سبحانه مع اتصافه بالقدرة على تركه وفعله لضده يقتضي أن يكون موصوفاً بالقدرة على أن يفعل ما يدل على حدثه. وذلك محال في الوصف والمعنى. وكل ما استحال كونه لم يجز وصف إله به ولا بالقدرة عليه ولا على ما يؤدي عليه.

 وبيان ما ذكرناه أن تعذيب الكافر واجب على الله عند المعتزلة. وهو محال لأنه قادر على ترك تعذيبهم ولأنه تارك لتعذيبهم بفعل ضده وهو التنعيم, فقد ترك الواجب عليه. وأنا أقول: من كانت حقيقته الوجوب استحال [97و]  أن يخرج عن حقيقته إلا بإبطالها وفيه عدمه أو عدم صفة اقتضت له الوجوب فيلتحق بالجائزات. وكل أمر قاد إلى هذا المحال فهو محال.

 وزعمت المعتزلة أن الترك عبارة عن الإعراض عن الفعل وقطعه من غير تعرض لإثبات موجود فهو ترك. وتفسيره أن يخلو الحي القادر عن فعل شيء من مقدوراته. وهذا ذكره أبو هاشم وسمته المعتزلة الذي بإبداع هذا المذهب من حيث أوجب الذم على من لا فعل له فانه خلاف وأصولهم.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على أن المعجزات تختص بالصادق[308] ما تقرر في الوهم من صحة التفرقة بين الصادق والكاذب من جهة الدليل وفي إظهارها على يد الكاذب[309] إفساد الأدلة ونقض ما تقرر من جهة[310] التفرقة بين الصادق والكاذب] ومعنى ذلك أن الله تعالى قادر على التفرقة بين الصادق والكاذب من جهة الدلالة بأن يخلق دليلا يدل على الصدق كما هو قادر عليه من جهة الضرورة فلو أظهرها على يد الكاذب أعنى الدلالة لم يكن لنا طريق ولا دليل إلى معرفة كونه قادرا على التفرقة بينهما, والتفرقة ممكنة.وكل ما ودي إلى انقلاب الممكن محال فهو محال وظهورها المعجزة على يد الكاذب يؤدي إلى انقلاب الممكن محالا, فهو إذاً محال.

 فان قيل: بم تنكرون على من يزعم من البراهمة أن دليل الصدق غير ممكن. وليس هو من قبيل المقدرورات. قلنا: هذا لا يستمر لهم فانه لا سبيل لهم إلى معرفة إله إلا بالنظر والدليل مع اتفاقنا على انه تعالى قادر على أن يعرفنا نفسه ضرورة. وما جاز العلم به اضطرارا جاز العلم به استدلالا, وبالعكس. وكما لا يمتنع إقامة الدلالة على إلهية لا يمتنع إقامة الدليل على صدق الرسول.

                       [فصل في الدليل على نفي الوجوب قبل الرسالة]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على نفي الوجوب قبل الرسالة صحة كون إله موجبا للشيء تعبدا به[311] أو مانعاَ منه استغناء, وليس في العقل ما يوجب تقديم[312] احد الأمرين] ومعنى ذلك انه إذا استحال الوجوب على الله سبحانه واستحال أن يقبل الضر والنفع, وكانت الطاعة والمعصية في حقه سيان جاز أن يأمر بالعبادة تعبدا, فانه المالك وجاز أن لا يأمر بها لكونه مستغنيا عنها. وليس للعقل دليل يستدل به على إيجاب العبادة دون إسقاطها إلا يقول الرسول, ولا رسول أو بالضرورة أعنى ضرورة العقل ولا ضرورة أو استشعار العقوبة. ويجوز إسقاطها مع [97ظ]  الغناء عنها. واستشعار العقوبة أيضا في الإيجاب ونقيضه على حد سواء. وقد شرحنا هذا الفصل في الاعتقادات بما أمكن.

                             [فصل في الدليل على المعجزات]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على صحة ما كان معهم من المعجزات أنهم أظهروا أشياء ادعوا بها صدقهم, واجتهد أعداؤهم في معارضتهم فلم يتأت لهم ذلك[313]] ومعنى ذلك أنه ما من نبي ورد برسالة وادعاها إلا وطولب بصدق دعواه. فاظهر أشياء وهي معجزات الدالة على صدقه وقد ذكرنا المعجزات وشرائطها. ووجه دلالتها واختلاف الناس فيها في شرط الاعتقادات لكنه اعتمدها هنا على أن الذي يدل على صحة المعجزة عدم المعارضة مع الجد في ذلك من أهل العداوة العارفين في تلك الصنعة القاصدين لإطفاء ناره.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على صدق الرسل تخصيص كل بمعجزة] هذا الدليل مبني على أن المعجزة لا تظهر على يد الكاذب لان تصديق الكاذب محال[314].

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على صحة ما أوردوه من الشرائع وأنبوا عنه من الوعد والوعيد أن الأمر والنهى والخبر من الله سبحانه يعلم بقولهم, وقد قامت الأدلة[315] على صدقهم] ومعنى ذلك أن الذي به تجب العبادة أمر ونهى وخبر. فالأمر بالامتثال, وتارة يكون ندبا وتارة يكون واجبا.والنهي للترك وتارة يكون محظورا وتارة يكون مكروهاَ. ولا تصح التفرقة بين الواجب والمندوب وبين المحظور والمكروه إلا بالعقاب والثواب. ولا تصح معرفة العقاب والثواب إلا بالخير. وكل ذلك مسموع من الرسل. وقد اخبروا أن ذلك حق وانه من الله. وقد قامت المعجزات أدلة على صدقهم في كل ما اخبروا به عن الله سبحانه, وتصديق الكاذب محال. وقد قدمنا أن صدق الرسول معلوم بدلالة المعجزة و صدق الله معلوم بدلالة العقل.

 

                   [فصل في الدليل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ]  

 ثم قال رحمه الله: [والدليل القاطع على تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ما أورده[316] من القران وتحدي به إلى المعارضة واجتهاد العرب, وهم من أهل اللغة في إسقاط ما دعا إليه, وانقطاعهم عنه واشتغالهم بغيره في تكذيبه وبذلهم للنفوس والأموال في بابه] يريد أن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر ما ظهر على يديه من الآيات هو القران لكونه متواترا وسائر الآيات آحادا و إن كان مجموعها يفيد العلم قطعاَ, ولكونه مما تحدى به وطالبهم بالإتيان بمثله وثبت عجزهم تواترا عنه, ولكونه من جنس الضرب الذي به تصول العرب فإنها قد خصت بالفصاحة في الكلام كما خص قوم موسى عليه السلام بالسحر, وقوم عيسى عليه السلام بالطب [98و]. وقد بينا وجه الإعجاز فيه في شرح الاعتقادات.

                     [فصل في الدليل على أن عاقبة أهل الإيمان الجنة]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على أن عاقبة أهل الإيمان ومن لم يخرج إلى ملة الكفر الجنة الكتاب والسنة في مواضع عدة] ومعنى ذلك انه لما اخبر الشارع وهو الصادق بان الكفار يدخلون النار ولا يخرجون منها أبدا, ووقع الإجماع على ذلك واخبر أيضا انه لا بد من طائفة من العصاة يدخلون النار ووقع الاتفاق على ذلك, ثم وردت أخبار بخروجهم من النار ظاهرة وأخبار آخر بخلودهم ليست بظاهرة ظهور تلك. فاختلف الناس هاهنا فقالت المعتزلة بتخليد من فعل الكبائر ولم يتب منها. وقال الخوارج بتخليد كل من عصا بأي نوع كان عصيانه من كبيرة أو صغيرة إذا لم يتب. وقال أهل الحق بمنع تخليده بأي نوع كان عصيانه سوى الكفر ولا يوجب الخلود عندهم سواه أعنى الكفر بإيجاب الله سبحانه. واحتج كل واحد من هذه الطوائف بحجج كلها فاسدة سوى حجج أهل الحق. ومن حجج أهل الحق ما ذكره الأستاذ من قوله تعالى: "انا لا نضيع اجر من أحسن عملا"[317] والإيمان من أحسن الأعمال إذ لا تتم الطاعة إلا به. ومنها قوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره"[318] وقوله عليه السلام: "من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان دخل الجنة"[319] يريد من لم يكن في قلبه مثقال ذرة من الكفر لأنه ضدان لا يجتمعان وقد ذكرنا أدلة كل طائفة ونقضها فيما تقدم.

                            [فصل في الدليل على صحة الإجماع]

 ثم قال رضي الله عنه: [والدليل على صحة الإجماع لزوم الشريعة في كل عصر للأمة ولو جاز اجتماعهم على خلاف الملة لم تعلم وجوه[320] الأدلة واشتبهت أحكام الشريعة وسقط معه التكليف] ومقصود الأستاذ في هذا الدليل أن كل من أنكر الإجماع من المنتمين إلى الإسلام كالنظام و متبعيه متفقون على لزوم الشريعة وتوجه التكليف على العقلاء إما بنص من الكتاب أو سنة متواترة فكأنه يقول رحمه الله: لزوم الشريعة في كل عصر مرتب على ثبوتها في كل عصر. وثبوتها بثبوت الأدلة المنصوبة على أحكامها. وتوجه التكليف مع عدم الأدلة محال. والطريق المؤدي إلى معرفة ذلك منحصر في النقل عن أهل الإجماع. فلو جاز عليهم التطابق فيما اجمعوا عليه على خلاف الشريعة مع ما هم عليه من الصلابة في الدين والقطع في غير محل القطع لجاز عليهم التطابق على إخفاء الأدلة وإظهار [98ظ]  ضد الحكم المسموع من الشارع وهذا محال عادة, فالأول مثله. وعلى الجملة الإجماع وان تشعبت طرقه فما له كلام الله وقول الرسول عليه السلام؟ فإذا رأينا العلماء مجمعين على القطع مع اتحاد وجه القطع في غير محل القطع واختلاف الخواطر والآراء علمنا ضرورة من حيث العادة أنهم لم يقطعوا إلا بنص قاطع ثبت عندهم لم ينقل إلينا إما في المسلة نفسها, وإما في الإجماع خاصة. لعل ذلك النص قوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على الضلالة"[321] ويكون متواتراً عندهم. ولم يتواتر عندنا أو قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين"[322] وعرفوهم وجه دلالته بقرينة من القرائن ولم تنتقل إلينا تلك القرينة.

               [فصل في الدليل على أن أصول الإسلام العبادات الخمس]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على أن أصول الإسلام العبادات الخمس الخبر المروي فيه على جهة الانتشار من قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"[323]] وهو كما قال هو المنتشر قد يكون المتواتر وقد يكون المستفيض.

                          [فصل في الدليل على جواز التقليد]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على جواز التقليد في أحكام الشريعة] يريد للعوام [عند اشتباه حكم الحادثة] يريد إذا لم يكن دليلها ظاهراً له [ما تقرر بأوائل العقول أن كل ما كان فيه إثباته رده وفي إيجابه قطعه[324] كان ساقطا عن[325] أصله] ومعنى ذلك أن كل أمر يودي إثباته إلى نفيه فنفيه أولى من إثباته. وكل أمر يودي إيجابه إلى سقوط إيجابه فسقوطه أولا من إيجابه. وكل أمر لا يصح نفيه إلا بإثباته فإثباته أولا من نفيه. وذلك أنا لو كلفنا العوام كلهم طلب الأدلة على الأحكام لم يمكنهم ذلك إلا بحفظ ما في كتاب الله وسنة رسوله من الأدلة على الأحكام ولا يمكنهم ذلك إلا بترك معايشهم والاشتغال بالدراسة والطلب. وقد اجري الله العادة أن لا بد من الاشتغال بقوام الجسد وانه لابد من مأكول ومشروب وتركه يودي إلى الموت أو فساد الحواس وذلك يقطعه عما كلفه. فصار ما كلفه من حيث العادة لا يتوصل إليه إلا بترك معيشته. وفي ترك معيشته هلاكه, وفي هلاكه قطعه عما كلفه. وهذا معنى قول الأستاذ رحمه الله في هذا الدليل "وتكليف الأمة بأسرها طلب الأدلة على أحكامها انقطاع عن معايشها, وفي الانقطاع عن معايشها انقطاع عن معرفتها".

                           [فصل في الدليل على وجوب الطلب]

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على وجوب السؤال [99و]  أن الأخذ بما يخطر له في أحكامه كشريعة يخترعها من نفسه, وذلك ممنوع من فعله, فوجب الرجوع إلى من يبين له أن الذي فعله أو تركه حكم لمن يطيعه ممن لزمته طاعته] وذلك انه لما جاز التقليد على الجملة وذلك فرض العامي لا فرض العالم كما قدمنا في شرح الاعتقادات فلا يخلو من أجيز له التقليد إما أن يحدث له في دينه مسلة لا يعرف ما الحكم فيها أو لا تحدث فان لم تحدث فلا يلزمه شيء, وان حدثت وجب عليه أن يسأل عنها اعلم أهل زمانه, وان لم يسله كان عاصياً. وذلك انه لا يخلو إما أن يحكم بما خطر له من الحكم من غير معرفة فيكون مشرعاً, وذلك حرام فيكون عاصياً بترك السؤال وباختراع حكم لا يشهد له اصل من كتاب أو سنة أو إجماع, أو لا يحكم فيكون عاصياً بترك السؤال وبترك ما وجب عليه إن كان من الواجبات وبتلابسه به إن كان من المحظورات. فلهذا وجب عليه أن يسأل من يبين له حكم الله فيما فعله أو تركه.

 ثم قال رحمه الله: [والدليل على وجوب طلب المجتهد فيما يريد أن يسأل عنه كالدليل على منعه من الحكم بما يريده, فوجب طلب من يخبره عن الله سبحانه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم] يريد رحمه الله انه واجب على العامي أن يسال العالم ولا يسأل العامي, إذ لا فرق بين التقليد العامي وبين حكمه بما يخطر له, فيكون عاصياً من وجهين كما ذكرنا بل من ثلاثة أوجه: بترك طلب المجتهد وتقليد العامي وبترك ما وجب عليه إن كان من الواجبات, فان حكم من قلده كلا حكم. ويعرف كون المجتهد مجتهداً على مذهب الأستاذ بالاستفاضة. وقال غيره بقول عدلين وفيه خلاف قد ذكرناه.

 ثم قال رحمه الله: [هذه مقدمة الإقرار] يريد العقيدة [ويجب عرضها على من أراد الإسلام, فإذا عرفه بدليله لزمه الإقرار به فيكون تصديقا منه على التحقيق, ومن عدم العبارة أو الإقرار لزمه الاعتقاد, ومن وجد الجميع لزمه الأمران لصحة المعاملة. واختلت أهل الحق في لزوم الإقرار على الوحدة فقال القائلون: أنه يجب لصحة الإيمان. وقال آخرون: أنه يجب لصحة المعاملة.ومن حصل له ما وصفناه لم يختلفوا في أنه مؤمن في الحكم والاسم وأنه لا يخرج بشيء يفعله أو يتركه بعده من جملة المؤمنين] يريد أن من أراد الدخول في الإسلام من أهل الكفر وكان بشروط المكلفين عرضت عليه الشهادتين وبين له أن الشهادتين تتضمن هذه المعاني, وانه لا يصح له الإقرار بالشهادتين و لا تنفعه إذا لم يعتقد هذه العقيدة أو خالف في اعتقاد واحد منها. فهذا ما فتح الله علينا به في شرح هذه العقيدة فله الحمد على ما أنعم به وصلى الله على سيد الأولين والآخرين محمد وآله.

        

 

 

 

 

 

َ   

         

 

Şerhu akîdeti Ebi İshâk el-İsferâyînî (Şehid Ali Paşa nr. 1724 vr. 1)

 

 

 

 

 

 

Şerhu akîdeti Ebi İshâk el-İsferâyînî (Şehid Ali Paşa nr. 1724 vr. 99)

 

 

 

 

        

     

                              فهرس الموضوعات

[مقدمة] 1

[فصل في معنى أهل الحق] 1

[فصل في اختلاف أهل الحق] 2

[فصل في صفة المؤمن] 4

[الباب الأول: المبادئ في الاعتقاد] 12

[فصل في حدث العالم ووجوب الصانع] 13

[فصل في نفي التشبيه] 15

التنبيه. 15

[فصل في استحالة الحد والنهاية عليه] 15

[فصل في الجوهر] 15

[فصل في إثبات الجوهر الفرد واستحالة انقسامه] 15

[فصل في تجانس الجواهر] 15

فصل [في العرض] 15

[فصل في أحكام الأعرض] 15

فصل [في الجسم] 15

[فصل في استغناء الله تعالى عن الأغيار] 15

فصل [في صفات الله] 15

[فصل في أحكام صفات الله] 15

[ فصل في عموم قدرة الله تعالى ] 15

تنبيه. 15

[فصل في عموم علم الله تعالى] 15

تنبيه. 15

[فصل في عموم إرادة الله تعالى] 15

تنبيه. 15

[فصل في توحيد الله تعالى] 15

[ فصل فيما يستحيل على الله تعالى ] 15

[ فصل في قيام الذات بنفسه ] 15

[ فصل في جواز رؤية الله تعالى ] 15

[ فصل في تنزيه الله عن الشرك ] 15

[ فصل في استحالة الآفات على الله تعالى ] 15

[ فصل في الإماتة والإعادة ] 15

[ فصل في جواز بعثة الرسل ] 15

[فصل في جواز تنزيل الكتب] 15

[فصل في "لا اعتراض ولا حجر ولا إلزام على الله تعالى"] 15

[فصل في المعجزة] 15

[فصل في عدم التكليف قبل مجيء الرسل] 15

تنبيه. 15

[فصل في وقوع بعث الرسل وتنزيل الكتب] 15

[فصل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم] 15

تنبيه. 15

[فصل في الحشر وعذاب القبر والثواب والعقاب] 15

فصل [في الميزان والصراط] 15

[فصل في إجماع الأمة] 15

[فصل في المراجعة إلى العلماء] 15

[فصل في أسماء الله تعالى] 15

[الباب الثاني: الأدلة] 15

[فصل في معنى النظر] 15

[فصل في معني الدليل] 15

[فصل في الدليل على حدث العالم ووجوب محدثه] 15

[فصل في الدليل على نفي التشبيه] 15

[فصل في الدليل على استحالة الحد والنهاية عليه] 15

[فصل في الدليل على استحالة كونه جسماً] 15

[فصل في الدليل على استحالة كونه عرضاً] 15

[فصل في الدليل على استغناء الله عن غيره] 15

[فصل في الدليل على صفات الله تعالى] 15

[فصل في الدليل على عموم صفاته] 15

[فصل في الدليل على التوحيد] 15

[فصل في الدليل على جواز رؤية الله تعالى] 15

[فصل في الدليل على استحالة الزوجة وولد عليه] 15

[فصل في الدليل على استحالة الشريك له] 15

[فصل في الدليل على نفي الآفات عليه] 15

[فصل في الدليل على قدرته على الإماتة والإعادة] 15

[فصل في الدليل على جواز بعثة الرسل وتنزيل الكتب وإقامة الحجج والثواب والعقاب] 15

[فصل في الدليل على زوال الاعتراض عليه] 15

[فصل في الدليل على استحالة وجوب الشيء عليه] 15

[فصل في الدليل على نفي الوجوب قبل الرسالة] 15

[فصل في الدليل على المعجزات] 15

[فصل في الدليل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ] 15

[فصل في الدليل على أن عاقبة أهل الإيمان الجنة] 15

[فصل في الدليل على صحة الإجماع] 15

[فصل في الدليل على أن أصول الإسلام العبادات الخمس] 15

[فصل في الدليل على جواز التقليد] 15

[فصل في الدليل على وجوب الطلب] 15

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

               عقيدة أبي إسحاق الإسفرايني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولما وقع الخلاف بين أهل الحق في صفة المؤمن, ورأيت الفتاوى والأحكام على غاية الاختلال عند السؤال, رتبت فيه أقل ما يحتاج إليه على قول الجماعة, وأتبعته ما يعطيه الاسم عنه الكافة, ليقف عليه المدعى علم الشريعة, ويزيل عن نفسه تغيير أهل الدراية ويجوز فتواه عند أهل المعرفة ويستحق الاسم الإيمان على قول من ينتسب إليهم في علم التوحيد والعقول ويلقن الصبيان قبل البلوغ فيكون مؤمنين عند الخطاب. ولو لا وجوبه علي بالشريعة لكنت لا أجمعه لهذه الطائفة مع ما غلب عليهم من الجهالة وما استشعروه لأهل التوحيد من العداوة لقصورهم عن هذه المرتبة.

                           [الباب الأول: المبادئ في الاعتقاد]

والذي لا بد منه لهذه التسمية اعتقاد حدث العالم, ثم الاعتقاد بأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى, ثم الاعتقاد بأن له محدثاً, ثم الاعتقاد بأن محدثه قديم, ثم الاعتقاد بأنه لا يشبه شيئاً من المخلوقات, وتحقيقه أنه لا يتصور في الوهم وما دونه يقبل هذه الصفة, ثم الاعتقاد باستحالة الحد والنهاية عليه, ثم الاعتقاد بأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض, ثم الاعتقاد بأنه مستغن عن الأغيار وعبر بعض أهل الخطابة عنه بأن قال: الاعتقاد لنفي الكيفية والكمية والأينية واللمية.

ثم الاعتقاد بأنه حي, عالم, قادر, مريد, سميع, بصير, متكلم له حياة و علم وقدرة وإرادة وسمع وبصر وكلام لم يزل ولا يزال موصوفاً بهذه الصفات. ولا يشبه شيء منها شيئاً من صفات المخلوقين, ولا يقال فيها أنها هو ولا غيره ولا هي هو وغيره ولا هي هو وغيره, ويستحيل أن يقال أنها تفارقه أو تجاوره أو تخالفه أو توافقه أو تحله بل هي صفات له تقوم به.

الاعتقاد بأن قدرته تعم جميع المقدورات وعلمه يعم جميع المعلومات, لم يزل كان عالماً بجميعها على أوصافها في ذواتها  وإرادته تعم جميع المرادات على أوصافها في ذواتها فلا يكون إلا ما يريد ولا يريد إلا ما يكون.

ثم الاعتقاد بأن لا إله غيره ولا خالق سواه, ثم الأعتقاد بأنه شيء واحد, وتحقيقه أنه لا يتبعض في الوهم ولا يتجزأ بالفعل وهو تفسير الأحد والصمد.

ثم الاعتقاد بأنه لا يجوز عليه شيء مما جاز على المحدثات فدل على حدوثها. ومعناه أنه لا يجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ولا المحازاة ولا المقابلة ولا المماسة ولا المجاورة, ولا قيام شيء حادث به, ولا بطلان صفة أزلية عنه, ولا يصح العدم عليه.

ثم الاعتقاد بأنه قائم بنفسه, مستغن عن مكان يقله أو جسم يحله. ليس له تحت فيكون تحته ما يسنده, ولا فوق فيكون فوقه ما يمسكه, ولا جانب فيكون إلى جانبه ما يعضده أو يزاحمه. ثم الاعتقاد بجواز الرؤية عليه مع نفي هذه الأوصاف عنه.

ثم الاعتقاد باستحالة الأزواج والأولاد والشركاء والمماثلين له. ثم الاعتقاد باستحالة الآفات عليه. ثم الاعتقاد بأنه قادر على إماتة كل حي سواه, وإعادة الأجسام بعد فنائها, وخلق أمثالها من غير قصر علي حد, وأحياء ما يعيده, ويخلقه إن شاء إذا شاء متي شاء كما شاء. ثم الاعتقاد بأنه قادر علي كل شيء يتوهم علي الإنفراد حدوثه.

ثم الاعتقاد بأنه يجوز منه بعثة الرسل, وتنزيل الكتب, وإقامة الحجج, وتعبد الخلق, والثواب, والعقاب, لا اعتراض عليه في فعله ولا حجر عليه في مقدوره ولا يستحق عليه شيء ولا يلزمه فعل. وأن الأدلة علي صدق الرسل المعجزات ولا يجوز إظهارها علي يد الكاذبين. ثم الاعتقاد بأنه لا واجب علي أحد من الخلق قبل مجيء الرسل. ومن فعل شيئا قبله لم يقطع له بثواب ولم يجزم عليه بعقاب. ثم الاعتقاد بأنه بعث الرسل وأنزل الكتب وأمر ونهى ووعد وأوعد. وما أمر به الرسل فهو حق, وما أخبروا عنه فهو صدق, ولا يجوز العدول عنه ولا الخروج منه علي ما رتبوه في الشرائع.

ثم الاعتقاد بأن محمداً صلي الله عليه وسلم رسول رب العزة, ومعجزته القرآن, ودينه الإسلام. أخبر صلي الله عليه وسلم بالحشر والنشر وعذاب القبر وثواب أهل الطاعة، وعقاب أهل المعصية, وأن من مات علي الإيمان كانت عاقبته الجنة, إما بالتوبة وإما بالشفاعة.

ثم الاعتقاد بأن ما أجمعت أمته علي صحته فهو حق، وما أجمعت علي بطلانه فهو فاسد, وأن العبادات الخمس هي أصول الإسلام, وهي الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج. الاعتقاد بأن ما أشكل عليه من أمر دينه فيما بعد فواجب عليه الرجوع إلي أعلم من عنده في دينه وأورعهم في فعله ممن بلغ مبلغ المجتهدين والمسئلة عما نزل به, والعمل بما يفتيه فيما رفع إليه.

ثم الإقرار بجميعه علي الإمكان والأمن. فهذا ما لا بد منه عند الجميع, فإذااعتقد ذلك قال أصحاب الظاهر: أنه استحق اسم الإيمان, وصار من أهل الشفاعة, كانت عاقبته الجنة. وقال أهل التحقيق: لا يكون كذلك حتى يصير اعتقاده بما وصفناه معرفة على ما رتبناه فيكون من جملة العارفين ويخرج من جملة المقلدين, وإن جاز فيه التقليد فإنما لا يجوز ذلك عند أهل التحقيق وقد اتفقوا على المنع منه, والذي يحتاج إليه في ذلك أن يعرف كل ذلك مما ذكرناه بدليل, ولكل منه بينة من الكتاب والسنة على تحقيق العقول والأدلة.

 وجميعه مستنبط من أسامي الرب جل وعز وهو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة" يريد من علمها دخل الجنة على العاقبة إما بالشفاعة وإما بالتوبة. وأوردت الأسامي علي الجمع والاختصاص في غير هذا الموضع, وأتبعتها بالدلالة ليكون كمال الإيمان باتفاق أهل التحقيق على ما وفق الله فيه.

وقد اختلفوا فيما من أجله لا يكون اعتقاده علماً من طريق التقليد, فقال قائلون إنما ذلك لعدم علمه بأن من يرجع إليه في تقليده معصوم يخطأ, وقال آخرون: أنه لا يكون كذلك لأنه على منزلة من ترد عليه الشبهة فلا يرجع إلى شيء يتعلق به في دفعها عن نفسه, ثم قالوا: أن من الله علي عبد بدفع الشبه عنه وتصفية اعتقاده وعصمته منالوساوس التي ترد عليه فيه، فذلك معرفة منه وإيمان صحيح, واعتقد في نفسه أن معتقده على ما هو به, وقطع عليه كان عالما على الحقيقة. واتفقوا على أن الذي يحقق اعتقاده معرفة دليل واحد في كل مسلة لا يحتاج فيها إلى التبحر والتمكن من دفع الأسئلة والأجوبة, فإنها إذا وردت عليه فأوقعت له الشبهة دفعها بما كان عنده من الدليل.

                                      [الباب الثاني: الأدلة]  

وأذكر لكل فصل منها دليلا على اختصاص ليكون كمال الإيمان بإجماع أهل الحق فالذي يدل علي حدوث الأجسام أنها لو كانت لم تزل موجودة لم تخل في وجودها من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو لم تزل تجتمع تارة تفترق أخرى لا إلى أول. ويستحيل أن تكون لم تزل مجتمعة, لأنها لو كانت كذلك لم تخل من أن تكون مجتمعة لأنفسها لاستحالة افتراق ما كان مجتمعا لنفسه مع وجود نفسه. ويستحيل أن تكون مجتمعة لمعنى قديم لاستحالة وجود الافتراق مع وجوده, واستحالة بطلان بعد الوصف بقدمه. ويستحيل أن تكون مجتمعة لمعنى محدث لاستحالة تعلق القديم بالمحدث. يستحيل أن تكون لم تزل مفترقة على الترتيب الذي ذكرناه في المجتمع. ويستحيل أن تكون مجتمعة مفترقة لتناقضه في الوصف والمعنى. ويستحيل أن تكون لم تزل لا مجتمعة ولا مفترقة لما فيه من إثبات الافتراق عند نفي الاجتماع, وإثبات الاجتماع عند نفي الافتراق, فيصير تحقيقه كالفصل الأول. ويزاد في بيانه أن يقال: كل شيء يجوز عليه الاجتماع والافتراق لم يتقدر وجوده في الوهم متعريا عن الوصفين. وتجمع هذه الأقسام الأربعة وتعبرعنها بأن يقال: أي وصف منها إذا كان أزليا فله موجب الأزلي, ولا يصح عدم الأزلي, ولا يجوز عليه تغير الحكم, وإذا ثبت التغير بالمشاهدة بطل أن يكون أحد تلك الأوصاف مما كان لها في الأزل. ويستحيل أن تكون لم تزل تجتمع تارة وتفتقر أخرى لا إلى أول لاستحالة تناهيها إلى آخر ما عليها من أحوال الاجتماع والافتراق, أن لو كانت لم تزل بأحد هذين الوصفين. ويكشف عنه بأن يقال: لو كانت مرات كونها مجتمعة ومفترقة من غير نهاية لم تبلغ آخر كرة في الوجود لاستحالة قطع ما لا نهاية له وتعداد ما لا غاية لأحواله. ويبين عنه باستحالة تناهي الوهم في أعداده إذا ابتدأ بآخره, وارتقى بوهمه ما أمكنه, ولو كان معدودا من الأول إليه لصح عدده من الآخر إلى الأول, وما لا يصح قطعه من أحد طرفيه بكماله لم يصح قطعه من الطرف الآخر إليه.

والدليل على حاجته إلى المحدث انه لم يخل في حدوثه من أن يكون لعينه أي لنفسه أو لغيره خصه بأحواله وهَيئاتِه وخص هيئاته وصفاته به. ويستحيل حدوثه لعينه لاستحالة تخصيص الجنس بالحال والمحل على التباين والتغاير لعينه وقد ثبت اشتراك الجنس في حقيقته وصفات العين. فدل ما ذكرناه على مقدم قدم بعض الجنس على بعضه وخصه بما فيه من أجناسه.

والدليل على قدم من قدم وأخر وخص أنه لو كان مشاركاً لها في الحدوث لشاركه في الحاجة إلى المقدم المؤخر المخصص. ولو كان بهذا الوصف إلى مخصص لاقتضى كل محدث إلى محدث قبله. ويستحيل وجود محدثات واحد قبل واحد لا إلى أول لاستحالة الجمع بين الحدوث ونفى الابتداء.

والدليل على نفي التَشبيه أن التماثل يوجب الاشتراك في جميع صفات النفس وكان إحدى صفات المحدثات الحدوث, وقد بينا فساده من قبل.

والدليل على استحالة الحد والنهاية عليه أن النهاية توجب مقدار الجزء فما فوقه, ويستحيل وجوده على مقدارٍ يصح في الوهم فوقه أو دونه إلا عن قاصد يخصه بقدره. وذلك كالفعل المحكم يصح في الوهم وقوعه على خلافه و لا يصح اختصاصه بوصفه إلا عن عالم قاصد يخصه به.

والدليل على استحالة كونه تعلى جسماً أن الجسم في وجوده يشغل الحيز والمكان ويستحيل أن يشغل الشيء الحيز والمكان المعلوم على الاختصاص مع صحة اختصاصه بغيره في الوهم إلا عن قصد. وذلك يوجب حدوث الكون أو النفس على اختصاصه بالحيز والمكان وهذا دلالة الحدوث كما بينا.

والدليل على استحالة كونه عرضاً استحالة كون العرض حياً عالماً قادراً قاصدا و قد بينا حاجة الفعل إليه في حدوثه.

والدليل على استغنائه عن غيره انه لو لم يكن مستغنياً عنه قبل الوجود لكان محتاجاً إليه في حال الحدوث, ثم يكون في وجوده رفع الحاجة التي تقدمته. وذلك دليل الحدوث ولا يكون ذلك إلا بحدوث معنى وبطلان غيره, وتحقيقه الألم واللذة.

والدليل على أن المحدِث حي استحالة تعري القائم بنفسه عن الوصف بأنه حي أو ميت أو موات, ولو كان ميتاً أو مواتاً لاستحال أن يكون مدركاً ويستحيل وجود الفعل ممن يستحيل منه الإدراك.

والدليل على كونه قادرا استحالة وجود الفعل ممن ليس بقادر عليه. والدليل على كونه عالماً مريداً استحالة ترتيب الفعل في تركيب الجمادات والحيوانات من غير وجود عالم مريد. والدليل على كونه سميعا وبصيرا استحالة وجود حي متعر عن الوصف بما يدرك به المسموع والمرئي والآفة المانعة منه, ويستحيل تخصيصه من هذين الوصفين بالآفة لأنها تمنع عن المدركات ويَقتضي ذلك وجوده مانعاً وممنوعاً وذلك دليل الحدوث. والدليل على كونه متكلماً استحالة لزوم الخطاب ووجود الأمر والنهي عمن لا يكون متكلماً.

والدليل على أن له حياة وقدرة وإرادة وعلماً وسمعاً وبصراً وكلاماً استحالة إثبات الموجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات ولزومها عند وجودها له.

والدليل على انه لم يزل موصوفاً أن نفيها على تخاصيصها يوجب إثبات أضدادها وفي وجودها منع من الوصف له بضدها بعدها لاستحالة العدم على من وصف بالقدم.

الدليل على أنها ليست ولا شيء منها يشبه شيئا من صفات المخلوقين أن التشبيه يوجب الاشتراك في جميع صفات النفس على الوجوب والجواز, ومن احد أوصاف المخلوقين لأنفسها حدوثها ويستحيل ذلك في صفاته لما قدمناه من الدلالة على قدمه.

والدليل على استحالة القول بأنها هو استحالة القول بان الحياة والقدرة والعلم والإرادة حي قادر عالم مريد. والدليل على استحالة القول بأنها أغيار له استحالة عدمها مع وجوده وذلك وصف لازم في جميع أغياره, وهذا بعينه دليل على استحالة مفارقتها به. والدليل على استحالة القول بالمجاورة أنها تقتضي المماسة والمحاذات والمقارنة في المكان والحيز, وكل ذلك من صفات الأجسام.

والدليل على استحالة القول بأنها تحله استحالة كونها مجاورة لما قامت به, ولا يصح الحلول بغير هذا الوصف.والدليل على استحالة القول بأنها تخالفه أن أهل الخطابة لا يطلقون هذه اللفظة إلا على المتغايرات, وقد بينا فساده من قبل. والدليل على استحالة القول بأنها توافقه ما في هذه اللفظة من إيهام المماثلة.

والدليل على أن قدرته تعم جميع المقدورات وإرادته تعم جميع المرادات وعلمه يعم جميع المعلومات أن التخصيص في كل صفة منها ببعض متعلقاتها يوجب تناهيه في صفت وذلك دليل الحدوث وقد قدمنا الدلالة على قدمها.

والدليل على التوحيد أن الاثنين لا يخلوان من صحة المخالفة أو تعذر المنازعة فان صحت المخالفة كان الممنوع من المراد موصوفاً بالقهر وان تعذرت المنازعة وصف كل واحد منهما بالنقص والعجز وذلك يمنع من الإلهية فيهما جميعا. والدليل على انه شيء واحد كالدليل على انه اله واحد.

والدليل على استحالة الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والمحاذات والمقابلة والمماسة والمجاورة أن الوصف له بأحد هذه المعاني بعد الوصف له بضده يوجب حدوث معنى فيه, ثم يستحيل تعريه عنه وعن ضده ولم يجز تقدمه على جنسه.

والدليل على استحالة قيام شيء حادث به أن حدوثه فيه يوجب نفى ضد له قبله وهذا كالأول في فساده. والدليل على استحالة بطلان الوصف الأزلي عنه انه استحق الوصف بالبقاء في كل حال صحت الإشارة إليه, ويستحيل عدمه لوجود ضده كما يستحيل وجود ضده معه.

والدليل على انه قائم بنفسه أن خلاف وصفه به يوجب احد أوصاف ثلاثة: إما أن يكون كالقائم بما لا يقال انه نفسه, فيستحيل كونه حياً عالماً قادراً أو تعلقه في وجوده وبقدرة فيكون مخلوقا أو تعلقه بقدرة من يحدث له معنى يجانسه أو يخالفه, وذلك يوجب مقارنة الفعل له.

والدليل على جواز الرؤية عليه أن استحالتها توجب عدمه. والدليل على استحال الزوجة والولد أن جميعه لا يصح إلا مع المباشرة, ولا تصح المباشرة إلا من ذي حد و الحد يدل على الحدوث. والدليل على استحالة الشريك له أن الشركة لا تكون إلا في أشياء تختص كل واحد من الشريكين ببعضها يتبين ذلك عند التمييز, ولا شيء يملك إلا و جميعه لله سبحانه.

والدليل على نفي الآفات عنه أنها تمنع من المدركات, وذلك يقتضي في وجوده مانعا و ممنوعا, وهو دليل الحدوث.

والدليل على انه قادر على إماتة كل حي سواه انه خلق الحياة, وقدرته على الشيء قدرة على ضده, وهذا بعينه دليل على صحة الحياة بعد الموت.

والدليل على صحة إفناء الأجسام أن البقاء فعل له فيها, فإذا لم يفعله وجب عدمها. والدليل على إعادة الأجسام أن العدم بعد الوجود يوجب وصف الموجود بما كان عليه قبل الوجود, ولم يمنع ذلك الحدوث, فكذلك بعد الوجود لم يزل على اختصاصه بالقدم بقاؤه على الوصف الذي كان عليه عند الاختراع, ثم من لم تزل قدرته كان قادراً على إيجاده في كل حال كان معدوما قبله.

والدليل على خلق الأجسام من غير نهاية ولا قصر على حد استحالة تناهي قدرة القديم وصحة توهم الحدوث في المثل.

والدليل على إحياء ما يعيده ويخلقه أن المحل لا يخلو من احد الضدين على البدل ولا يصح وجود وصف يقوم بحسم ليس له ضد, فإذا وجد فيه احد الضدين بقدرة القادر التي تصلح للضدين صح الثاني منه. على وصفه في القدرة على كل ما يتوهم حدوثه استحالة تناهيه في قدرته والمنع منه يوجبه.

والدليل على جواز بعثة الرسل وتنزيل الكتب و إقامة الحج وتعبد الخلق والثواب والعقاب أن جميعه مما يتوهم حدوثه, وسلب القدرة عليه يوجب التناهي في الوصف.

والدليل على زوال الاعتراض عنه فيما يفعله أن ذلك لا يتوهم إلا فيمن يصح عليه الألم باللوم وفيه إيجابه, يستحيل ذلك في القديم سبحانه.

والدليل على استحالة وجوب الشيء عليه صحة الترك في القدرة ولو كان وصفه الوجوب لكان عدمه في تلك الحال يوجب الحدوث, ولا يصح وصف إله به ولا بالقدرة عليه.

والدليل على أن المعجزات تختص بالصادق ما تقرر في الوهم من صحة التفرقة بين الصادق والكاذب من جهة الدليل وفي إظهارها على يد الكاذب إفساد الأدلة ونقض ما تقرر من جهة التفرقة بين الصادق والكاذب.

والدليل على نفي الوجوب قبل الرسالة صحة كون إله موجبا للشيء تعبدا به أو مانعاَ منه استغناء, وليس في العقل ما يوجب تقديم احد الأمرين.

 والدليل على صحة ما كان معهم من المعجزات أنهم أظهروا أشياء ادعوا بها صدقهم, واجتهد أعداؤهم في معارضتهم فلم يتأت لهم ذلك. والدليل على صحة ما أوردوه من الشرائع وأنبوا عنه من الوعد والوعيد أن الأمر والنهى والخبر من الله سبحانه يعلم بقولهم, وقد قامت الأدلة على صدقهم.

والدليل القاطع على تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة ما أورده من القران وتحدي به إلى المعارضة واجتهاد العرب, وهم من أهل اللغة في إسقاط ما دعا إليه, وانقطاعهم عنه واشتغالهم بغيره في تكذيبه وبذلهم للنفوس والأموال في بابه.

والدليل على أن عاقبة أهل الإيمان ومن لم يخرج إلى ملة الكفر الجنة الكتاب والسنة في مواضع عدة.

والدليل على صحة الإجماع لزوم الشريعة في كل عصر للأمة ولو جاز اجتماعهم على خلاف الملة لم تعلم وجوه الأدلة واشتبهت أحكام الشريعة وسقط معه التكليف.

والدليل على أن أصول الإسلام العبادات الخمس الخبر المروي فيه على جهة الانتشار من قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس".

والدليل على جواز التقليد في أحكام الشريعة عند اشتباه حكم الحادثة ما تقرر بأوائل العقول أن كل ما كان فيه إثباته رده وفي إيجابه قطعه كان ساقطا عن أصله. وتكليف الأمة بأسرها طلب الأدلة على أحكامها انقطاع عن معايشها, وفي الانقطاع عن معايشها انقطاع عن معرفتها.

والدليل على وجوب السؤال أن الأخذ بما يخطر له في أحكامه كشريعة يخترعها من نفسه, وذلك ممنوع من فعله, فوجب الرجوع إلى من يبين له أن الذي فعله أو تركه حكم لمن يطيعه ممن لزمته طاعته.

والدليل على وجوب طلب المجتهد فيما يريد أن يسأل عنه كالدليل على منعه من الحكم بما يريده, فوجب طلب من يخبره عن الله سبحانه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه مقدمة الإقرار ويجب عرضها على من أراد الإسلام, فإذا عرفه بدليله لزمه الإقرار به فيكون تصديقا منه على التحقيق, ومن عدم العبارة أو الإقرار لزمه الاعتقاد, ومن وجد الجميع لزمه الأمران لصحة المعاملة. واختلت أهل الحق في لزوم الإقرار على الوحدة فقال القائلون: أنه يجب لصحة الإيمان. وقال آخرون: أنه يجب لصحة المعاملة.ومن حصل له ما وصفناه لم يختلفوا في أنه مؤمن في الحكم والاسم وأنه لا يخرج بشيء يفعله أو يتركه بعده من جملة المؤمنين.

 

                         المصادر والمراجع

 

- الأعلام

خير الدين الزيركلي, قاهرة 1954.

 

- تبيين كذب المفتري

أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله, ابن عساكر, بيروت 1984.

 

- سنن أبي داود

أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني, بيروت بدون تاريخ (دار الفكر)

 

- سنن ابن ماجة

أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة, بيروت بدون تاريخ (دار الفكر)

 

- سنن الترمذي

أبو عيسى محمد بن عيسى, بيروت بدون تاريخ (دار إحياء التراث العربي)

 

- سنن الدارمي

أبو محمد عبد الله عبد الرحمن بن الفضل الدارمي, بدوت بدون تاريخ (دار إحياء التراث العربي)

 

- سنن النسائي

أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي, حلب 1986.

 

- سير أعلام النبلاء

محمد بن أحمد الذهبي, بيروت 1983.

 

- صحيح البخاري

أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري, بيروت 1981.

 

- صحيح مسلم

أبو الحسين مسلم بن حجاج, بيروت بدون تاريخ (دار إحياء التراث العربي)

 

-طبقات الشافية الكبرى

تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي, بدون مكان 1966.

 

- عقيدة أبي إسحاق الإسفرايني

أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني, مكتبة سليمانية قسم حسن حسنو باشا 1160.

 

-كشف الخفى

أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي العجلوني, قاهرة 1351.

 

- كشف الظنون

عن أسامي الكتب والفنون,تأليف كاتب جلبي, استنبول 1941.

 

- مجمع الزوائد

نور الدين على بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي, بيروت 1994.

 

- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة

محمد بن على الشوكاني, قاهرة 1960.  

 

- المعجم الأوسط

أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني, رياض 1995.

 

- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم

 محمد فؤاد عبد الباقي, قاهرة 2001.

 

- مسند أحمد بن حنبل

أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل, مصر 1313.

 

- هدية العارفين

اسماعيل باشا البغدادي, استنبول 1951.

 

- وفيات الأعيان

وأنباء أبناء الزمان, تأليف أحمد بن محمد بن إبراهيم, ابن خلكان, بيروت 1978.

 

 

 



[1] سورة المائدة 5/ 3.

[2] أنظر إلى الأحاديث بهذا المعنى: سنن أبي داود, سنة, 1؛ سنن الترمذي, كتاب الإيمان, 18؛ سنن ابن ماجة, فتن, 17؛ سنن الدارمي, سير 75؛ مسند أحمد بن حنبل 2/332؛ 3/145.

[3] سنن أبي داود, سنة, 16.

[4] الطبراني, المعجم الأوسط, 7/ 325, بلفظ "لم يكن شرك منذ أهبط آدم من السماء إلى الأرض إلا كان بدؤه التكذيب بالقدر وما أشركت أمة إلا بتكذيب القدر وإنكم ستبتلون به أيتها الأمة فإذا لقيتموهم فكونوا أنتم سائلين ولا تمكنوهم من الملة فيدخلوا عليكم الشبهات" وقال الهيثمي في هذا الحديث" فيه سلم بن سالم ضعفه جمهور الأئمة"(أنظر مجمع الزوائد للهيثمي 7/415).

[5] بلفظ "إن الله في كل ليلة جمعة مائة ألف عتيق من النار إلا رجلين فإنهما يدخلان في أمتي وليسا منهم وإن الله لا يعتقهما فيمن عتق منهم من أهل الكبائر في طبقاتهم مصفدين مع عبدة الأوثان مبغضي أبي بكر وعمر وليس هم داخلين في الإسلام, وإنما هم يهود هذه الأمة, هم قال: الا لعنة الله على مبغضي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي" رواه الخطيب عن أنس مرفوعاً وقال: موضوع كذب. ( أنظراالفوائد المجموعة في الأخرار الموضوعة للشوكاني, 338)

[6] سنن الترمذي, قدر, 13؛ سنن ابن ماجة, مقدمة, 9 بهذا اللفظ "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية".

[7]سنن ابن ماجة, مقدمة, 12 بلفظ "الخوارج كلاب النار" ومسند أحمد بن حنبل, 4/355, 382.

[8] سورة الشورى 42/ 11.

[9] أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الكتان البصري المتوفى سنة 240/ 854.

[10] القاضي, محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر, أبو بكر الباقلاني, المتكلم, الفقيه, من كبار علماء الأشعرية, له تصانيف كثيرة, توفي سنة 403/1013.

[11] إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهرجان, أبو إسحاق الإسفراييني المتوفى سنة 418/1027.

[12] على بن إسماعيل بن إسحاق, أبو الحسن الأشعري, مؤسس مذهب الأشعرية, توفي سنة 324/936. قيل: له نحو ثلاثمئة كتاب.

[13] عجلوني, كشف الخفى, 1/65. وقال في حكمه: رواه البيحقي بسند منقطع عن ابن عباس بلفظ"واختلاف أصحابي لكم رحمة" وأخرجه الطبراني والديلمي وفيه ضعف.

[14] صحيح البخاري, اعتصام,20,21؛ صحيح مسلم, أقضية, 15؛ سنن الترمذي, الأحكام,2؛ سنن أبي داود, أقضية, 2؛ سنن النسائي, أحكام,2؛قضاة,3؛ سنن ابن ماجة, أحكام,3؛ مسند أحمد بن حنبل, 4/198, 204 بلفظ "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

[15] سنن ابن ماجة, مقدمة,9 بلفظ "الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان".

[16]سورة يوسف12/ 17.

[17]سورة  العنكبوت 29/ 58 ؛سورة فاطر 30/ 7 ؛سورة غافر 40/ 58 ؛سورة الشورى 42/ 22 ؛سورة محمد 47/ 2.

[18]سورة  الإسراء 17/ 61.

[19] سورة النساء 4/ 48.

[20] سورة النساء 4/ 31.

[21] صحيح مسلم, طهارة, 14 بلفظ "الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر".

[22] سورة طه 20/ 121.

[23]سورة  النساء 4/ 93.

[24]سورة  النساء 4/ 14.

[25]سورة  المدثر 74/ 43-42.

[26] صحيح البخاري, حدود,1, 6؛ صحيح مسلم, إيمان, 100, 104؛ سنن أبي داود, سنة,15؛ سنن الترمذي, إيمان, 11؛ سنن النسائي, قسامة,49؛ قطع السارق,1؛ سنن ابن ماجة, فتن,3؛ مسند أحمد بن حنبل, 2/243, 317, 376, 479؛ 3/346؛ 4/352؛ 6/139.

[27]سورة  المائدة 5/ 38.

[28] سورة الحجرات 49/ 9.

[29] صحيح البخاري, لباس,23؛ صحيح مسلم, إيمان,154؛ مسند أحمد بن حنبل, 5/166.

[30]سورة  النساء 4/ 93.

[31] سورة النساء 4/ 14 .

[32]سورة  المدثر 74/ 43.

[33] سورة المدثر 74/ 46.

[34] صحيح البخاري, حدود,1, 6؛ صحيح مسلم, إيمان, 100, 104؛ سنن أبي داود, سنة,15؛ سنن الترمذي, إيمان, 11؛ سنن النسائي, قسامة,49؛ قطع السارق,1؛ سنن ابن ماجة, فتن,3؛ مسند أحمد بن حنبل, 2/243, 317, 376, 479؛ 3/346؛ 4/352؛ 6/139.

[35] ش: طبقتان.

[36] صحيح البخاري, زكاة,1؛ صحيح مسلم,إيمان,32؛ سنن أبي داود, زكاة, 1؛ سنن الترمذي,إيمان,1؛ سنن النسائي, زكاة, 3؛ سنن ابن ماجة, فتن,1؛ مسند أحمد بن حنبل, 1/11؛ سنن الدارمي,سير,10.

[37] سورة الحجرات 49/ 14.

[38] سورة المنافقون 63/ 1.

[39]سورة  النساء 4/ 145.

[40] ش : المعرفة.

[41] ش : فتياه.

[42] ش : الدراية.

[43] ش: على قول من ينسب إليه علم التوحيد.

[44]ع : عند.

[45] صحيح البخاري, جنائز,78؛ قدر,2؛ صحيح مسلم,قدر,22؛ سنن أبي داود,سنة,18؛ سنن الترمذي, قدر,5؛ مسند أحمد بن حنبل,2/233

 [46]سنن أبي داود,صلاة,26؛ مسند أحمد بن حنبل 2/180, 187.

[47] سورة التوبة 9/ 122.

[48] بمفظ " إذ ظهرت البدع لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم, فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد" رواه ابن عساكر عن معاذ (أنظر إلى كنذ العمال للهندي 1/316)

[49] سنن ترمزي,فضائل القرآن,2 بلفظ "لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة فيها آية هي سيدة آي القرآن هي آية الكرسي".

[50]سورة  الفاتحة 1/ 1.

[51] ش : اسم.

[52]من كبار الفلاسفة اليونانية القديمة, توفي سنة قبل الميلاد 322.  

[53] أبو نصر محمد بن محمد بن ترهان بن أزلوغ الفارابي التركي المتوفى سنة 339/950, الملقب بفيلسوف الإسلام.

[54] أبو علي الحسين بن عبد الله بن علي بن سينا, المتوفى سنة 428/1037, الفيلسوف والطبيب.

[55] ش: ثلاث.

[56] ش: يغفل.

[57] سورة يس 36/ 39.

[58] ش: هو.

[59] ش: هو.

[60] ش: + عليه.

[61] ش: +إله.

[62] هشام بن الحكم, أبو محمد, المتوفى نحو سنة 190/805, رئيس الإمامية في وقته.

[63] ش: قوله.

[64] محمد بن كرام بن أراك بن هزابة بن البر السجزي, المتوفى سنة 255/ 869, مؤسس مذهب الكرامية.

[65] من مؤلفات محمد بن كرام مؤسس الكرامية.

[66] سورة شورى 42, 11.

[67] إمام الحرمين أبو المعالي, ركن الدين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني التائي النيسابوري المتوفى سنة 478/1085, الفقيق, المتكلم, الأصولي.

[68]إبراهيم بن سيار بن هانئي البصري, أبو إسحاق النظام, متكلم, أصولي, من كبار علماء المعتزلة, توفي سنة 231/845.

[69] إمام الحرمين أبو المعالي, ركن الدين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني.

[70] ش: الانصال.

[71] عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني, المتوفى سنة 319/ 931, من علماء المعتزلة.

[72] محمد بن عبد الوهاب بن سلام, أبو علي الجبائي, المتوفى سنة 303/ 916, من رؤساء المعتزلة في البصري. 

[73]عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي, المتوفى سنة 321/ 933, من أئمة المعتزلة.   

[74] ش: كونه.

[75] ش: الخثونة.

[76] ش: بينة.

[77] الحسين بن محمد بن عبد الله النجار الرازي, أبو عبد الله, المتوفى نحو سنة 220/ 835, رأس الفرقة النجارية من المعتزلة.

[78] ش: والباري.

[79] ش: فهو.

[80] ش: فهو.

[81] سورة البقرة 2/ 255؛سورة  آل عمران 3/ 2.

[82] سورة البقرة 2, 29؛سورة الأنعام 6/ 139؛ سورة الحديد 57/ 3.

[83] سورة التحريم 66/ 3.

[84]سورة  المائدة 5/ 120؛سورة  هود 11/ 4؛سورة الروم 30/ 50؛سورة الشورى 42/ 9؛ سورة الحديد 57/ 2؛ سورة التغابن 64/ 1؛سورة الملك 67/ 1.

[85]سورة  البقرة 2/ 185.

[86] سورة النساء 4/ 138.

[87]سورة  النساء 4/ 164.

[88] جهم بن صفوان, أبو محرز, المتوفى سنة 128/ 745, مؤسس الجهمية.

[89] محمد بن الهزيل بن عبد الله بن المكحول, أبو الهزيل العلاف, من علماء المعتزلة, توفي سنة 235/850.

[90] ش: أسولتهم.

[91] ش:أسولة.

[92] محمد بن مسلم, أبو الحسين الصالحي, من علماء المعتزلة في البصري.

[93] ش: - في.

[94] ش: الرخو.

[95] ش: - ذواتها.

[96] ع : لا.

[97] بشر بن المعتمر, أبو سهل البغدادي, فقيه, متكلم, من علماء المعتزلة, توفي سنة 210/825.

[98] ثمامة ابن الأشرس النميري, أبو معن, المتوفى سنة 213/828, من علماء المعتزلة.

[99] ش: فيخرقه.

[100] ش: الواحدة.

[101] ش: يفرقة.

[102] ش: الإنس.

[103] سورة الصفات 37/ 96.

[104] سورة الأنفال 8/ 17.

[105] سورة الرعد 13/ 16؛ سورة الزمر 39/ 62.

[106] محمد بن عيسى الملقب ببرغوث, من عمماء النجارية, وتنسب إليه فرقة البرغوثية.

[107] أحمد بن يحيى بن إسحاق, أبو الحسين الراوندي أو ابن الراوندي, المتوفى سنة 298,910.

[108]محمد بن هارون, أبو عيسى الوراق, المتوفى سنة 247/ 861, من علماء المعتزلة.

[109] ش: شريح. هو أحمد بن عمر بن سريج, أبو العباس, متكلم, فقيه الشافعي, المتوفى سنة 306/918.

[110]ضرار بن عمر, أبو عمر الغطفاني الكوفي, المتوفى سنة 200/ 815, من علماء المعتزلة.  

[111]أبو عمر حفص الفرد, المتوفى سنة 204/ 820, من علماء المعتزلة.  

[112] عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني, المتوفى سنة 319/ 931, من علماء المعتزلة.

[113] ش: لغدمت.

[114] ش: ليس.

[115] ش: مخيص.

[116] ش: أولا.

[117] ش: +ما.

[118] ش: مختاراً.

[119] ش: يضادف.

[120] ش: تتعلق.

[121] ش: +أو.

[122] جهم بن صفوان أبو محرز المتوفى سنة 128/ 845. هو مؤسس مذهب الجهمية.

[123] ش: الله.

[124] سورة البقرة 2, 185.

[125] سورة فاطر 35, 3.

[126] ع : في العقل.

[127] ش: و.

[128] عباد بن سليمان الصيمري, أبو سهل, المتوفى سنة 250/ 864, من علماء المعتزلة في البصري.

[129] المدارك العقول ينسب إلى إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.

[130] ش: فهو.

[131] ش: خلاف.

[132] ش: و.

[133] هذه العبارة ليس بموجود في "ع"

[134] هذه العبارة ليس بموجود في "ع"

[135] ش: ليس له فوق فيكون فوقه ما يمسكه, ولا تحت فيكون تحته ما يسنده.

[136]سورة  القيامة 75/ 23.

[137] هذا الحديث يوجد بلفظ "كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر, لا تضامنوا في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا"  صحيح البخاري, مواقيت الصلاة, 15, 25؛ التوحيد, 24؛ صحيح مسلم, المساجد ومواضع الصلاة, 212؛ سنن أبي داود, السنة, 20؛ سنن الترمذي, صفة الجنة, 16؛ سنن ابن ماجة,الإيمان, 13؛ مسند أحمد بن حنبل, 4/360.

[138] سورة الأعراف 7/ 143.

[139] ش: جواز.

[140] ش:- المماثلين

[141] ش: كان.

[142]ش: إنه.

[143] ع : - بعد فيائها.

[144] ش:المعنيين.

[145] سورة المدثر74/ 2.

[146] سورة إبراهيم 14/ 4.

[147] سورة الزمر 39/ 6.

[148] ش:الدلالة.

[149]سورة  الأنعام 6, 28.

[150] أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الإسفهاني النيسابوري, المتوفى سنة 406/ 1015, المتكلم الأشعري الفقيه الشافعي.

[151] ش:ليس.

[152] ش:قبلهم.

[153] مسند أحمد بن حنبل 5/ 265, بلفظ " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً, الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا"

[154]سورة  النازعات 79/ 37.

[155] سورة النازعات 79/ 41.

[156] ش:- فهو

[157]ش: العيسوية.

[158]سورة  الصف 61/ 6.

[159] ش:+ كان

[160]سورة  القيامة 75/ 17.

[161]سورة  الحاقة 69/ 40؛ التكوير 81/ 19.

[162]سورة  البقرة 2/ 179.

[163]سورة  العنكبوت 29/ 30.

[164] سورة هود 11/ 13.

[165] ش: عليه.

[166] سورة المدثر 74/ 24.

[167] سورة البقرة 2/ 23.

[168] سورة الروم 30/ 2.

[169]سورة  القمر 54/ 45.

[170]سورة  الفتح 48/ 25.

[171] ش: اسما

[172] سورة التوبة 9/ 6.

[173] ش: شيئان.

[174] سورة الأعراف 7/ 144.

[175]سورة  الكهف 18/ 101.

[176]سورة  آل عمران 3/ 19.

[177]سورة  المائدة 5/ 3.

[178]سورة  يونس 10/ 90.

[179]سورة  الحجرات 49/ 14.

 [180] سورة الواقعة 56/ 47-48.

[181] سورة الواقعة 56/49- 50.

[182] سورة غافر 40/ 46.

[183]سورة  النازعات 79/ 39.

[184]سورة  غافر 40/ 46.

[185] سورة النازعات 79/ 41.

[186] سورة آل عمران 3/ 133.

[187] سنن أبي داود, السنة, 23؛ سنن الترمذي, صفة القيامة والرقاق والورع, 11؛ سنن ابن ماجة, الذهد, 37؛ مسند أحمد بن حنبل 4/ 213.

[188] ش:+في وقت.

[189] صحيح البخاري, الإيمان, 1؛ صحيح مسلم, الإيمان, 21؛ سنن الترمذي, الإيمان, 3؛ سنن النسائي, الإيمان, 13؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 26.

[190] ش:- فيما بعد.

[191] ش: واجب.

[192] ش:+ فيه.

[193] سورة النحل 16/ 106.

[194] ش: وإذا.

[195] ع: - أصحاب.

[196] ع: - لا

[197] ع: تنبيه.

[198] سورة الروم 30/ 28.

[199] سورة الرعد 13/ 16.

[200] سورة الشورى 42/ 11.

[201] سورة البقرة 2/ 255.

[202] سورة الملك 67/ 14

[203] سورة الإنسان 76/ 30.

[204] سورة الأنبياء 21/ 22.

[205]سورة  المؤمنون 23/ 19.

[206] سورة يس 36/ 78.

[207] سورة الأنبياء 21/ 22

[208] صحيح البخاري, دعوات, 68؛ صحيح مسلم, ذكر, 5؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 314.

[209] ش: سأذكر.

[210] ع: - قد.

[211] ع: +من

[212] ع: الشبهة.

[213] ش: - وتصفية اعتقاده.

[214] ش: عن.

[215] ع: الذي.

[216] ع: يرد.

[217] ع: - فيه.

[218] ع: يجمع.

[219] ع: يعبر.

[220] ش: دليلا.

[221] ش: محال.

[222]ش: تعقل.

[223] ش: هو.

[224] ش: اختصت.

[225] ش: اختصت.

[226] ش: اختصت.

[227] هذه عبارة الشارح.

[228] ش: حقيقة صفات العين.

[229]  ع : واحدا.

[230] ش: - إلى.

[231] ش: أحد.

[232] ش: - من.

[233] ش: - من.

[234] ش: - عليه.

[235] ع: - ذلك.

[236] ش: يجوز.

[237] ش: خصه.

[238] ش: نقض.

[239] سورة القمر 54/ 14.

[240] ش: - المكان.

[241]سورة الأنعام 6/ 18, 61.

[242] ش: موجود.

[243] ش: حادث.

[244]سورة الأنعام 6/ 18, 61.

[245] سورة الحديد 57/ 4.

[246] سورة الزخرف 43/ 84.

[247] سورة طه 20/ 5.

[248] ش: راجع.

[249] سورة طه 20/ 5.

[250]صحيح البخاري, أبواب التهجد, 14؛ صحيح مسلم, المساجد, 168؛ سنن أبي داود, الصلاة, 311؛ سنن الترمذي, الدعوات, 79؛ سنن ابن ماجة, إقامة الصلاة, 182؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 264؛ سنن الدارمي, الصلاة, 168.

[251] سورة الأحزاب 33/ 58.

[252] ش: - عنه.

[253] ش: استدلال.

[254] ش: موجود.

[255] ع: و.

[256] ع: عجائب.

[257] ع: حيوان.

[258] ع: +حي.

[259] ع: +قادر.

[260] ع: منع.

[261] ع:- عن المدركات.

[262] ع: وذلك يقتضي مانعا وممنوعا.

[263] سورة النساء 4/ 134.

[264] ع: أنه متكلم.

[265] ش: - والنهي.

[266] ع: ممن.

[267] ع: - من.

[268] ع: - من.

[269] ع: صفات.

[270] ع: لنفسها.

[271] ش: - والعلم.

[272] ش: - مريد.

[273] هذا الدليل في "ع" بعبارة "والدليل على استحالة القول بأن الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام حي قادر عالم مريد سميع بصير متكلم".

[274] ش: الواحد.

[275] ش: - مع وجوده.

[276] ش: - المحاذات.

[277] هذه العبارة ليس بموجود في "ش".

[278] هذه العبارة ليس بموجود في "ش".

[279] ع: - صفة.

[280] ع: متعلقاته.

[281] ع: جهته.

[282] ع: المناسبة.

[283] ش: - واحد منها.

[284] ش: بالنقض.

[285] ش: التثنية.

[286] ربما هذه العبارة ناقصة.

[287] ش: نقضه.

[288] ش: نقضه.

[289] ش: النقض.

[290] هذه العبارة مكررة في "ش".

[291] ش: وصف الأزل.

[292] ش: - قادرا.

[293] ش: يقدره.

[294] هذه الكلمة مكررة في "ش".

[295] ش: ويحيل.

[296] ش: انتفى.

[297] ع : يبين.

[298]ش: بعده.

[299] ش: +جواز.

[300] ش: عدمه.

 [301]سورة يس 36/ 79.

[302] ش: صحت الإشارة إليه.

[303] ع: حصر.

[304] ع: - على حد.

[305] ع: - احد.

[306] ع: متضادين.

[307] ع:- على البدل.

[308]ش: بالصدق

[309] ع: أيد الكاذبين.

[310] ش: صحة.

[311] ع: - به.

[312] ع: - تقديم.

[313] ع: - ذلك.

[314] هذا الدليل ليس بموجود في "أ".

[315] ع: الدلالة.

[316] ع: أوردوه.

[317] سورة الكهف 18/ 30.

[318]سورة الزلزال 99/ 7.

[319] سنن الترمذي, البر والصلة, 61؛ سنن ابن ماجة, الإيمان, 9؛ مسند أحمد بن حنبل 1/ 416. بلفظ " لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"

[320] ع: يعلم وجود.

[321] سنن ابن ماجة, فتن, 8.

[322] سورة النساء 4/ 115.

[323] صحيح البخاري, الإيمان, 1؛ صحيح مسلم, الإيمان, 21؛ سنن الترمذي, الإيمان, 3؛ سنن النسائي, الإيمان, 13؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 26

[324] ع: - ممن.

[325] ع: من.

Bu blogdaki popüler yayınlar

TWİTTER'DA DEZENFEKTÖR, 'SAHTE HABER' VE ETKİ KAMPANYALARI

Yazının Kaynağı:tıkla   İçindekiler SAHTE HESAPLAR bibliyografya Notlar TWİTTER'DA DEZENFEKTÖR, 'SAHTE HABER' VE ETKİ KAMPANYALARI İçindekiler Seçim Çekirdek Haritası Seçim Çevre Haritası Seçim Sonrası Haritası Rusya'nın En Tanınmış Trol Çiftliğinden Sahte Hesaplar .... 33 Twitter'da Dezenformasyon Kampanyaları: Kronotoplar......... 34 #NODAPL #Wiki Sızıntıları #RuhPişirme #SuriyeAldatmaca #SethZengin YÖNETİCİ ÖZETİ Bu çalışma, 2016 seçim kampanyası sırasında ve sonrasında sahte haberlerin Twitter'da nasıl yayıldığına dair bugüne kadar yapılmış en büyük analizlerden biridir. Bir sosyal medya istihbarat firması olan Graphika'nın araçlarını ve haritalama yöntemlerini kullanarak, 600'den fazla sahte ve komplo haber kaynağına bağlanan 700.000 Twitter hesabından 10 milyondan fazla tweet'i inceliyoruz. En önemlisi, sahte haber ekosisteminin Kasım 2016'dan bu yana nasıl geliştiğini ölçmemize izin vererek, seçimden önce ve sonra sahte ve komplo haberl

FİRARİ GİBİ SEVİYORUM SENİ

  FİRARİ Sana çirkin dediler, düşmanı oldum güzelin,  Sana kâfir dediler, diş biledim Hakk'a bile. Topladın saçtığı altınları yüzlerce elin,  Kahpelendin de garaz bağladın ahlâka bile... Sana çirkin demedim ben, sana kâfir demedim,  Bence dinin gibi küfrün de mukaddesti senin. Yaşadın beş sene kalbimde, misafir demedim,  Bu firar aklına nerden, ne zaman esti senin? Zülfünün yay gibi kuvvetli çelik tellerine  Takılan gönlüm asırlarca peşinden gidecek. Sen bir âhu gibi dağdan dağa kaçsan da yine  Seni aşkım canavarlar gibi takip edecek!.. Faruk Nafiz Çamlıbel SEVİYORUM SENİ  Seviyorum seni ekmeği tuza batırıp yer gibi  geceleyin ateşler içinde uyanarak ağzımı dayayıp musluğa su içer gibi,  ağır posta paketini, neyin nesi belirsiz, telâşlı, sevinçli, kuşkulu açar gibi,  seviyorum seni denizi ilk defa uçakla geçer gibi  İstanbul'da yumuşacık kararırken ortalık,  içimde kımıldanan bir şeyler gibi, seviyorum seni.  'Yaşıyoruz çok şükür' der gibi.  Nazım Hikmet  

YEZİDİLİĞİN YOKEDİLMESİ ÜZERİNE BİLİMSEL SAHTEKÂRLIK

  Yezidiliği yoketmek için yapılan sinsi uygulama… Yezidilik yerine EZİDİLİK kullanılarak,   bir kelime değil br topluluk   yok edilmeye çalışılıyor. Ortadoğuda geneli Şafii Kürtler arasında   Yezidiler   bir ayrıcalık gösterirken adlarının   “Ezidi” olarak değişimi   -mesnetsiz uydurmalar ile-   bir topluluk tarihinden koparılmak isteniyor. Lawrensin “Kürtleri Türklerden   koparmak için bir yüzyıl gerekir dediği gibi.” Yezidiler içinde   bir elli sene yeter gibi. Çünkü Yezidiler kapalı toplumdan yeni yeni açılım gösteriyorlar. En son İŞİD in terör faaliyetleri ile Yezidiler ağır yara aldılar. Birde bu hain plan ile 20 sene sonraki yeni nesil tarihinden kopacak ve istenilen hedef ne ise [?]  o olacaktır.   YÖK tezlerinde bile son yıllarda     Yezidilik, dipnotlarda   varken, temel metinlerde   Ezidilik   olarak yazılması ilmi ve araştırma kurallarına uygun değilken o tezler nasıl ilmi kurullardan geçmiş hayret ediyorum… İlk çıkışında İslami bir yapıya sahip iken, kapalı bir to